• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإسلام والأمة والسلام العالمي

الشيخ محمد علي التسخيري

الإسلام والأمة والسلام العالمي

لاريب في كون الأمان مطلباً إنسانياً فطرياً يستمد جذوره من أهم غريزة وجدت في فطرة الانسان، وهي غريزة (حب الذات). وهذه الغريزة تعمل مع باقي الغرائز بشكل متناسق لتحقيق سير إنساني متوازن نحو الأهداف التكاملية العليا للإنسان.. فلا يكفي وجود الدوافع الغريزية لتأمين المسير المتوازن وإنما يجب تأمين جو طبيعي للذات الفردية وللذات النوعية كي تدفعها تلك الدوافع نحو أغراضها المنشودة.
وتأكيداً من الفطرة نفسها على توفير الجو الآمن، نجد العناية الإلهية قد غرست فيها بديهيات الحكمة، والميول نحو العدل، والنفور من الظلم والاعتداء، بل ومنحتها القدرة على تعيين الكثير من مصاديق العدل والظلم، مما يمهد لها السبيل للاتصال بالخالق العظيم وتقديم معاني الولاء له، وحينئذ تنفتح لها آفاق الوحي، وتكتشف بذلك الأطروحة السماوية الرحيمة التي تعطيها المخطط الكامل للمسيرة، وتضمن لها كل ما يوصلها إلى أهدافها.
فالأمن إذن حاجة إنسانية دائمة لا تغيرها الظروف، وليست ظاهرة عرضية حتى يقال، بأنها معلولة لوضع اجتماعي معين إذا ما تبدل تبدلت هذه الظاهرة معه. ومن هنا فمن الطبيعي أن نتصور الحاجة إلى نظام شامل يتكفل حماية الأمن الفردي والاجتماعي على مدى مسيرة الإنسان الطويلة.
ولا يمكننا أن نتصور حدوداً لمسألة حماية السلام والأمن إلا في إطار مسألة التكامل الإنساني ذاتها. وذلك أمر طبيعي، بعد أن ندرك أن الفطرة هي معيار الحقوق الإنسانية كلها بشكل إجمالي. وأنها أيضاً هي التي تشخص إنسانية الإنسان وأهدافه، وأنها هي التي فرضت حماية الأمن الإنساني لتحقيق الهدف الكبير. وحينئذ لن يقبل الأمن تحديداً إلا إذا خرج عن وظيفته الحياتية، وعاد عنصراً ضد الأمن نفسه، فلا معنى إذن لضمانه.
وإلا فكيف نتصور الفطرة التي أعلنت الحاجة إلى الأمن وهي تسمح للفرد بالقضاء على أمن نفسه هو، أو أمن الآخرين، وبالتالي على أمن المسيرة الإنسانية كلها دون أن تحدده بما يردعه عن فعلته، حتى ولو كان ذلك بتهديد أمنه؟
وإذا شئنا تتبع المحاولات الإنسانية الحضارية الجادة لتوفير نظام آمن للبشرية جمعاء فإن علينا أن نتتبع أولاً محاولات (الأديان) باعتبارها أقدم الظواهر في حياة الإنسان وأكثرها مفاداة بالكمال كهدف إنساني، وأشدها سعياً لتحقيقه، ثم إن علينا ثانياً ن نستعرض محاولات (الفلاسفة) المتنوعة لبناء القوة العادلة العاقلة التي تضمن للبشرية هذه الحاجة، ثم إن علينا استعراض كل المحاولات (الشخصية والمنظمة) لضم العالم تحت حكومة واحدة منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا بشتى الحجج والدوافع، وفي طليعتها رفع شعار تأمين العدل لكل البشرية والدفاع عن حقوق المحرومين وتوفير السلام العالمي.
ومن الطبيعي أن نفعل ذلك عبر مجامع تحقيقية منظمة إلا أننا هنا نحاول القاء نظرة إجمالية على كل هذه المسيرة. فإذا شئنا تصنيف كل الأطروحات في البين وجدناها تنتظم في أطروحات أهمها ما يلي:
أ‌) أطروحة السيطرة الديكتاتورية على كل العالم وتوفير جو الحديد والنار بحجة أنها الأسلوب الوحيد لضمان الأمن العالمي.
