تثير فكرة وضرورة الدستور جدلاً فلسفياً وقانونياً يتصل بالبحث عن عمق الفكرة في التاريخ الإنساني وفي سياق الدلالات والتحوّلات التي اكتسبتها عبر العصور، ورغم أنّ معنى الدستور يرتبط بكلّ حُقبة تاريخية ويعبّر عنها كما أشار الفقيه اليوناني "صولون" الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، حين سُئِل عن أفضل الدساتير، فأجاب: "قل لي لأي شعب سيُعطى، وفي أي زمن".
وفي العهد اليوناني كانت مساهمات أرسطو (384-322 ق.م.) تتجه تماماً نحو الفكرة الحديثة عن معنى الدستور والتي شهدتها أوروبا في القرن الثامن عشر بعد عصر التنوير وولادة الدولة القومية، إذ إنّ فكرة الدستور كانت ومازالت شديدة الارتباط بتجديد فلسفة نظام الدولة ونوعية السلطات وطبيعة العلاقات بينها، وكذلك بموضوعية حقوق الأفراد (المواطنين) وحدود حرّياتهم وطبيعة علاقتهم بالسلطة وفيما بينهم.
ومع المقولة التي تفيد بأنّ حقوق الأفراد سابقة على وجود الدولة، وبالتالي على القوانين التي تنظّم العلاقات بين السلطة والأفراد، فإنّ الحقوق الفردية، ومنها الحقّ في الحرّية، يعدّ حقّاً طبيعياً يكتسبه الفرد عند الولادة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أُمّهاتهم أحراراً"، وأنّ الشرعية تتحقّق من خلال ثنائية السيادة والحرّية، وعبر هذه الثنائية تكتسب الدساتير امتياز النزوع نحو المحافظة على الحرّيات العامّة، والحرّية الفردية بشكل خاص، وصيانة تلك الحرّيات من كلّ نقض أو تجاوز، مع ضمان الربط بين الحرّية والمسؤولية، ذلك الضمان الذي يؤسّس على الاعتراف بحقّ الفرد في العيش حرّاً، مقابل الالتزام بالواجب الذي يؤدِّي إلى احترام حرّية الآخرين والمجتمع والامتثال للقانون، لذلك ليس غريباً أن ينص إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789م على أنّ الحرّية هي (إباحة كلّ عمل لا يضر أحداً).
وعملياً، فإنّ منظومة الدستور تؤطر اليوم في شكل الدولة وفي إطار مجموعة من القواعد المكتوبة التي شهدت تطوّراً متواصلاً منذ نشوء الدولة القومية الحديثة في أوروبا، وتطوّر حاجتها إلى بناء مجموعة من القواعد التي تنظّم شكل الدولة ونظام الحكم وطبيعة العلاقة بين السلطات واختصاصاتها، وفي إطار ذلك تنظم وتحديد العلاقات بين السلطة والأفراد، وتؤطر حقوق الأفراد وحرّياتهم وحماية تلك الحرّيات، ولذلك فإنّ الدساتير تعدّل أو تنشأ دساتير جديدة استجابة للوعي البشري ولتطوّر العلاقات السياسية الاقتصادية ولتأكيد حدود العلاقة بين السلطات داخل الدولة، وبين الأفراد، وكذلك لضمان حرّية الأفراد وحقّهم في المشاركة والرأي.
