• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأمن الغذائي وعولمة الغذاء والجوع

د. سالم توفيق النجفي

الأمن الغذائي وعولمة الغذاء والجوع

   واجه العديد من البلدان العربية ما بعد منتصف عقد السبعينيات إشكاليات اقتصادية معقدة، ومن ثمّ تبسيط متضمناتها لا تتحمله حقائق مطلع القرن الحادي والعشرين، وفي مقدمة تلك الإشكاليات انعدام الأمن الغذائي في صور مختلفة. وقد ترتب على ذلك نقص وعجز في متوسط نصيب الفرد من الغذاء، نتيجة انحراف أحوالهم المعيشية عن مفهوم "الأمن الغذائي" الذي يشير إلى إمكانية حصول أفراد المجتمع في الأوقات كلها على الغذاء الكافي، والذي يتطلبه نشاطهم وصحتهم[1].

ويتأتى مضمون هذا التعريف من حصيلة متغيرات متعددة، في مقدمتها سيادة الكفاءة الإنتاجية للغذاء، وتوافر الوسائل المساندة، والنظم المؤسسية المساعدة لإنتاج الزراعي[2]، بحيث يمكن فئات المجتمع الدخلية كلها من تحقيق "تغذية كافية"، سواء في ظل الظروف الطبيعية أو الطارئة، مثل الجفاف أو الصدمات الاقتصادية التي تتعرض لها الاقتصادات المحلية للغذاء، أو التزايد في دالة النمو السكاني مقارنةً بنظيرتها من النمو في الغذاء. ويواجه بعض البلدان العربية الانعدام المزمن للأمن الغذائي (Chronic Food Insecurity)، وغالباً لا يعود ذلك إلى نمط السياسات الاقتصادية المعتمدة، بقدر ما يعود إلى متغيرات مترابطة يقتدمها الآتي[3]: - انخفاض إنتاجية وحدة الموارد الزراعية المستخدمة، ولا سيما العمل والأرض، بسبب القيود المؤسسية وتواضع مستوى التكنولوجية الزراعية. - إرتفاع التقلبات الإنتاجية وسيادتها، ولا سيما للمحاصيل الأساسية (القمح)، وذلك نتيجة عدم القدرة على التحكم في استخدام الموارد المائية؛ إذ إنّ معظم زراعات الحبوب في البلدان العربية تعدّ مطرية، ولذا فإنّ معامل التقلب (عدم الاستقرار) في محاصيل الحبوب في بعض البلدان العربية المشرقية تجاوز 30 بالمئة[4]، وهي قيمة تعدّ مرتفعة مقارنة بنظيرتها العالمية. - عدم التنوع في إنتاج المحاصيل الغذائية، والاعتماد على مجموعة ضيقة من المحاصيل التقليدية التي تتعرض لتقلبات سعرية تؤدي إلى تقلبات في معدل الدخل الريفي. - نقص الحوافز المؤدية إلى تحسين استدامة الموارد الزراعية، إذ يتعرض البعض منها إلى التصحر والتآكل والتردي نتيجة استنزاف استخدامها في الزراعة خارج المفاهيم الاقتصادية الحدية. كما تعاني بلدان عربية أخرى من حالة انعدام الأمن الغذائي المؤقت (Transitory Food Insecurity) وتظهر هذه الحالة نتيجة عدم كفاءة الأداء الاقتصادي، ولا سيما الزراعي، نتيجة التشوهات في مناخ الاستثمار المحلي والخارجي، وما يترتب عليه من تباطؤ معدل تراكم رأس المال المزرعي، فضلاً عن التقلبات، سواء في الإنتاجية أو في معدل الأسعار، التي يقود بصورة غير مباشرة إلى تنامي حالة انعدام الأمن الغذائي في فترات زمنية قصيرة، ولا سيما إذا كانت السياسات الاقتصادية لا تتمتع بقدر مناسب من مرونة عناصر الإنتاج الزراعي، يمكّن هذه الموارد من التحول نحو الاستخدامات المختلفة لإنتاج الغذاء وفقاً لفرصة التكاليف البديلة، أو أنّ هذه السياسات لا تتمتع بكفاءة عالية من حيث أدواتها النقدية المؤدية إلى سرعة توفير إمدادات