والتناقض في هذه الأطروحة واضح ولا نحسب أحداً حتى أصحاب مثل هذه النظريات يملك القدرة على الدفاع عنها. ومن هنا فهم يرفعون شعارات أخرى لتسويغ نياتهم السيئة.
ب‌) أطروحة السيطرة الطبقية على باقي الفئات، باعتبار هذه السيطرة مقدمة الخلاص الوحيد للبشرية من شرور الاستغلال، والاعتداء، والاستعمار، والانسجام الوحيد مع نوع الانتاج الاقتصادي، مما يؤدي به بالتالي لتوفير كل الحاجات لكل الناس، وقيام المجتمع الشيوعي الذي يحقق كل الرغبات وتفنى فيه الأنا الذاتية وتسوده الـ(نحن) الإنسانية، حتى إنه لن تكون هناك أية حاجة لقانون أو قضاء أو دولة.
وهذه الأطروحة أيضاً بالإضافة إلى ما يصاحبها من اعتداء تاريخي مرير على كل مرافق الأمن، وسلبٍ قاسٍ للحريات الإنسانية الفطرية، وتعدٍ على كل الحقوق البشرية، وسفكٍ ونهبٍ وفوضوية، نعم، بالإضافة إلى كل ما حمله تاريخها القاسي من آلام وعنف وخرق للسلام، فإنها لا تعدو كونها خيالاً فضفاضاً لا ينسجم والأصالة الفطرية، بل ينفي كل الجذور الفطرية، مما يؤدي به بالتالي إلى نفي الإنسانية نفسها.
ج) أطروحة الشعوب الحرة الديمقراطية المسالمة بعضها لبعض، والتي تعمل بمنافسة حرة تعود على الإنسانية جمعاء بالخير. وهي أطروحة قد لا نجد التصريح بها لدى أحد لكنها مقتضى الأطروحة الرأسمالية للحياة والتي تؤمن بالحرية محوراً أساساً لكل حياة سعيدة، وتفسير الحرية بما ينسجم وتحقيق طموحات الفرد دائماً باعتبارها هي التي تحقق طموحات المجتمع وتقدمه على المدى الطويل.
وهذه الأطروحة بدورها مبتلاة بكثير من الضعف رغم شعاراتها الجميلة، ذاك أنها تفترض:
أولاً: إمكان قيام حكومات ديمقراطية ـ بكل ما للديمقراطية من معنى نظري ـ في شتى أنحاء العالم.
ثانياً: سعي كل حكومة للتعامل مع الحكومات الأخرى على أساس من التنافس البناء دون تعدٍ على الحدود والحقوق.
ثالثاً: وجود عرف دولي عام يضمن طرح أسس عادلة للعلاقات الدولية.
وهذه كلها خيالات بالفعل لأنها لا تملك الأساس السليم، ولا يؤيدها واقع التاريخ الحضاري الإنساني. إن الإنسان إنسان يملك أبعاده النفسية ونزعاته الذاتية فإذا لم نضمن وجود التربية الروحية التامة له، بل قمنا في المقابل بسلبه كل ما يؤدي إلى تربية إنسانيته، وسرنا به نحو حيوانية منظمة!! فإن من المستحيل تصور سير تكاملي طبيعي متوازن له.
د) أطروحة القبول بالواقع القائم مهما كان، والدعوة إلى ما يشبه الأمم المتحدة لتقوم هذه بإعلان منشورات عالمية، وإبرام اتفاقيات دولية، وبروتوكولات تضمن السلام العالمي، ولكي تضمن العدالة فإن هذه الأطروحة تمنح كل الدول على اختلاف تعداد نفوسها ومساحاتها وقواها حق الصوت الواحد في الجلسة العامة، وزيادة في ضمان العدالة!! تشكّل مجلس الأمن الدولي من القوى العظمي أولاً ومن مندوبين للقارات كلها على أن يكون لمندوبي القوى العظمى حق الفيتو (النقض)!! وبهذا يمكن ضمان السلام العالمي.
ولكننا نجدنا ـ مع الأسف ـ سلبيتين أيضاً تجاه هذه الأطروحة للأسباب السابقة نفسها، وتبدو لنا تفاهتها عندما نلاحظ:
1- وجود حق النقض للدول العظمى وهي دول تسعى لتحقيق مصالحها قبل أي شيء آخر.
2- عدم وجود أي عنصر للإلزام بأي من القوانين الدولية. فيمكن للدولة أن لا تنضم إلى أية معاهدة تجدها غير منسجمة مع أهدافها وعقيدتها.
3- عدم وجود قانون للعقوبات الدولية الرادعة.
وبالتالي سيطرة منطق القوة لا غير على العلاقات الدولية. ومع هذا المنطق فكل الادعاءات المعلنة للسلام العالمي تتحول إلى مجرد شعارات ضد السلام الحقيقي.
هـ) أطروحة الدولة العالمية الواحدة القائمة على أساس التوحيد الإلهي والقسط والعدل والشورى، والقيادة الإنسانية الرشيدة، والنظام الإنساني المعترف بالحرية الإنسانية في حدودها التكاملية وحقوق الإنسان الطبيعية.
وهذه الأطروحة تتخلص من كل نقاط الضعف الماضية، إلا أنها تواجه العقبات الكأداء، وتحتاج إلى تضحيات جسيمة، ولكنها تبقى الحل الوحيد لمشكلات الإنسانية، ومن هنا يجب الاتجاه نحو المبادئ التي تقول بهذه الأطروحة وتنسجم في أسسها مع كل معالمها لاكتشاف المبدأ الأصلح أولاً، ومعرفة الأمة التي تحمل هذا المبدأ ثانياً، والعمل على تأصيل خصائص هذه الأمة في المرحلة الثالثة، ومن ثم الانطلاق لتوسعة الإيمان بهذه الأطروحة بين أبناء البشرية.
وينبغي لنا هنا التنبيه على حقيقة مهمة وهي إن مثل هذه الدولة العالمية لا تستلزم بالضرورة أن يكون أتباعها على دين واحد ومذهب واحد وما إلى ذلك، وإن كانت الوحدة في هذه الأمور من مقومات الترابط، إلا أن ذلك ليس شرطاً ضرورياً لقيام هذه الدولة.
وإننا نعتقد بأن البشرية لابدّ لها أن تسير إلى هذا الهدف ـ إن عاجلاً أو آجلاً ـ إذا أرادت لنفسها:
ـ أن تضمن مسيرة متوازنة واحدة متكاملة نحو تحقيق هدف الانسان.
ـ وأن تضمن تناسباً بين الثروة الموجودة في الطبيعة وسرعة سير التكاثر الإنساني واحتياجاته.
ـ وأن تضمن سلاماً عالمياً يُغني العالم عن الحروب والنزاعات التي لا طائل من ورائها غير إفناء الإنسانية وإهدار ثرواتها.
ـ وأن تضمن حقوقاً بشرية معترفاً بها بشكل حقيقي، وموازين معنوية عادلة تخدم وحدة البشرية عموماً، وغير ذلك.
وهذا ما يجب أن يعمل له المخلصون من أبناء البشرية جمعاء.
والإسلام ـ بحق ـ يحمل لواء تحقيق كل هذه الطموحات من خلال اعتبارات كثيرة يعلنها ويقيم الأدلة القاطعة على صحتها.
فهو صيغة الله تعالى للبشرية كلها:
(يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) الأعراف/ 158.
(وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) سبأ/ 28.
وهو الصيغة المتعاملة مع الفطرة بكل أبعادها وقيمها:
(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم/ 30.
وهو دين التكامل والحياة الحقيقية:
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) )الأنفال/ 24).
وهو الدين الذي يدعو إلى تشكيل دولة عالمية تقوم على أساس التوحيد، وتسعى لبناء القسط، ونشر العدل، وتحقيق مبدأ الشورى في شتى نواحي الإدارة والحياة، ويضع نظاماً لقيادة عادلة رشيدة، ويعترف بالحرية الإنسانية الفكرية والشخصية والسياسية والاقتصادية، ولكن في أطر عادلة حكيمة تضمن بقاء الحرية دعماً لمسيرة التكامل، بدلاً من تحولها إلى معول يهدم أركان هذه المسيرة، كما تضمن حقوق الإنسان كأروع ما يكون الضمان بعيداً عن الادعاءات الفارغة والتناقضات التي ابتلي بها (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، بالرغم مما فيه من جوانب ايجابية.
ومن تلك الحقوق حقوق أتباع الأديان الأخرى التي تعيش في كنفه وتنتعم بما يضمنه لها من قوانين تجعلها تحيا حياة ملؤها الأمان والرقي.
كما أن الإسلام بعد أن ينفي كل معايير التمايز المادية، من قبيل التميز العرقي، واللوني، والمالي، والجغرافي والمقامي، وغير ذلك يقيم بناءه الاجتماعي على أساس معايير الالتزام المبدئي، والعلم، والخدمة التضحوية في سبيل الإنسان (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (الزمر/ 9)، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات/ 13)، (وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً) (النساء/ 95).
هذا، في حين يركز على المحرومين والمستضعفين من الناس ويعمل على اتصافهم من ظالميهم المستكبرين ويقاتل في سبيلهم حتى يستنقذ حقوقهم.
وبالنسبة للسلام والأمن في العالم، نجد الاسلام بمقتضى انسجامه مع الفطرة يعتبر (الأمن) من نِعم الله الكبرى على الإنسان (فليعبدوا ربّ هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (قريش/ 3-4)، ويعتبر الأمن العبادي من أرقى حالات الإنسانية التي وعد المؤمنون بها عبر التاريخ (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) (النور/ 55)، ولكي يوفر لكل المؤمنين في الأرض ميداناً حُراً يلتقون فيه في ظل ولاية الله تعالى وفي ظل رحمته ويقولون فيه كلمتهم الحقة، فقد جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمناً: (وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلىً) (البقرة/ 125).
فالأمان هبة الله للبشرية، يجب أن يتوفر لها دائماً، اللهم إلا أن يعمل بعضهم على محاربة دين الأمان والوقوف في وجه التكامل الانساني وتهديم المسيرة المتوازنة، وحينئذ فلا معنى للأمان، ومع ذلك نجد الاسلام يدعو الدولة الاسلامية إلى الجنوح للسلام إن بدت مثل هذه الرغبة من الطرف الآخر ـ بشكل صادق ـ فقال: (وإن جنحوا للسلم فانجح لها وتوكل على الله) (الأنفال/ 61).
ولكي لا يتحول الاختلاف العقائدي إلى صدام دموي عنيف يدعو الاسلام مخالفيه إلى كلمة سواء بينه وبينهم فيقول: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (آل عمران/ 64).
كما يربي الانسان المسلم دائماً على الدفع بالتي هي أحسن لنفي العداوة والبغضاء.
إلا أننا نؤكد أن هذا كله إنما يتم مع أولئك الراغبين في السلام. أما المحاربون لله ورسوله ونظامه والساعون للفساد في الأرض من المستكبرين فليس لأحد أن يهادنهم ويسالمهم في مسعاهم الهدام.

والأمة الاسلامية ـ بطبيعة الحال ـ هي حاملة رسالة الاسلام، وهي الأجدر بالسعي الحثيث لتنفيذ توجهات الاسلام الانسانية على الصعيد العالمي.
فالاسلام يصف هذه الأمة بأنها خير أمة: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) (آل عمران/ 110).
وهل هناك شيء أعرف للنفوس السليمة من السلام والأمن القائم على أسس رصينة؟
وهو يعطي مفهوم الأمة مساحة انسانية واسعة تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية عندما يخاطب مجمع الأمم الموحدة بقوله: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء/ 92).
وعندما يجعل كل الأنبياء في مسار واحد لتحقيق هدف واحد: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (الأنبياء/ 92).
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد/ 25).
وهو يحملها المسؤولية العالمية في شتى المجالات عندما يجعلها الأمة الشاهدة على الناس، وهو مفهوم حضاري واسع: (وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (البقرة/ 143).
ونعرف هذا المضمون الحضاري من التقابل بين شهادة الرسول على الأمة وشهادة الأمة على الناس باعتبارها شهادة النموذج والمعيار على كل السلوكات الأخرى، وعلى هذا الغرار تأتي الأوصاف الأخرى من قبيل: الأمة الخليفة، والأمة المرابطة القائمة بالقسط وغير ذلك.
وعليه، فمسؤولية الأمة الاسلامية كبيرة تجاه السلام بمعناه الحقيقي وهي كمسؤوليتها تجاه توفير الأجواء المناسبة لمجموع البشرية لتتجلى طاقاتها البشرية في مجال عبادة الله ونفي مظاهر الطاغوت (وهو المرض الخطير الذي يعمي الفطرة) وبالتالي السير لإعمار الأرض وتكوين المجتمع العالمي الذي يعبد الله آمناً ولا يشرك به شيئاً: (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) (النور/ 55).
وعندما نتصور المسؤولية يتبادر إلى الذهن تصور الشروط الطبيعية التي يجب أن تتوفر أولاً حتى يمكن القيام بالمسؤولية الجسيمة. والتناسب بينها وبين شروطها أمر طبيعي.
وما نتصوره من شروط يتلخص في ما يلي:
أ ) وعي الأمة الاسلامية ـ بكل تأكيد ـ لإسلامها بأسسه العقائدية ومفاهيمه ونظمه التي تمتد إلى كل مجالات الحياة.
ب ) سعيها الحثيث لتطبيق التعاليم الاسلامية وتجسيدها في حركتها الاجتماعية، وتحكيم النظم الاسلامية سياسياً وفردياً.
ج ) وجود سعي حثيث أيضاً لبناء الذات المسلمة بناء أخلاقياً يضمن لها الرقي المعنوي والتكامل النفسي كما يغذيها بكل عناصر تغليب المصلحة الاجتماعية على المصلحة الفردية الضيّقة وذلك عبر اليقين بسعة الحياة إلى حد الخلود، وتركيز الحب الإلهي في النفوس بشكل يسمو بالانسان على أنماط التعلق الشديد بالدنيا، وهي أخوف ما يخاف على الإنسان المسلم الواعي.
إننا نؤكد على ضرورة توفر عنصر البناء الروحي باعتباره الممون الرئيس للإنسان بعناصر الصبر والتضحية في سبيل المبدأ وتجاوز العقبات الكبرى: (فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيماً ذا مقربة * أو مسكيناً ذا متربة * ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالرحمة) (البلد/ 11-17).
د ) على أن البناء الأخلاقي يجب أن يصاحبه بناء نفسي ثوري عاطفي حار، يدفع المسلم للتحرق الدائم لإسلامه ولقرآنه وقوانينهما الجهاد لتطبيق هذه التعاليم والتفاعل العاطفي مع كل الحوادث التي تلم بالرسالة وبالأمة، ولا يقف منها موقف اللامبالاة والرهبنة والانعزال عن التيار العام.
يجب أن تورقه كل لطمة توجه للمستضعفين في الأرض، ويجب أن تؤلمه كل خطوة ظالمة يخطوها المستكبرون الظالمون، ويجب أن لا يقر له قرار عندما ينتهك حكم من أحكام الله، أو يسلب منصب اسلامي من قبل المتسلطين، أو تهدر ثروة إسلامية في سبيل تحقيق الأهداف المحرمة، أو تنهب أرض أو يقتل شعب، أو تنتهك حقوق مسلمة.
ونحن نعتقد أن فقدان مثل هذه الروح الثورية يعني فقدان خصيصة حركية ضخمة قد تؤدي إلى موت الأمة أو قعودها عن واجباتها التاريخية.
هـ ) حصول التقدم العلمي والحضاري المطلوب، فلا تستطيع أمة أن تدعي لنفسها أنها الأمة الطليعية في حين تسبقها الأمم الأخرى في المضمار العلمي والتقني والتنظيمي الإداري، وفي مجال إدارة دفة السياسة الخارجية، ووعي الأحداث العالمية، واتخاذ المواقف المناسبة منها.
و ) الوحدة الإسلامية هي أهم عامل يجب توفره في الأمة الإسلامية، وبدونها لن تستطيع الأمة أن تحقق أياً من أهدافها الحضارية، بل ستبقى لقمة سائغة بيد أعدائها.
وغنيٌ عن القول، إن الإسلام قد وضع خطة واسعة الأبعاد لتحقيق هذه الوحدة الاسلامية بأمتن ما يمكن:
أ ) فقد وضع تصوراً كونياً موحداً وركزه في أذهان المسلمين ليشعروا بوحدة الكون وترابطه في إطار التوحيد الإلهي الخالص.
ب ) وأقام العلاقة بين حلقات التاريخ الإنساني على أسس واحدة.
ج ) ووحّد المنطلقات الإنسانية والأهداف والسبل بين المنطلقات والأهداف.
د ) وأقام دوائر متداخلة من العلاقات الاجتماعية التي تعمل كلها على تحقيق الغرض.
هـ ) وركّز نوعاً رائعاً من الترابط في المشاعر والمقاييس الموحدة.
و ) وقامت النظم الإسلامية المختلفة بعملية تقوية الأواصر الاسلامية في شتى المجالات العبادية والاجتماعية والحقوقية والاقتصادية وغيرها بما لا يتسع المجال له هنا.
هذه الحقيقة أدركها أعداء الأمة الإسلامية، بل وأعداء الإنسانية كلها، فراحوا يعملون على تمزيق هذه الوحدة بشتى الأساليب، مستفيدين من العناصر الثلاثة (الجهل، والتعصب، والأهواء الضيقة) بشتى مظاهرها. ذلك أن هذه العناصر قد تتمثل تارة في مَن ينتسبون إلى العلم في حين لا يعدون كونهم وعّاظ سلاطين لا همّ لهم إلا تحقيق رغبات أسيادهم، كما تتمثل في السلاطين والحكام المفروضين بالقوة على الشعوب والذين يشعرون بأن مصالحهم لن تتحقق إلا بالحفاظ على الحالة المتهرئة للأمة، بل وتعميق الشرخ بين أفرادها وفئاتها، وضرب بعض قطاعاتها ببعضه الآخر.
يبقى بعد هذا أن نشير إلى المتعصبين الحمقى ممن لم يعوا الاسلام إلا محققاً لمصالحهم الطائفية، غافلين عن أهداف الأمة الإسلامية العالمية وخصائصها الإنسانية، فهم لا ينظرون إلا من خلال نفوسهم الضيقة، ولا يفكرون إلا بعقلية قرون التناحر، والشقاق، والتكفير، والتفسيق، والرمي المتبادل بالزندقة، متناسين أو متغافلين عن الحياة المشتركة التي كان يحياها زعماء مذاهبهم ومَن يدينون لهم بالولاء ويستقون منهم تعاليمهم. نعم، كان أولئك مختلفين في المواقف لكنهم كانوا جميعاً يعيشون ضمن اطار اجتماعي واحد، ويعتبرون أنفسهم أجزاء متلاحمة من جسم المجتمع الاسلامي الكبير.
وإننا لنعتقد إن ضرر هؤلاء على الأمة لا يقل عن ضرر الأعداء الألداء، وقانا الله شرّ التعصب، وهدانا سبيل الوحدة الاسلامية القويم.

ارسال التعليق

Top