ويبقى الجدل محتدماً بين مَن يقول بحقّ الدولة في السيادة، واعتبارها السلطة العليا المحتكرة التي تعلو على إرادة الأفراد، وبين مبدأ أنّ حرّية الإنسان سابقة على وجود التنظيم الاجتماعي وعلى وجود الدولة. وعملياً، فإنّ مفهوم الرقابة الوقائية جاء معبّراً عن الحلول الوسطى للنزاع المفترض بين سيادة الدولة وسيادة الشعب في إطار مبررات الدفاع عن النظام العام والقيم السائدة. ومع ذلك فقد كانت الرقابة (أداة سياسية قوية مكّنت من طمس التطوّر المسالم للرأي العام ومن إضعاف وخنق الفضائح)، تلك الرقابة التي تنطلق تحت سقف الدستور ومضمونه في المحافظة على أمن المجتمع وحرمة المقدسات، وحرّية الأفراد، إلّا أنّ ذلك التنازع استمر قائماً وعادت الدساتير تدمج بين المقدمات النظرية العامّة والمواد الإجرائية المحددة، وتفاوتت صلاحية "سلطة الدستور" بين صيانة الحقّ العام والدفاع عن الحرّيات الأساسية، ولذا فقد جاءت القوانين الضابطة لحرّية الرأي والتعبير، وفي إطار حقّ إنشاء المؤسسات الإعلامية وممارسة عملها، منسجمة ومتوافقة مع جوهر الدستور في الإطار العام، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الحياة السياسية وبضمنها الحياة الدستورية بدأت بالتفاعل والتأثر بظاهرة "الجماعة الضاغطة" و"تطوّر الرأي العام" و"تعزيز الشفافية"، وانعكس ذلك بالمزيد من المرونة في صياغة الدساتير من أجل استيعاب تلك التأثيرات والتعامل معها.
أوّلاً- حرّية الإعلام في الدساتير العربية:
يتفاوت وجود نصوص تحديد حرّية الرأي والتعبير في الوطن العربي في مضمون الدساتير العربية والقرارات المنفردة التي تعاملت مع موضوعات مثل الترخيص بإصدار الصحف أو فرض قيود الرقابة، أو المتعلقة بتأسيس المحطات الإذاعية أو التلفزيونية، كذلك العقوبات المفروضة على جرائم النشر وغيرها، وهو تفاوت يخضع لاعتبارات عديدة في مقدمتها الموقف من الحرّيات العامّة وإطار التعامل معها.
وعملياً، فقد ورثت الأنظمة السياسية في الوطن العربي من الحُقبة الاستعمارية في القرن الماضي طبيعة الموقف من موضوعة حرّية الرأي والتعبير، ويبدو ذلك واضحاً في التباين بين القوانين المتعلقة بهذا الموضوع، وبعضها سابق حتى على صدور الدساتير، وبين مضمون الدساتير ذاتها، فالقوانين السابقة كانت تنحصر في إجراءات محددة تتعلّق بحقّ امتلاك الوسيلة الإعلامية والتصرُّف بمضمونها. أمّا الدساتير فإنّها وضعت الإطار الفكري والقانوني الذي يحدِّد مسار الحرّية الفردية في إطار الحرّيات العامّة. ففي المشرق العربي، كانت قوانين السلطة العثمانية تحصر موضوعة إصدار مطبوعة صحافية وطريقة الحصول على (الرخصة) في المرجع المختص، ويتفاوت الأمر بين (التصريح) كما في لبنان والأردن، وبين طلب (الرخصة) كما في مصر، ذلك أنّ إصدار مطبوعة صحافية يتطلّب الحصول على رخصة من المرجع المختص الذي ينبغي أن يكون على علم ومعرفة بهُويّة طالب الترخيص كاملة، وقد اتضح ذلك جلياً في العهدين العثماني ثمّ الانتداب، وفي مصر في عهد الخديوي توفيق (1881م) إذ لم تحدِّد عملياً أي قيود أو شروط خاصّة (مالية أو علمية) في طالب الترخيص، وفعلياً حين تخلت السلطة العثمانية عن الشروط الخاصّة، فإنّها فرضت واقعاً آخر يقود إلى امتلاك حقّ (فحص) الميول السياسية واعتبارها شرط (الولاء) لمنح الترخيص أو حجبه.
وتستند تأثيرات القوانين العثمانية في الوطن العربي وقوانين حكومات الاستعمار والانتداب لاحقاً على صياغة القوانين الضابطة لحرّية الرأي والمعتقد والحقّ في التعبير، بالإضافة إلى صيغة وحدود المشاركة بالسلطة السياسية، مع وجود تأثير واضح للأفكار الأساسية التي حملتها الثورة الفرنسية (كلّ إنسان يستطيع أن يطبع بحرّية، 14 آب/ أغسطس 1789م)، والمواثيق الدولية التي صدرت لاحقاً وأبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948م، والذي جاء في مادّته الأولى (يولد جميع الناس متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخفاء) تلك المادّة التي كانت فاتحة لثلاثين مادّة لاحقة تحيط بمعنى الحقوق الأساسية للإنسان، ومن أبرزها ما يتصل بحرّية الرأي والتعبير (المادة 19) والتي تنص (لكلّ شخص الحقّ في حرّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرّية اعتناق الآراء دون أي تدخّل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية).