الغذاء من خارج الاقتصادات المحلية، وفي كلتا الحالتين من انعدام الأمن الغذائي، فإنّ الفئات الفقيرة وذات الدخل المنخفض تعاني أكثر من غيرها من أفراد المجتمع نقصاً وعجزاً في الغذاء يصلان ببعضها إلى الجوع. وتنحصر المعالجات الرئيسية لأوضاع الأمن الغذائي المؤقت في إجراءات تنظيمية، وذلك من خلال تأسيس شبكة أمان من المخزون الغذائي، سواء على الصعيد السلعي أو النقدي، في المناطق الإقليمية التي تتعرض لانعطافات بيئية غير متوقعة، فضلاً عن الإجراءات الاقتصادية المؤدية إلى حالات توازنية مؤقتة في سوق السلع الغذائية خلال فترة الأزمات، ولا يفضل الاعتماد على هذا النمط من المعالجات في المدى الطويل؛ إذ إنّ الحالات التوازنية في ظل أوضاع تراجع الإمدادات من الغذاء سيترتب عليها أحد أمرين، الأوّل: ارتفاع أسعار الغذاء في ظل الأسواق التي تتسم بالليبرالية، والثاني: سيادة فائض الطلب على الغذاء في ظل الأنظمة الحاكمة للأسواق، وكلا الأمرين يتولد عنه نقص وعجز في الغذاء، ولا سيما لأفراد المجتمع من منخفضي الدخل، إذ إن معالجات الأمن الغذائي المزمن تتطلب تغيرات هيكلية في القطاع الزراعي باتجاه تعظيم إنتاج الغذاء، فضلاً عن اعتماد سياسات اقتصادية زراعية، ولا سيما سياسات السعرية المؤدية إلى تحفيز تزايد معدلات العرض من الغذاء، واعتماد نمط من سياسات الاقتصاد الكلي يؤدي إلى إعادة توزيع الدخل لتمكين القوى الشرائية لأفراد المجتمع من الفقراء وذوي الدخل المنخفض من الحصول على متطلباتهم الأساسية من الغذاء[5]. وقد ارتبط جزء كبير من أوضاع انعدام الأمن الغذائي في عقدي الستينيات والسبعينات في معظم البلدان العربية بنمط السياسات الاقتصادية الحاكمة، وذلك من خلال الحماية التي تمتعت بها النشاطات الصناعية، وهو ما ترتب عليه تدهور "معدلات التبادل التجاري" للأنشطة الزراعية، سواء المحلية أو الخارجية، وأبعد ذلك السلع الغذائية عن قدراتها التنافسية من جراء التشوهات التي عانتها أسواق الموارد والسلع الزراعية المختلفة. ومن هذا المنطلق تتأتى أهمية التعرف على دور المنظمات الاقتصادية التي تقود العولمة، وبذلك يتطلب من السياسات الاقتصادية للغذاء في البلدان العربية الاهتمام بإشكاليات انعدام الأمن الغذائي، وفي مقدمتها الاختلاف في وجهات النظر بين المنطلقات الاقتصادية للعولمة، ولا سيما في ما يتعلق بمسألة إدارة الطلب، وما يترتب عليها من تدنٍّ للمقدرة الشرائية للأفراد المنخفضي الدخل، وتزايد عدد أفراد المجتمع الذين هم تحت خط الفقر في المدى القصير في أقل تقدير من جانب، والقدرة على تمكين الأفراد من الحصول على قدر مناسب من الغذاء من جانب آخر. وتشير هذه الطروحات إلى حالة جدلية بين متطلبات تحقيق قدر مناسب من الأمن الغذائي، وسيادة المتضمنات الاقتصادية للعولمة، ولا سيما تلك المتعلقة بالمستويات التوازنية لمكونات الأسعار الكلية (Macro-Price)، مثل أسعار الصرف وأسعار الفائدة ومعدل الأجور والرقم القياسي لأسعار الجملة في الاقتصادات العربية. ترتبط متضمنات العولمة بالتجارة الخارجية وحرية أسواق رأس المال والانفتاح على الأسواق العالمية، ومن هذا المنطلق تنعكس تأثيراتها على نمط توزيع الغذاء بين الأسواق المحلية ونظيرتها