• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الظلم ممارسةً وتَحَمُّلاً ودولةً لها أركان

عبد الكريم مطيع الحمداوي

الظلم ممارسةً وتَحَمُّلاً ودولةً لها أركان

قال رسول الله (ص) فيما رواه البخاري ومسلم وأحمد: (الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )، ذلك لأنّ محكمة الحقوق في الآخرة يقام فيها العدل على أكمل وجه، فيقتص للمظلومين جناً وإنساً وعجماوات من ظالميهم سادة كانوا أوعامة.
وإذا كان عدوان الشاة على الشاة يستدعي القصاص يومئذ ( لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ )- مسلم وأحمد والترمذي-، ومنع امرأة هرتها الماء والطعام يدخلها النار (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ حَشَاشِ الْأَرْضِ)- البخاري ومسلم-، وقطع شجرة نافعة لغير مصلحة يستوجب تصويب رأس القاطع في النار(قاطِعُ السِّدْرِ يُصَوِّبُ اللهُ رَأْسَهُ في النار) - رواه البيهقي في الكبرى وحسنه الألباني -، فما بالك بمن يظلم أخاه الإنسان، مؤمناً كان أو غير مؤمن، من أي ملة أو دين أو مذهب؟ بل ما بالك بمن يظلم أولياء الله تعالى من الدعاة والصالحين والآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر؟
إنّ ميزان الآخرة منضبط على معيار واحد يميز العدل من الظلم (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (غافر/17)، عدل ينجى وظلم يركس في الجحيم. لذلك ورد الأمر بالعدل والتحذير من الظلم قرآنا وسنة في سياقات كثيرة، وبأشد الصيغ دقة ووضوحاً، يقول تعالى:
 (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام/82).
(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) (الصافات/22-23).
 (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/90).
 ويقول فيما يرويه عنه نبيه (ص): (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا )- مسلم وأحمد والترمذي-.
 ويقول (ص)في حجة الوداع: (...فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ) - البخاري-.
إنّ التحريم الصارم للظلم مبعثه العدل الإلهي المطلق والرحمة الربانية الشاملة، لأنّ الظلم مصدر كل رذيلة ومنبع كل شر، وما الفساد إلا بعض نتائجه (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة/205)، وما البغي إلا بعض ثماره (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُم) (يونس/23).
إنّ الظلم لغة مشتق من أصلين صحيحين ومتداخلين، أحدهما خلاف الضياء ومنه الظلمة والظلام، والثاني وضع الشيء في غير موضعه كحال الشرك الذي هو في حقيقته جعل المخلوق في منزلة الخالق ولذلك كان أعظم الظلم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (لقمان/13)، كما يعني التصرف في ملك الغير تعدياً، ولذلك كان الظلم مستحيلا ًفي حق الله تعالى لأنّ الكون ملكه يتصرف فيه كما يشاء، كما يؤدي معنى التعسف وتجاوز الحدود، ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة/229)، (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه) (الطلاق/1)، ومعنى التغيير بالزيادة أو التبديل أو النقص بغير وجه حق، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون ) (البقرة/59). وقوله عز وجل: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) (الكهف/33).

وقد استعمل لفظ " الظلم" في كلام الشارع لثلاثة أصناف تدور كلها بين الكفر والكبائر هي:
1. ظلم بين المرء وبين الله تعالى وأعظمه الكفر والشرك والنفاق (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/13).
2. (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين) (البقرة/258).
3. ظلم بين المرء وبين الناس (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى/42).
4. (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانا) (الإسراء/33).
5. ظلم بين المرء وبين نفسه (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) (فاطر/32). 
6. (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (التوبة/36).

والأصل في هذه الأصناف كلها ظلم النفس، إذ كل ظالم في حقيقة الأمر ظالم لنفسه وكل محسن محسن إلى نفسه (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت/46)، (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء/7)، لأنّ عاقبة تصرفات المرء تعود عليه جزاءً وفاقاً في الآخرة (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (النساء/123) (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل/118).
إنّ الإنسان يولد على الفطرة سويا، وكما يلتقم ثدي أمه تلقائياً يرضعها حالماً يخرج إلى الحياة يهتدي إلى الصواب وتمييز الحق من الباطل، إلا أنّ عوامل كثيرة تتدخل فتعصف بسلامة الفطرة وصفائها، عوامل من تربية سقيمة أو أهواء جامحة أو مصالح موهومة، فيميل المرء بذلك إلى الظلم والعدوان.
شعوره بالنقص أو الضعة يدفعه للتعالي والتجبر والعدوان والظلم، وحبه الشهوات متعاً رخيصة وغرائز مخزية يصرفه عن الحق ويميل به عن الرفق والعدل، وحب الرئاسة وصولاً إليها أو تمسكاً بها يورطه في الجرأة على الدماء والأموال والأعراض، والخوف من السلطان يحمله على متابعته وارتكاب ما يرضيه، والطمع في عطائه يؤدي به إلى الخضوع المطلق والاستخذاء والركون وخذلان الحق وأهله.