وقد جاء تأثير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المواثيق العربية واضحاً ومباشراً، فقد نصّ الميثاق العربي لحقوق الإنسان في المادّة الثانية والثلاثين.. (يضمن هذا الميثاق الحقّ في الإعلام وحرّية الرأي والتعبير، وكذلك الحقّ في استقاء الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة، ودونما اعتبار للحدود الجغرافية) ومع تماثل المعاني والمفردات بين الإعلان العالمي والميثاق العربي، إلّا أنّ الأخير أضاف إلى المادّة ذاتها فقرة يمكن أن تفسر أنّها تمثل إطاراً شاملاً محدّداً ومؤطراً لأسلوب ودلالة التمتع بحقّ حرّية الرأي والتعبير، حين أشار إلى أنّ تلك الحقوق تمارس (في إطار المقومات الأساسية للمجتمع، ولا تخضع إلّا للقيود التي تفرضها باحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم أو حماية الأمن الوطني أو النظام العام أو المصلحة العامّة أو الآداب العامّة).
وهنا يكمن (الشيطان في التفاصيل) فقد مهّد ذلك النص ما يمكن أن يعدّ تحفظاً على حقّ الحرّية وحرّية التعبير، وذلك أنّه أعطى السلطة، حتى ولو لم ينص على ذلك الحقّ في تقرير معنى (المقومات الأساسية للمجتمع) كذلك القيود التي يفرضها باحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم أو حماية الأمن الوطني أو النظام العام... إلخ، من دون أن يشير إلى الجهة التي تحدّد معايير تلك المفاهيم وتملك الحقّ والأهلية لحمايتها والدفاع عنها، وعملياً فقد انتهى الأمر إلى أنّ الحكومات هي التي تقرّر حدود تلك الحرمات، فهي المدعي العام والقاضي ومحامي الدفاع، وقد تجلّى ذلك عندما أصدر وزراء الإعلام العرب وثيقة مبادئ تنظيم البث والاستقبال الفضائي والإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية التي حدد البند الأوّل منها المبادئ الأساسية للوثيقة.. (تهدف هذه الوثيقة إلى تنظيم البث وإعادته واستقباله في المنطقة العربية وكفالة احترام الحقّ في التعبير عن الرأي وانتشار الثقافة وتفعيل الحوار الثقافي من خلال البث الثقافي).
ثانياً- الاستيلاء على الإعلام:
لا شك أنّ هناك حزمة من الشرور يمكن أن ترافق الاستخدام السيِّئ لحرّية الإعلام، ولكن العهود والمواثيق ليست هي وحدها المسؤولة عن بناء خطّ الدفاع عن تلك المخاطر، كما إنّ القوانين وحدها لا تكفي لأن تردع المجرم عن ارتكاب فعلته، ولكن التوافق والالتزام نحو الحرّية، باعتبارها ضرورة، وحدها التي تمنح القائمين على فعالية الإعلام القدرة من أجل صياغة الحرّية بمعناها الأخلاقي والمادّي، ومن هنا فإنّ إدراك معنى وجود كمية (الحرّية) وحرّية التعبير بشكل خاص في ثنايا القوانين يعطي الجواب على أهمية انتهاج سلوك إنساني متوازن بين خطين: الالتزام بالحرّية والتعبير على الحرّية ذاتها، وبذلك تتطابق معطيات حرّية التعبير مع بداهة الواقع، وتتماثل مع الأعراف والمواثيق الضامنة لها، ومن دون ذلك لا يمكن أن نفهم لماذا تحرص الدساتير في كلّ العالم، والمواثيق المتعلِّقة بحقوق الإنسان وحرّية الإعلام على استدراج أساليب حماية الأداء والدفاع عن حقّ الوصول إلى المعلومة والتأكيد على أنّ تأمين وممارسة حرّية الرأي والفكر والتعبير والحقّ في الاتّصال والحصول على المعلومات الصحيحة ونشرها وتداولها باعتبارها حقوقاً أصيلة وثابتة ومعترفاً بها وغير قابلة للمساومة أو الإنقاص، ومن ذلك التصدي لمفهوم الرقابة السابقة أو اللاحقة وكلّ أنواعها المعلنة أو المستترة.