العالمية، وبذلك يقتضي التعرف على المفهوم الاقتصادي للعولمة، ومدى تأثيراتها في أوضاع الأمن الغذائي في البلدان العربية، ولا سيما أن امتدادات تأثيراتها أخذت تتسع نحو أجزاء واسعة من جغرافية العالم، ولا سيما الفقيرة منها. ويشير مصطلح "العولمة" إلى العديد من المفاهيم التي تتحدد وفقاً للمنطلقات التي ينظر بها إلى هذه الظاهرة، ومن ثمّ فإن هناك طيفاً واسعاً من وجهات النظر التي يعتمدها هذا المصطلح[6]. وقد اهتمت هذه الدراسة بالمتضمنات الاقتصادية للعولمة دون غيرها، باعتبارها مشروعاً ينبثق من انحلال مشروع التنمية الذي ساد في العقود الماضية، وبذلك يمكن النظر إلى "العولمة" باعتبارها الأساس المنطقي لإعادة هيكلة الاقتصادات الحديثة[7] على صعيد الدولة والمجتمع المدني، وفقاً لأطر نظرية جديدة ذات أبعاد أيديولوجية[8] تشكل في مجملها بيئة مساعدة لظهور القوى الفاعلة للعالم الاقتصادي الجديد، وذلك من خلال التوجهات المتمثلة، سواء في كثافة التفاعلات الدولية (التكامل والاعتماد المتبادل)، أو في المدى الجغرافي الذي تحدث فيه هذه التفاعلات[9]، وينجم عن ذلك تخصيص قومي في الإنتاج (الغذاء) وتقسيم عمل عالمي[10]، من أجل إحداث التفكك في الصورة التي تظهر فيها حالة الاكتفاء الذاتي من الغذاء على المستوى المحلي، والتي سادت بعد الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى منتصف عقد السبعينيات بصورة أو بأخرى في معظم البلدان العربية. وتشير العولمة أيضاً، بأبسط مفاهيمها، إلى ثلاثة متضمنات، يستهدف الأوّل خفض الحواجز بين المجتمعات والدول، ويعمل الثاني على زيادة التجانس بينهما، ويؤكد الثالث زيادة حجم التبادل بين المجتمعات في العالم، سواء من حيث الأنماط السلعية أو المالية أو البشرية، ولا سيما بعد التراجع الذي حدث في النموذج الكينزي في الإدارة والاقتصاد الذي شاع في بعض بقاع العالم بعد عام 1945. وتعني العولمة من الناحية السياسية زيادة التنسيق بين الحكومات، وتزايد التعاون بين المجموعات غير الحكومية عبر الحدود القومية، في حين تهتم العولمة من الناحية الثقافية بزيادة التفاعل بين الثقافات، وتجاوز سيطرة الدولة أو السلطات الثقافية الراسخة[11]، ولا سيما أنّ الدولة عبر تكوينها القومي قد سعت إلى تقسيم العالم إلى كيانات ثقافية متباينة، على الرغم من أنها متجانسة داخلياً إلى حد كبير في كثير من الأحيان، وكان السعي إلى تجانسها خارجياً إحدى المهمات الرئيسية للعولمة. والإشكالية التي تواجه الأمن الغذائي في هذا المجال هي أنّ العولمة تؤثر في نمط توزيع الثروة، وما ينتج منها من أوضاع اللامساواة في توزيع الدخل، الذي يقود في صورته النهائية إلى الفقر والنقص في المتطلبات الغذائية لبعض فئات المجتمع، وفي مقدمة هذه التأثيرات نمط العلاقة بين العمالة والنمو الاقتصادي؛ فالتغيرات التكنولوجية التي أحدثتها العولمة غيرت من الأهمية النسبية للعمل في القطاعين الزراعي والصناعي، ورافقها تزايد البطالة نتيجة إعادة تنظيم الإنتاج في القطاعين المذكورين وفقاً للمفاهيم الاقتصادية، الأمر الذي وسع الفجوة بين العرض والطلب في سوق العمل. وقد ساعد على توسيع هذه الفجوة الزيادات الديمغرافية، ولا سيما في البلدان النامية، والهجرة