وأساس كل هذا الشرك ظاهراً وخفياً، وعلاجه التوحيد الخالص، لأنّه يحرر صاحبه من قيود المادة والهوى والخوف والرهبة والطمع، ويلزمه العدل في التصرفات والحق في المعاملات، لأنّ مراقبة الله تعالى والثقة به واليقين بمعيته ولقائه يملأ القلب قوةً على تجنب الظلم وعزماً على مواجهة أهله، ومناعةً ضد غرائز التسلط والبغي والعدوان والتعلق بالجاه والمال، وقدرةً على المساهمة في إقامة شهادة الحق والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإباءً للانظلام الذي هو تحمل الظلم خنوعاً وخضوعاً؛ ذلك أنّ للمؤمن في مواجهة الباطل طريقين لا غير: مواجهته أو الهجرة عنه إنّ عجز عن المواجهة وخشي الإضرار بدينه، وهو ما يشرحه قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا) (النساء/97)؛ ولا يستثني رب العزة من هذه المسؤولية إلا العجزة (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء/98).
إنّ تحمل الظلم والرضوخ له يعد حالة أخرى تجعل المظلوم في وضع الظالم بتنازله عن كل ما يراه ضاراً به من أمر عقيدته وعبادته، فيزداد الظالمون بهذا الخنوع استكباراً في الأرض واستعباداً للخلق وإفساداً للدين. وتكثيراً للأتباع والأعوان، وتنشأ بذلك طبقة مستغلة فاسدة ظالمة، مما يؤدي إلى التقاتل والتصارع والفتنة. لذلك كان لمتحملي الظلم نصيبٌ من المسؤولية ومحاسبةٌ بين يدي الله تعالى، ولن ينجيهم جوابهم بأنّهم كانوا مستضعفين في الأرض إلا أن تشملهم من الله رحمة (قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء/97).
إنّ الإنظلام - وهو حال المظلومين القادرين على المواجهة ودفع الظلم عنهم أو الهجرة - يكون في الدين والنفس والمال والكرامة والعرض والرأي، وكل ذلك مذموم يأباه اللبيب الكريم ممارسةً فيه أو ممارسةً في غيره، لأنّه غبن وهوان ومذلة، والمؤمن ينبغي أن تتوفر فيه قوة الانتصار للحق غير ذليل ولا مهين ولا عاجز (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى/39)، ولأنّ العلاقة الطبيعية عقلاً وشرعاً بين الناس ينبغي ألا تخرج عن دائرتي العدل أو الفضل.
العدل هو إعطاء الحقوق محاسبة على التمام والسواء (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء/58)، ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى/40).
أما الفضل فهو السماحة في التقاضي، والتكارم في بذل الحقوق واستيفائها (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُم) (البقرة/237).
إنّ من عدل الله عز وجل أن جعل الناس سواسية، وجعل لهم مرجعاً شرعياً يضبط تصرفاتهم ويمنع بعضهم من بعض، كما أنّ النظام الاجتماعي ليس فيه ضعف أو قوة، ولكن فيه استعلاء من طرف فئة باغية تفرض استكبارها وجبروتها وهيمنتها، واستضعاف وخنوع وقابلية للتبعية العمياء من طرف كتل بشرية مستخفة العقول فارغه (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (الزخرف/54).
وقد وصف تعالى حال هؤلاء المستخفة عقولهم يوم القيامة بقوله:
 (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) (البقرة/166).
 (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة167).
لذلك كان من الظلم حقيقة لا مجازا أن تسكت عنه أو ترضى به أو تتحمله ولو كرهاً إن استطعت الهجرة عنه.
إنّ الظلم سلوك خاطئ منحرف، ومرآة تكشف عمق الفساد في نفسية صاحبه وسوء مخبره، لذلك اشتد غضب الله تعالى عليه وتوعده بالعقاب الأليم فقال:
 (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف/29).
 (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (الزمر/24).

ولعل معترضاً يقول: هذا عقاب الظالم فما بال الجندي وهو مأمور والساكت المستضعف وهو مغمور؟ والجواب أنّ ميزان العدل لا يفرق بين السيد والمسود والتابع والمتبوع والفاعل والمعين على الفعل، فكلهم شركاء يجمعهم المصير الواحد (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف/38). لأنّ الظالم لابد له من قوة تعينه على الظلم وجند يحمونه عند ممارسته، وهتافين يشجعونه عليه، وراضين رغباً ورهباً أو استخذاءً واستضعافاً؛ وقد ورد في الأساطير أنّ ملكاً هم بقتل جميع أفراد شعبه فقال له أحد مستشاريه: " إنّك لا تسمى ملكاً إلا بوجودهم وإن تخلصت منهم فقدت ملكك، والأجدر أن تحتفظ بهم أذلة خانعين".

إنّ دولة الظلم لابد لها من أركان، وأركانها الظالم وحاشيته وأعوانه والراضون بحكمه والمستخذون بين يديه؛ فإن فقدت هذه الأركان لم تقم للظلم دولة ولا للظالمين صولة.
إنّ للظلم دوائر كثيرة بعضها أخص من بعض، ودرجات متباينة بعضها أخطر من بعض؛ وكلما كانت الدائرة أقرب إلى التأثير في مجال الاعتقاد وما يرتبط به من تصورات، كان الأمر أدعى إلى الاهتمام به وبخطورة نتائجه، وكلما كان الظلم المرتكب أكثر شمولاً وأعمق تأثيراً كانت تداعياته أكثر ضرراً.
إنّ أكبر دوائر الظلم هي الشرك بالله تعالى (إنّ الشرك لظلم عظيم) (لقمان/13)؛ لأنّه كذب شنيع وافتراء عظيم على الله عز وجل، ذلك أنّ في الإشراك قلباً للحقائق ووضعاً للأشياء في غير موضعها، وهذا أصل الظلم وحقيقته، فمن أشرك بالله أو عدل به غيره أو اتخذ له سبحانه ندا فقد ارتكب الظلم الأعظم وخلع ربقة الإسلام من عنقه. وإذا كان أعظم ظلم للنفس هو الإشراك بالله تعالى، فإنّ له علاجاً ناجعاً هو التعجيل بالتوبة وتصحيح العقيدة والاستغفار (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء/17) (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر/ 53).
إلا أنّ هناك ظلماً أقل درجة من الشرك الذي يتخلص منه المرء بمجرد التوبة النصوح والتوحيد الخالص؛ هذا الظلم هو ظلم العباد. وهو وإن كان أقل درجة من الشرك، فإنّ التوبة منه معلقة برد المظالم لأهلها، مما يجعل أمر التحلل منه أشد عسراً، قال عليه الصلاة والسلام :"مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ"- البخاري -.
هذا الظلم يتمثل في صور شتى ويتشخص في أصناف من الناس كثيرة، منهم من أخذهم الله بعذاب الدنيا والآخرة ممن ذكرهم الوحي قرآناً وسنةً، ومنهم من يعاصرنا ومنهم من يأتي بعدنا:
 منهم الحكام المتألهون، والأغنياء المستكبرون والتجار المطففون والفساق السابقون والمعاصرون من قوم عاد ولوط وصالح.
 ومنهم ظالم أبويه بإهمالهم أو الإساءة إليهم، وظالم أرحامه بالتقصير في حقوقهم أو التخلي عنهم أو الإضرار بهم.
 ومنهم ظالم زوجته في عرضها بالنظر إلى غيرها بما لا يجوز، وظالمة زوجها في عرضه بالنظر إلى غيره بما لا يحل.
 ومنهم الظالم لقومه أو قبيلته أو عرقه بالتعصب لهم وإعانتهم على الباطل كما قال الرسول (ص) إذ سئل ما العصبية؟ : (أن تعين قومك على الظلم)- المعجم الكبير-.
 ومنهم من يظلم المسلمين عامة بعدم النصح لهم، أو عدم نصرتهم أو بخيانتهم والتنكر لهم.
 ومنهم من يظلم الإنسانية عامة بالتقصير في واجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 ومنهم الدول المسلمة الظالمة التي لا تقيم العدل فيسلط الله تعالى عليها عدوها ولو كان مشركاً، كما هو حال أمة موسى (عليه السلام) التي سلط عليها بختنصر الوثني، والمسيحيين إذ ظلموا فسلط عليهم جبابرة عبدة أصنام أذلوهم وغيروا دينهم، وحال دول المسلمين الظالمة حالياً وقد هزمت أمام مجوس الهند في باكستان، وصهاينة بني إسرائيل في فلسطين، وعباد الوثن في السودان وعباد الصليب في العراق..، قال تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ) (الأنبياء/11)، (َكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً) (الطلاق/8).
 كما أنّ منهم الذين يخذلون الدعاة إلى الله تعالى والمجاهدين في سبيله والمعتقلين والمهاجرين والشهداء، بالتخلي عنهم وإهمال أسرهم وذرياتهم وعدم الدفاع عنهم؛ فإن بلغ الأمر إلى أكل لحومهم والشماتة بما أصابهم أو أصاب ذرياتهم، أو القيام بالتجسس عليهم وقذفهم، أو السعي لإطالة محنتهم، كان ذلك أقرب إلى أعظم الظلم الذي هو محاربة الله ورسوله بمحاربة أوليائه ودعاة دينه، وهذا ما عبر عنه الرسول (ص) في الحديث القدسي الذي رواه عن رب العزة قال: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) – البخاري-.
ذلك أنّ هؤلاء الدعاة المخذولين من قبل إخوانهم، هم في حقيقة الأمر قد اختاروا الله تعالى على ما سواه، ووالوه وعادوا أعداءه وانقطعوا لخدمة دينه، فهم أولياء له عز وجل (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس/62). ولئن اختارهم الله في الدنيا للبلاء فعسى أن يكون لهم في الآخرة حسن الجزاء.
ولئن فرح المخلفون لما أصاب الدعاة الصادقين، فكفاهم عقوبة لظلمهم إن لم يهتدوا إلى التوبة قوله تعالى: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (البقرة/270)، (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (الحج /71) (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (غافر/18).
إنّ الحقيقة الغائبة عن أولئك الخاذلين أنّ ابتلاء الدعاة الصادقين يتضمن في واقع الأمر ابتلاء آخر للمعافين والشامتين الخاذلين، وكشفاً لحقيقة أمرهم، أما العافية والمعافاة والنصر فمن الله سبحانه وتعالى وحده فقط. وما دفعهم إلى ما ارتكبوه من إثم وظلم في حق الدعاة المبتلين، إلا اختلال في مقاييسهم الشرعية، وضبابية في نظرتهم الدنيوية، وانعدام المروءة في نفوسهم الدنيئة، وعسى أن تكون مواقفهم الظالمة هذه رحمة بالدعوة وتطهيراً لصف الدعاة: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْب) (آل عمران/179).
ونظراً لخطورة الظلم وشدة غضب الله تعالى منه، وما ينتظر صاحبه من العذاب، قص القرآن علينا من أخبار الظالمين وعاقبة أمرهم في الدنيا والآخرة ما هو كفيل بإيقاظ الهمم وتطهير النفوس فقال عز وجل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِين) (القصص/8)، (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص/40)، (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (هود/67).
كما أنّ الرسول الله (ص) كان يحذر المؤمنين من الظلم ويحضهم على اتقائه، ويقول: (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) -البخاري-، (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ ) - البخاري-، (ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ)- الترمذي-. (دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ) - أحمد-.
وكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من دعوة المظلوم جهراً أمام المسلمين تعليماً لهم بقوله عند الخروج للسفر والعودة منه: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ) - النسائي-.
وعندما شكا إليه صحابي سوء تصرف فتيان لديه، فيما روته عائشة قائلا: (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ (ص): يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَك، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ، قَالَ فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ...) (الأنبياء/47)، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلَاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ - الترمذي وأحمد-
كما أنّه (ص) أعطى من نفسه القدوة، فأبرأ ذمته من حقوق الخلق، في مرضه قبل موته فيما رواه البخاري، إذ خرج متكئا على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب (ع)، حتى جلس على المنبر، وكان مما خطب:  (أما بعد أيها الناس، إنه قد دنا مني خلوف من بين أظهركم، ولن تروني في هذا المقام فيكم... فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالا، فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء من قبلي، فإنها ليست من شأني...).
على أنّ من رحمة الله تعالى ولطفه بعباده، أن جعل في الآخرة أيضا - وهي دار جزاء ولا عمل - مجالاً لتصالح المؤمنين وتسامحهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما رسول الله (ص) جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله تبارك وتعالى للطالب: فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب فليحمل من أوزاري، قال وفاضت عينا رسول الله (ص) بالبكاء ثم قال: إنّ ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب فإني قد عفوت عنه، قال الله عز وجل: فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة. فقال رسول الله (ص)عند ذلك: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإنّ الله تعالى يصلح بين المسلمين- المستدرك على الصحيحين.

ارسال التعليق

Top