ولذا يمكن أن نعدّ مفهوم حرّية التعبير سابقاً حتى على القوانين والأعراف التي توصّلت لها البشرية عبر أحكام العقل والفكر والحاجة لبناء نظام إنساني متكامل الشروط في التكوين والأداء، وهو تماماً ما يعبر عنه بالحقوق الطبيعية غير القابلة للنقض، والتي تجسدت لاحقاً في مفاهيم عدة لعلّ أبرزها نظرية العقد الاجتماعي المدعمة بشرعية الحرّية في حدود التطابق أو التعارض بين سلطة الدولة وسلطة الفرد وتحت مظلة وحماية القانون.
ويظهر جلياً أنّ التعارض بين الحرّية والقيد الاجتماعي على الحرّية يشكل معضلة يصعب الإحاطة بها، إذ في الوقت الذي تحرص فيه القوانين والأنظمة المختصة بقضايا الحرّيات الأساسية ومنها حرّية التعبير، وبضمن ذلك تفاصيل تنظيم وسائل الإعلام وطبيعة ممارستها لعملها، فإنّها تحرص على تحديد الغاية من الحرّية، وحرّية التعبير، واعتبارها من المقدس الذي يجب الامتثال لقيمه وضوابطه، إلّا أنّ التقييد القانوني لتلك الحرّية يخرج في الغالب عن دائرة تنظيم تلك الحرّية، رغم كلّ الادّعاء بأنّ تلك القيود، هي ضوابط أخلاقية وقيمية اتفق عليها المجتمع لضمان عدم الاستخدام السلبي للقيمة الأساسية لحرّية التعبير لأغراض حماية المجتمع والأفراد.
وعملياً لا تقف المعادلة عند حدود نقطة التوازن المفترضة، فقد عاد الأمر خارج السيطرة، وأضحت القوانين المنظمة لممارسة حرّية الرأي قيداً ثقيلاً على تلك الحرّية، ولما كانت كلّ القوانين مؤسّسة على مبدأ الجزاء والعقوبة، وعلى تشديد الجزاء والعقوبة مع الاستمرار في المخالفة والتعارض، فإنّ الأثر الذي تركته القوانين المنظمة لحرّية الإعلام والتعبير يوحي بالميل لصالح العقوبة أكثر من الميل إلى تعزيز وحماية الحرّية. لذلك فإنّ مواثيق الشرف، وهي غالباً ما تتصل بحرّية الكلمة والتعبير والحقوق المرافقة لذلك، تذهب إلى تأكيد تلك الحرّية وتعزيزها ونفي الحقّ المقابل، مهما كان مصدره ودوافعه في تقييد تلك الحرّية وتحجيم أثرها، ولذلك أيضاً مُدّت مسؤولية حرّية الإعلام إلى مسؤولية ممارسة (الرقابة الشعبية) على مؤسّسات المجتمع، وهي صلاحية توازي ما يملكه القانون أساساً، وأضحت الصحافة (مثلاً) وفق تلك المواثيق (وسيلة للرقابة الشعبية من خلال التعبير عن الرأي والنقد ونشر الأخبار والمعلومات في إطار من الدستور والقانون مع احترام المقومات الأساسية للجميع وحقوق وحرّيات الآخرين).