من الريف إلى المدينة، ففي بداية الربع الأخير من القرن الماضي (عام 1975) كان ما نسبته 60 بالمئة من سكان العالم يعيشون في المناطق الريفية، وانخفضت هذه النسبة إلى 40 بالمئة في نهاية القرن المذكور (عام 2000)[12]، فضلاً عما ترتب على هذه الهجرة من تزايد الأعباء الناجمة عن "ترييف الحضر". وقد قادت المتغيرات التي أحدثتها العولمة خلال القرن الماضي إلى توسيع التفاوت في توزيع الثروة بين أفراد المجتمع، فالفجوة الدخلية بين أغنى وأفقر 20 بالمئة على الصعيد العالمي بلغت 1:30 عام 1970 و1:60 عام 1990، ثمّ 1:86 مع نهاية القرن الماضي، وبذلك شهد العالم في أواخر القرن الماضي تبايناً صارخاً في توزيع الدخل؛ إذ يحصل 20 بالمئة من سكان العالم الذين يعيشون في البلدان ذات الدخل المرتفع على 86 بالمئة من إجمالي الناتج العالمي، بينما لا يحصل أدنى 20 بالمئة من سكان العالم سوى على 1 بالمئة من الناتج المذكور، ويحصل 60 بالمئة الذين هم في الوسط على 13 بالمئة من إجمالي الناتج العالمي[13]. ولا شك في أنّ المسار الزمني للعولمة خلال القرن العشرين قد ساهم في تكوين هذه البنية لتوزيع الدخل في العالم، وقاد هذا النمط من التباين في نهاية القرن الماضي إلى تزايد أوضاع انعدام الأمن الغذائي مقارنة بتواضع التباين المذكور في السنوات الأولى من القرن نفسه. ولا شك في أن أحد أهم مكونات العولمة هو ليبرالية السوق، وقد أدت الأخيرة دوراً فاعلاً في خلق هذا التفاوت وتوسيعه، وبذلك لا تنحصر مسؤولية تقليص التفاوت في دور الدولة فقط، إنما تتطلب مساهمة المجتمع المدني في فاعلية هذا الدور، ولا يقتضي أن تتسم هذه المسألة بالتبسيط، فالتغير في البنية الاقتصادية الاجتماعية تتطلب أن يرافقها تغير منهجي في تقليص الفروقات النسبية بين "القيم المجتمعية" التي تكونت عبر الزمن لتشكل فئات رأسمالية تبحث عن الربح، وأخرى تسعى إلى تكافؤ الظروف والفرص الاجتماعية. وإذا لم تحدث الإصلاحات الاقتصادية الاجتماعية قدراً من تقليص التفاوت المذكور، فإنّ توسعه سيقود إلى حالات يصعب الحد من آثارها الراديكالية أو تصور طبيعتها المستقبلية. ووفقاً للمتضمنات الاقتصادية المشار إليها، تُفهم العولمة على أنها تغيرات راديكالية تستهدف التطور نحو ريعية اقتصادية جديدة باتجاه تكوينات كونية، وليس تغيّراً ظرفياً باتجاه تزايد التجارة والاستثمار العالميين[14]. بعبارة أخرى، إنّ التغيرات الحالية في تزايد التجارة والاستثمار الأجنبي وأخرى غيرها، تعدّ نتيجة لتطور البنية الاقتصادية نحو تعظيم القدرة التنافسية للسلع (الغذاء)، وليس سبباً مؤدياً إلى العولمة. ومن هنا يتأتى الارتباط الوثيق بين القدرة التنافسية والعولمة، وتقود هذه العلاقة في صيغتها النهائية إلى الشروط الخاصة بالسوق، وينظر إليها البعض الآخر[15] على أنها تقليص استقلالية الدولة، ومن ثمّ تحديد تدخلها في الشأن الاقتصادي، وذلك ضعفت قدرة الدولة على تنسيق التكيّف من جراء التغير التقني واتساع حركة رأس المال، ولكن هذا التراجع في دور الدولة قد لا يخفض النمو في إنتاج الغذاء، لأنّ المزارع، ولا سيما التي تعمل وفقاً لاقتصادات الحجم (Economic of Scale) أكثر قدرة على تكييف أنشطتها دون الحاجة إلى مؤسسات للتنسيق من قبل الدولة في مجال تغير هذا الحجم.ويرى العديد من الدارسين والمؤرخين أنّ التكامل الاجتماعي العالمي ليس إلا ثمرة التخريب الذي اتسع نطاقه تحت وطأة السيطرة التاريخية للغرب على بقاع واسعة من العالم[16]، الأمر الذي يعدّ سبباً مساهماً في إيجاد صورة معاصرة جديدة للعالم أكثر اندماجاً. ويشير فرانسيس فوكوياما إلى أنّ الحركة القومية قامت في الماضي بتأدية دور تكاملي لبى احتياجات الرأسمالية الأولى، وأن تلك القوى الاقتصادية نفسها هي التي تشجع حالياً على تفتيت الحواجز القومية من خلال خلق سوق عالمية متكاملة، ومن هذا المنطلق تظهر العولمة باعتبارها عملية اقتصادية تحيط بالعالم السياسي[17]. وعلى الرغم من اختلاف الرؤية السببية التي تقود إلى هذه الحالة، فإن هناك اتجاهاً راسخاً بأنّ الفكرة الجدلية، التي تعدّ من ضرورات النظام الرأسمالي، هي التي تخلق الأوضاع التناقضية لبنية الدولة ونظامها الاجتماعي. وهكذا فإن كلاً من القومية والدولية تمثل رداً أيديولوجياً على الظروف البنيوية المنظمة لتراكم رأس المال على الصعيد العالمي[18]، سواء في القطاع الزراعي المنتج للغذاء أو في الأنشطة القطاعية الأخرى. وبذلك أصبحت العولمة ذات شأن بفضل قوتها التأسيسية التي قادت إلى نظام بنيوي جديد امتدت تأثيراته الواسعة إلى معظم أفراد المجتمع[19]، وأضحت المنظمات الدولية، ولا سيما "منظمة التجارة العالمية" أحد مكونات هذه البنية، وذات قوة تحكمية عالمية ما دامت أحكامها تقيد جميع الدول الأعضاء، ولها القوة الكامنة لفرض سلطانها على الدولة والقوى المحلية التي تنظم البيئة والإنتاج والأمن الغذائي[20]. ويرتبط بظاهرة العولمة العديدة من المتضمنات الإيجابية والسلبية تجاه أوضاع الأمن الغذائي في البلدان العربية، وتتحدد الإيجابية بإمكانية توزيع الموارد الزراعية المنتجة للغذاء وفقاً لفرص تكاليفها البديلة، ومن ثمّ فإنها تزيد من إمكانيات إنتاج الغذاء وعرضه على الصعيد العربي الإقليمي في أقل تقدير، كما أنها تعمل على تحفيز البيئة الملائمة للمنافسة في إنتاج الغذاء بعيداً عن أنماط احتكار القلة أو المنافسة الاحتكارية، الأمر الذي يجعل هذا التزايد في حجم الغذاء في إطار الأوضاع التنافسية مؤدياً إلى انخفاض أسعاره مقارنةً بالأوضاع الاقتصادية الشمولية – باستبعاد الأوضاع الحمائية – التي كانت سائدة في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، وهو ما يؤكد من الناحية النظرية أن متضمنات العولمة تقود إلى تحسن أوضاع الأمن الغذائي بمستويات متفاوتة في معظم بلدان العالم، إلا أنّ هذه الطروحات ترتبط بالأفكار النظرية التجريدية أكثر من كونها حقائق عن واقع حالة الغذاء الراهنة على صعيد معظم بلدان العالم؛ فالشركات والمشاريع الزراعية ذات الإنتاج الواسع والتي تحتاج إلى قوة عمل عالية المهارة، غالباً ما تستقر في البلدان ذات الاقتصادات المتقدمة، ولكن في حالة البحث عن عمالة ذات أجور منخفضة، فإنّ الثبات النسبي لقوة العمل على الصعيد القومي، وقدرة رأس المال العالية على التحرك على المستوى الدولي، سيؤدي إلى انتقال رأس المال باتجاه الاستثمارات الزراعية في البلدان ذات الأجور المنخفضة. وبالنظر إلى أنّ هذا الانخفاض قد تأتى في أحد مسبباته من زيادة عرض العمل، فإن احتمال التحسّن في معدل الأجور قد يكون متواضعاً، وإنّ الاحتمال الأوسع هو انخفاض معدل البطالة في قطاع إنتاج الغذاء. ومما يحفز رأس المال على الاستثمار الأجنبي هو الانخفاض في النفقات الاجتماعية قياساً بمزايا كفاءة العمال في النشاط الزراعي[21]. بعبارة أخرى، إنّ التغيرات المتوقع أن تطرأ على معدل الأجور ستبقي متوسط دخل العمل الزراعي منخفضاً، وحيث إنّ المتضمنات الاقتصادية للعولمة تقود قوى السوق التي تشجع حركة الغذاء دائماً إلى الأماكن التي يقطنها القادرون على السعر الأعلى[22]، فإن نمط توزيع الغذاء سيشوبه قدر من التشوهات وفقاً لاحتياجات الأفراد من السعرات الحرارية الموصى بها صحياً. وفي ظل متضمنات النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الحديثة، فإن سعي "دولة الرعاية الاجتماعية"، التي تعتمد قدراً كبيراً من سياسات دعم الغذاء لتوفير الأمن الغذائي لفئات واسعة من أفراد المجتمع، لا تترتب عليه أعباء على موازنة الدولة فقط، وإنما يؤدي أيضاً إلى نشوء سوق محلية للغذاء لا تتمتع أسعاره بمرونة كافية، ومن ثمّ تصبح غير قادرة على التكيّف مع متغيرات الاقتصاد العالمي الذي تتسم متضمناته بالعولمة. بمعنى آخر، إذا كانت الأسعار لا تعكس تكلفة المنافع الاجتماعية، فإنّه سيترتب عليها تباطؤ حوافز الربح، ومن ثمّ فإنّ اقتصادات الغذاء قد لا تتجه نحو تحقيق الإمكانيات الإنتاجية القصوى[23]. وهذه الطروحات، وإن تكن تحقق الكفاءة الاقتصادية في إنتاج سلع الغذاء إلى حد ما، فإنها لا تحقق العدالة الاجتماعية في توزيعه. تشير ظاهرة الجوع إلى افتقار الأفراد والأسر إلى الأمن الغذائي فترة طويلة من الزمن، وقد يكون الجوع طارئاً بسبب نقص الغذاء نتيجة الجفاف أو الحروب، أو مزمناً لندرة الموارد والأصول المولدة للدخل. وفي الحالة الأخيرة يؤثر الجوع في قدرة الجسم وبنيته على تأدية وظائفه الفيزيولوجية وأنشطته الاقتصادية، ويقود الجوع هؤلاء الأفراد إلى حلقة مفرغة من الأوضاع الصحية السيئة والقدرات المتباطئة وانخفاض في الدخل. ولذا يوصف بأنّه على قدر كبير من التعقيد، وقد يحدث في أماكن يوجد فيها فائض من الغذاء، ولكن نمط اللامساواة في توزيع الدخل يقود مجموعات من أفراد المجتمع إلى مكابدة ظاهرة الجوع. ولا يمكن معالجة إشكالية الجوع من خلال توفير المساعدات الغذائية إلا في الأمد القصير، في حين تتطلب معالجة الجوع المزمن برامج اقتصادية لتوفير الغذاء في الأمد الطويل على الصعيدين المحلي والعالمي، ولا سيما أن معالجات من هذا النوع تتطلب جهوداً ضخمة تفوق القدرات المحلية للبلدان العربية الأقل نمواً، والتي يعاني الظاهرة المذكورة معظمُ أفراد مجتمعاتها من ذوي الدخل المنخفض. وبذلك يدخل ملف الجوع في العالم مرحلة جديدة معاصرة تصعب معها معالجته على الصعيد المحلي، ولا سيما أن أسعار الحبوب، وهي السلعة الغذائية الرئيسية، قد شهدت ارتفاعاً غير مسبوق في السنوات العشر الماضية، وذلك لمجموعة من الأسباب، في مقدمتها ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج (النفط)، والتغيرات الحاصلة في الطلب على الحبوب من جراء ارتفاع متوسط دخل الفرد في البلدان ذات الكثافات السكانية العالية مثل الصين والهند، فضلاً عن الاستخدامات الحديثة لبعض أنواع الحبوب لأغراض إنتاج الوقود الحيوي، وبذلك ستقود هذه المصفوفة من المتغيرات فئات أوسع من المجتمع العربي نحو ظاهرة الجوع والفقر في زمن تتزايد فيه مزايا العولمة، وقدرة الأسواق على زيادة معدل تراكم رأس المال.   الهوامش:
[1]- منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، المكتب الإقليمي للشرق الأدنى، السياسات الزراعية السعرية: مواد تدريبية على التخطيط الزراعي، نشرة رقم 31 (روما: المنظمة، 1993)، ص224. [2]- سالم توفيق النجفي، الأمن الغذائي العربي، المحددات الراهنة وإشكاليات المستقبل: رؤية اقتصادية للقرن الحادي والعشرين، سلسلة دراسات؛ 1 (الموصل: مركز الدراسات المستقبلية، كلية الحدباء الجامعة، 1999)، ص5-7. [3]- منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، "التقييم الخارجي المستقل للبرنامج الخاص للأمن الغذائي"، الدورة السابعة والثمانون، روما، 6-10/5/2002، ص8. [4]- معامل الاختلاف (C.V). [5]- النجفي، المصدر نفسه، ص8-11. [6]- بول هيرست وجراهام طومبسون، ما العولمة؟: الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم، ترجمة فالح عبدالجبار، عالم المعرفة؛ 273 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2001)، ص2. [7]- ج. تيمونز روبيرتس وأيمي هايت، من الحداثة إلى العولمة: رؤى ووجهات نظر في قضية التطور والتغيير الاجتماعي، ترجمة سمر الشيشكلي؛ مراجعة محمود ماجد عمر، عالم المعرفة (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2004)، ص146. [8]- المصدر نفسه، ص33. [9]- المصدر نفسه، ص8. [10]- هيرست وطومبسون، المصدر نفسه، ص19. [11]- فريد هاليداي، الكونية الجذرية لا العولمة المتردة، ترجمة خالد الحروب (بيروت: دار الساقي، 2000)، ص33، 108 و109. [12]- انظر: المصدر نفسه، ص114، World Bank, World Development Report 1999/2000- Entering و The 21 Century: Summary (Washington, DC: The Bank, 2000). [13]- هاليداي، المصدر نفسه، ص115-116. [14]- هيرست وطومبسون، ما العولمة؟: الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم، ص18. [15]- تيرنس كاسي، السياسة الاقتصادية والمؤسسات والنمو الاقتصادي في عصر العولمة، دراسات عالمية؛ 34 (أبوظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2001)، ص51. [16]- أيان كلارك، العولمة والتفكك (أبوظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2003)، ص44. [17]- المصدر نفسه، ص41. [18]- المصدر نفسه، ص53. [19]- روبيرتس وهايت، من الحداثة إلى العولمة: رؤى ووجهات نظر في قضية التطور والتغيير الاجتماعي، ص144. [20]- المصدر نفسه، ص156. [21]- هيرست وطومبسون، ما العولمة؟: الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم، ص26. [22]- أمارتيا صن، التنمية حرية، ترجمة شوقي جلال، عالم المعرفة؛ 303 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2004)، ص210.

[23]- كاسي، السياسة الاقتصادية والمؤسسات والنمو الاقتصادي في عصر العولمة، ص8

المصدر: كتاب الأمن الغذائي العربي (مقاربات إلى صناعة الجوع)

ارسال التعليق

Top