ومن أجل أن لا تقوّض تلك الحرّية سلطة القانون والدستور، استدرك مشروع توحيد قوانين الصحافة بالإشارة في المادّة (14) بأن (يلتزم الصحافي في ما ينشره، باحترام الدستور والقانون مراعياً في كلّ أعماله مقتضيات الشرف والأمانة والصدق وآداب مهنة الصحافة وتقاليدها، بما يحفظ للمجتمع مثله وقيمة وبما لا ينتهك حقّاً من حقوق المواطنين أو يمس إحدى حرّياته).
ثالثاً- على مسافة واحدة:
ليس جديداً الإشارة إلى أنّ كلّ الدساتير تبدأ بالصياغات اللفظية الرصينة المعبرة عن منظومة القيم الحامية والراعية لمقومات بناء الأوطان وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث التي تمثل المقومات الأساسية للسلطة في علاقتها مع الشعب، وحفلت الدساتير التي تم صياغتها مطلع القرن الماضي للدول الوطنية التي أسست أو نالت استقلالها، بالمقولات الرصينة عن حرّية الرأي والتعبير، وتتطابق في أغلبها مع ما جاء في مواثيق حقوق الإنسان والتشريعات الأُممية الضامنة لحقّ المعرفة والتعليم وإبداء الرأي... إلخ.
وعلى مسافة واحدة تبدأ تفاصيل التعبير عن تلك الحرّية ومدى ممارستها والضوابط العامّة والتفصيلية التي تشكّل حدود المسموح به، والإجراءات التي (يحقّ) للسلطة ممارستها لحماية سيادة الوطن وحرّية المواطن، تذهب أغلب الدساتير العربية في إطار تنظيم الحرّيات العامّة وحرّية الرأي والتعبير وضمانات حقوق الإنسان إلى إحالة موضوع تلك الحرّيات إلى القوانين الوضعية والتشريعات النافذة، وفي إطار فتح الباب أمام الاجتهاد والتوسع في الغالب لمنح القضاء سلطة إصدار التشريعات التي تمكّن (الحكومة) من ممارسة صلاحيات استثنائية لمواجهة تداعيات الاستخدام (غير المنضبط) لمعطى الحرّية، وبشكل خاص حرّية الرأي والتعبير، وقد أشار تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان في الوطن العربي في وقت مبكر إلى خطورة هذه الحالة في سياق رصد الانتهاكات التي يشهدها الوطن العربي لمنظومة حرّيات المواطن الأساسية.. ورغم الاختلاف النسبي بين الدول العربية إلّا أنّ معظمها يضع قيوداً تحكم وتحدِّد حرّيات الرأي والتعبير. فوسائل الإعلام تملكها الدول في الغالب، وهي مراقبة بدقة من جانبها، وهناك حُرمات أساسية ينبغي عدم المساس بها من بينها نقد النظام السياسي أو المساس بشخص رئيس الدولة، كما إنّ هناك قيوداً على حرّية تبادل المعلومات والأخبار، وأحياناً تراقَب الكُتُب والصُّحف والمطبوعات الواردة من الخارج، ويُمنع نشر بعضها وتداولها.
ويسجّل تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي أصدره برنامج الأُمم المتحدة الإنمائي طبيعة تعامل الدساتير العربية مع موضوع حرّية التعبير (ومن قبيل الانتهاكات التشريعية لحقوق الإنسان في البلدان العربية القوانين التي تقيد حرّية الصحافة أو تصادرها بدعوى التنظيم. تحقيق ذلك عن طريق نصّ التشريع على جواز الرقابة المسبقة أو اللاحقة على الصُّحف، أو تلك النصوص التي تفرض القيود على حقّ الإصدار بحيث تجعل من الترخيص بإصدار الصحيفة وسحب هذا الترخيص سلاحاً بيد السلطة التنفيذية لردع الصُّحف التي تصرّ على تجاوز الخطوط الحمراء لحرّية التعبير التي يفرضها النظام السياسي في الدولة.. وعموماً يمكن القول إنّه لا يوجد نظام عربي واحد يأخذ بالنظام الليبرالي في إصدار الصُّحف، بل اشتراك التشريع في خمس عشرة دولة عربية، منها الترخيص أو التصريح السابق).
وتتسع الدساتير العربية في مضامينها لمعطيات واعتبارات الأمن والمصلحة العامّة، ولذلك نجد أنّ التشريعات المنظِّمة لممارسة الحرّية تمتلئ بالنصوص الرادعة والعقابية لكلّ ما قد تجده يشكل تجاوزاً وعبوراً لسياج المحرمات، وتتسع صيغة الاتهام ثمّ التجريم على صيغة التحقق والمساءلة والشفافية، وعملياً، فإنّ الصياغة العامّة لما تحمله من براعة الأسلوب ودقة الكلمات المختارة، إلّا أنّها في المستوى التطبيقي تأخذ صيغة أخرى تتسم بإحكام السيطرة على كلّ المنافذ التي تؤمّن التحكم بممارسة الحرّية المتصلة بالنشر والرأي.
وعملياً، فإنّ الفكرة التي تقف وراء أغلب التشريعات هي الشك في قدرة المواطن في التعامل والتحكم بوسائل التعبير، بل في أهليته لممارسة تلك الحرّية، وحتى القوانين التي تضمنها الدساتير في صياغاتها الأولى بدأت تتعرّض لمحاولات إعادة الصياغة والترتيب نتيجة التطوّر التقني الشامل الذي شهده قطاع الاتّصال والإعلام، فلم تعدّ المقالات المنشورة في الصُّحف الدورية أو الكُتُب هي المستهدفة فحسب، بل تعدّى ذلك إلى وسائل أخرى مثل التلفزيون الفضائي والمدونات على المواقع الإلكترونية، كذلك اتّسعت القوانين في تعريف المحظورات والممنوعات أمام وسائل الإعلام بحكم توسّع عمل الدولة في إطار المجتمع وعلاقتها المتشابكة مع الأفراد، ويثار بين فترة وأخرى في الوطن العربي جدل علني حيث تشتبك السلطة مع وسائل الإعلام حول موضوعات تتصل بمديات الحرّية في التعبير. وتكشف تلك المناسبات عن عمق الهوة بين ما تجده السلطة حقّاً من حقوقها، وما تعتبره وسائل الإعلام المقابل مناخاً مناسباً لعملها. ولعلّ من النتائج الإيجابية لذلك الجدل أن تتوقح حدود العلاقة بين سلطة الدولة وسلطة الإعلام، وتُصحح، ولو مؤقتاً، أُسس العلاقة المطلوبة، وبالتالي تحقق وسائل الإعلام مكاسب في إطار تمتعها بمناخ إيجابي أرحب لممارسة دورها.
وكشف تقرير مركز الدوحة لحرّية الإعلام (Doha Centre for Media Freedom) الذي صدر في شباط/ فبراير 2009م تحت عنوان "حرّية الإعلام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" عن حجم المفارقة بين الدساتير والتشريعات الرسمية المنظمة لحرّية الأداء الإعلامي، وبين الواقع العملي. ويعرض التقرير الذي غطّى أوضاع الحرّيات الإعلامية في عشرين بلداً عربياً، الاتجاه نحو (ضبط الإعلام) وأنّ تلك البلدان اعتبرت حرّية التعبير (تشكل خطراً يتهددها، وأنّ المؤسّسات الإعلامية التي تدافع عنها تمثل تهديدات كامنة تترصدها).
وعملياً، فإنّ الجدل يستمر ويتوسّع، مادامت السلطة تسعى لتأكيد سيطرتها على وسائل الرأي والتعبير، في الوقت الذي تشكل فيه حركة التطوّر في القوانين مع الاتّساع في قدرة وسائل الاتّصال على الوصول إلى مواقع الأحداث ونقلها الفوري والتعبير عن محتواها، لذلك فإنّ التوجيه المستقبلي لا يشير إلى توافق وتهادن بين معطى القوانين الحكومية واتجاهاتها، وبين نزوع الإعلام للتحرُّر من القيود الرسمية وبناء تقاليده وضوابطه الخاصّة، وهي في الواقع عملية حيوية لا تقف عند حدود معيّنة، ولا يمكن حصر آثارها في سياق محدّد.
المصدر: كتاب الإعلام حرّية في انهيار
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق