• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأديان السماويّة كقوة موجهة للمحافظة على البيئة

الشيخ عزالدين الخطيب التميمي

الأديان السماويّة كقوة موجهة للمحافظة على البيئة
◄تلوث البيئة والوقاية منه: الحياة يشتهيها الإنسان بكلِّ قوته ولا يشبع منها، ويتشبت بها من أعماق فطرته وينفر من كلِّ ما يهددها. وتلويث البيئة يرمي بهذا الإنسان إلى أشقى الحظوظ وأسوأ حالاته، بل انّ شبح الموت يتراءى لكلِّ من يعيش في البيئات الفاسدة والملوثة، فكم من الناس فقدوا حياتهم، أو على الأقل فقدوا النوم الهادئ والعيش الهنيئ جراء تلويث البيئة، فكان ذلك شراً وبيلا على حياتهم، ولقد وجد في كلِّ زمان ومكان كثير من المرضى والمشوهين بسبب فساد لحقِّ ببيئاتهم. وتلوث البيئة كما يهدد الإنسان فإنّه يهدد الثروة الحيوانية، والثروة الزراعية، والثروة المائية، والثروة الصناعية، وهو يثير القلق والمخاوف، ويلحق بالحياة كثيراً من الخسائر الجسيمة. ومصادر التلوث كثيرة، منها: الغازات بأنواعها، والمواد الكيماوية كالمبيدات الحشرية، والاشعاعات النووية، والأغبرة سواء كانت من الأرض أو المصانع كمصانع الاسمنت، والفضلات الآدمية، وفضلات الحيوانات، والميتة من الكائنات الحية. وها هي تلك الملوثات تصل إلينا عن طريق الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والطعام الذي نأكله، والثوب الذي نلبسه، بل عن طريق الجلد الذي يكسو أجسامنا. فلابدّ من الوقوف بحزن أمام أخطار التلوث، وبذل الجهود المشتركة المخلصة الواعية للوقاية منه، والعمل على معالجة أسبابه، والحد من آثاره بكلِّ ما لدينا من قوة وإرادة، وفيما يلي بعض تعاليم الدين في الوقاية من التلوث:   1-     دفن الموتى تحت التراب: في معرض قصة أوّل حادث قتل وقع في تاريخ الإنسان عندما قتل أحد ولدي آدم أخاه ولم يدر ماذا يفعل ولا كيف يتصرف مع جثة أخيه القتيل، يقول الله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين) (المائدة/ 31). إنّ تشريع دفن الموتى في باطن الأرض إذا دققنا فيه النظر نجده عنصراً من عناصر المحافظة على البيئة التي يعيش فيها الإنسان وحمايتها من التلوث، بالإضافة إلى المحافظة على كرامته، وانّ أي أسلوب آخر للتخلص من جثث الموتى يجر إلى أوخم العواقب واسوأ النتائج على البيئة على حياة الإنسان. ثمّ انّ نبش القبور التي لم تبل فيها جثث الأموات محرم في شريعة الله، محافظة على البيئة وحماية لها من أخطار التلوث.   2-     الحجر الصحي: قد تكون خطورة الشيء في ضآلته، وربما كانت أضخم الأخطار على حياة الإنسان في جرثومة لا تراها العين ولا يعيها الفؤاد، ولا يتصور خطرها صاحب أعظم خيال، فالأمراض تحصل نتيجة جرثومة تسري سرياناً سريعاً واسعاً، كالطاعون، والجدري، والكوليرا والحمى الصفراء والتيفوس. وقد جاءت الحكمة النبوية تحذر الناس من هذه الأوبئة وتعلن عليهم طريقة الوقاية منها حين ظهورها في قوله (ص): "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا عليها، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه" (رواه البخاري ومسلم)، وقال أيضاً: "انّ من العرق التلف" (زاد الميعاد 2/77)، أي انّ التلف والعطب في القرب من المرض والدنو من المرضى. وقال بشأن الأمراض حين تصيب الماشية: "لا يوردن ممرض على مصح" (رواه البخاري ومسلم)، وهذه قاعدة صحية عامة، وهي أن لا يختلط المريض مع الصحيح في المأكل والمشرب والمعاشرة، لأنّ ذلك طريق العدوى، وهذا هو الحجر الصحي الذي تعارفت عليه الدول في العصر الحديث. فلا ينبغي التهاون في الوقاية من الأوبئة اعتماداً على الإيمان بقدر الله، لأنّ الإيمان بقدر الله يحرّم على المسلم التواكل، ويوجب عليه أن يأخذ بالأسباب.   نماذج من دعوة الإسلام للمحافظة على البيئة: 1-     عناية الإسلام بنظافة الإنسان وطهارته: إنّ أجسادنا تعلن في كلِّ لحظة انّ الحياة في حاجة إلى النظافة، وانّ الدين يعلن في كلِّ لحظة انّ عبادة الله لا تصح إلا بالطهارة، طهارة الجسد، وطهارة الثياب، وطهارة المكان. نعم اهتم الإسلام إهتماماً بالغاً بنظافة الإنسان وطهارته، حيث أوجب أن يتوضأ بالماء مرات عديدة في اليوم، كما أوجب عليه أن يغتسل كلما أصابته الجنابة. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة/ 6)، وقال تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر/ 4)، وقال رسول الله (ص): "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" (متفق عليه). ودعا (ص) إلى الاغتسال يوماً في الأسبوع على الأقل، فقال: "حقّ على كلِّ مسلم أن يغتسل في كلِّ سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده" (متفق عليه). وقد حذر(ص) من أن ينام الإنسان وفي يديه وسخ أو مواد دهنية، لأنّ الوسخ كالمغناطيس يجلب الحشرات والهوام وتتوالد في الميكروبات، قال (ص): "مَن بات وفي يديه غمر لم يغسله فاصابه شيء فلا يلومن إلاّ نفسه" (رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه: 2/450 مشكاة المصابيح). 2-     عناية الإسلام بنظافة المنازل وما حولها: قال رسول الله (ص): "انّ الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود" (2/ 502 مشكاة المصابيح). وهذا توجيه حضاري رائع من نبي الإسلام، يفيد انّ الإنسان إذا أراد أن يعيش نظيفاً فلا ينبغي أن يقتصر على نظافة جسمه فحسب، بل عليه أن يعيش في محيط نظيف مطهر خال من عوامل التلوث، كالقمامة والقاذورات، لأنها بؤر للروائح الكريهة، ومكان لتوالد الجراثيم وملتقى الحشرات والبعوض، والذباب والجرذان، فقذارة البيئة تسبب الضرر والضرار، وفي الإسلام العظيم (لا ضرر ولا ضرار). 3-     عناية الإسلام بنظافة المساجد: المساجد بيوت الله، وهي أماكن عبادة واجتماع، تجمع أعداداً كبيرة من المسلمين. وقد حرص الإسلام على نظافتها ووضاءتها لتستقبل أفواج المصلين فتنشرح صدورهم ويطيب لهم المكوث فيها. قال تعالى بشأن المسجد: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة/ 108)، وعن سمرة بن جندب قال: أمرنا رسول الله (ص) أن نتخذ المساجد في ديارنا وأمرنا أن ننظفها (رواه أحمد والترمذي وصححه). 4-     عناية الإسلام بنظافة الطرق: الشوارع والطرق مرفق عام، والمشاركة في تنظيفها ورفع الأذى عنها نوع من العبادة، هذا ما أكد عليه النبيّ (ص) في قوله: "إماطة الأذى عن الطريق صدقة" (3/386 البخاري)، وفي قوله: "إماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة" وفي قوله: "إياكم والجلوس على الطرقات، فإن أبيتم إلاّ المجالس فاعطوا الطريق حقها، غض البصر وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (رواه أحمد في مسنده والدارقطني وأبو داود). وتطبيقاً للأحاديث الواردة في كف الأذى عن الطريق جاءت تشريعات مهمة في كتب الفقه الإسلامي لها علاقتها المباشرة في المحافظة على بيئات المدن، ومن ذلك: تحديد أماكن السكن والصناعات والأماكن العامة وتحديد الشوارع، جاء في كتب الحسبة: (ويجعل لكلِّ صنعة سوق يختص بهم تعرف به صناعتهم) والسبب في ذلك حتى لا يتضرر أصحاب صنعة بأخرى، ومن كانت صناعته تحتاج إلى وقود نار كالخباز والحداد، فللمحتسب أن يبعد حوانيتهم عن البزازين والعطارين لعدم التجانس، وحصول الإضرار، وجاء في كتب الفقه: ويمنع الدباغون مما يحدثون من دباغاتهم لنتن ريحها، وكذلك دخان الحمامات والأفران، وهذا ينطبق أيضاً على النحل والدجاج. والحقيقة انّ أحكام الشارع شاملة لأدق التفاصيل، ولا يمكن الإشارة إليها جميعها. 5-     عناية الإسلام بالغذاء وحمايته من التلوث: أباح الله للإنسان الغذاء الذي يستفيد منه في بناء جسمه والقيام بأعماله، قال الله تعالى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا) (المائدة/ 88)، وتشير الآيات القرآنية إلى الطيبات من الرزق التي أحلها الله لعباده، من لحوم الأنعام والطيور والأسماك والألبان، وكذلك الفواكه والثمار والحبوب والخضروات. ولكنه استثنى بعض المأكولات فحرّمها حماية للإنسان من أضرارها المادية والروحية، مثل الميتة والدم ولحم الخنزير والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وبقايا ما أكل السبع، وكذلك حرّم بعض الأشربة كالخمر. والغذاء المباح بجميع أنواعه وصنوفه ينبغي أن يحفظ في الأمكنة النظيفة والأوعية المطهرة لئلا يكون عرضة لحشرات أو جراثيم تسقط فيه فتلوثه وتحوله إلى سم قاتل. قال رسول الله (ص): "خمروا الآنية" أي غطوها واحفظوها مما يلوثها. وقد بلغت اهتمامته (ص) بالنظافة حدّاً عظيماً، فلم يترك شيئاً له أثره على حياة الإنسان إلاّ أمر بتطهيره وتنظيفه، قال (ص): "طهور اناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" (مسلم 1/167). 6-     التحذير من الحرائق: امتن الله على عباده بأن جعل لهم النار يستخدمونها في شؤون حياتهم، ويقضون بها كثيراً من حاجاتهم، قال تعالى مشيراً إلى جوانب المصلحة فيها: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الواقعة/ 71-74). والنار سلاح ذو حدين، ففيها المصلحة من ناحية، وفيها المضرة من ناحية أخرى، فهي من العوامل المدمرة، وكثيراً ما تلحق الأضرار والخسائر الجسيمة في الأرواح والممتلكات من مزارع وغابات، وفنادق، ومتاجر، ومستشفيات، ومنازل ومصانع ودوائر، وسيارات وطيارات وغير ذلك. وهي تلوث الهواء بسبب ما تحدثه من دخان ينتشر في الهواء. وانّ معظم النار من مستصغر الشرر، فقد تشب النار من شرارة متطايرة فيتسع نطاقها وتمتد إلى ما جاورها من أشياء البيئة فتدمرها. وقد حذرت الحكمة النبوية من أخطار النار ضمن حديث يتناول عدداً من أسباب الإضرار بالإنسان، قال رسول الله (ص): "غطوا الاناء، واوكوا السقاء، واغلقوا الباب، واطفئوا السراج" (البخاري 8/206). وقد احترق بيت على أهله في المدينة من الليل، فلما حُدّث به رسول الله (ص)، قال: "انّ هذه النار عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم" (متفق عليه). وهذا تحذير نبوي من الغفلة عن النار، ومن التهاون بشأنها، وعدم الاهتمام بما تحدثه من أضرار وخسائر، ودعوة إلى اتخاذ الاحتياطات والاجراءات الوقائية من أخطارها مهما كان مصدر هذه النار، الحطب.. الحجر.. الزيت.. الغاز.. الكهرباء.. المتفجرات. 7-     عناية الإسلام بالطيور: إهتم الإسلام بالطيور بصورة لافتة للنظر داعية إلى التفكير والتدبر، فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) (الأنعام/ 38)، فهي من وجهة النظر الدينية أمم وجماعات مماثلة للناس في الخلق والرزق والغريزة والحياة والموت، ولا شك انها تشكل عنصراً حيوياً من عناصر البيئة. وجاء في السنة النبوية أحاديث عديدة داعية إلى حماية الطيور والمحافظة عليها، وعدم إخافتها. قال رسول الله (ص): "أقروا الطير على مكناتها"، أي بيضها (رواه الترمذي 1/286 و2/428)، وذلك حتى لا تنقرض أنواعها. وورد عن النبيّ (ص): أنّه نهى عن جعل الطيور غرضاً يرمى، وأنّه نهى عن قتلها عبثاً. 8-     عناية الإسلام بالماء: الماء هو عنصر البيئة الأهم، تعتمد عليه حياة الأفراد، وحياة الشعوب والأمم، وحياة الحيوان، وحياة النبات، وعليه قامت الحضارات، وازدهرت المدنيات. فلولا الماء لما كانت الحياة ولا كان الأحياء، فهو من نعم الله الكبرى. وإلى ذلك كله أشار القرآن الكريم بعبارته الموحية: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء/ 30). وقال الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 164). وقد تكرر ذكر الماء في أكثر من ثمانين آية في القرآن الكريم، وفي كلِّ مرة تحمل معنى جديداً، ينم عن جانب من جوانب الحكمة الإلهية في خلق هذه النعمة، مما يثير في الإنسان حرارة البحث عن طبيعة هذا العنصر البيئي الفريد وعلاقته بالحياة. ومن الأخطار الكبرى أن يتعرض هذا الماء للتلوث، سواء في السدود والبرك والآبار والأواني، أو في البحار والمحيطات، بتفجير الأسلحة النووية أو استعمال المتفجرات من صيادي الأسماك في العالم. قال رسول الله (ص): "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" (1/50 البخاري و1/148 مشكاة المصابيح). وورد انّ النبيّ (ص): نهى عن أن يُتنفس في الاناء أو يُنفخ فيه (رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي: 2/463 مشكاة المصابيح). وهذه النعمة يجب المحافظة عليها وعدم تلويثها حتى بأبسط صور التلويث وهو التنفس فيها. فما بال الإنسان يذهب بعيداً في تلويث المياه في العالم بالإشعاعات النووية والمتفجرات، إنّه التمرد على البيئة وعلى سلامتها.   نظام الحسبة يساهم في المحافظة على البيئة: أكّدت الشريعة الإسلامية على قاعدة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وهي قاعدة لها آثارها وأبعادها في المحافظة على البيئة وحمايتها من التلوث. فلم تكن هذه القاعدة مجرد شعار غامض يطلقه المسلمون من حناجرهم آمرين ناهين، وانما ترسخت في الحياة الإسلامية من خلالها ممارسات وتوجهات كان لها نتائجها العظيمة في حماية البيئة من كلِّ ما يمكن أن يُلحق بها ضرراً أو تلوثاً، فمن خلال هذه القاعدة جاء نظام الحسبة الذي كان تعبيراً صادقاً عن أهداف الدين الحنيف في إسعاد الناس وتجنيبهم ويلات التلوث البيئي بالمحافظة على أرواحهم وصحتهم، ونظافة بيئاتهم، وتجنيبهم كلّ ما ينشر الأمراض والعلل والأوبئة، وكلّ التصرفات التي فيها اعتداء على الممتلكات والمرافق العامة. وقد أعطى النظام الإسلامي للمحتسب صلاحيات واسعة للمحافظة على البيئة، ومنحه سلطة التنفيذ الفوري في منع كلّ ما يؤدي إلى تلويث البيئة ومعاقبة كلّ من يقدم على ذلك. وشملت صلاحياته أرباب الحرف والصناعات كلها للتأكد من التزام أهلها بما يحافظ على البيئة، كلّ في مجال مهنته، كالطحانين والخبازين، والجزارين والطباخين، واللبانين، والصباغين، والدباغين، والحمامات، والأطباء والجراحين.. إلخ. وضع العلماء مواصفات دقيقة لكلِّ مهنة، حفظاً لحقوق الناس، وصحة أبدانهم، ونظافة بيئاتهم، ومنع كلّ ما ينشر الأمراض والعلل والأوبئة. جاء في كتاب "معالم القربة في أحكام الحسب" لمحمد بن محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الاخوة 648هـ/ 729ه، 1250/1329م ما يلي، وهي مقتطفات سريعة ومختصرة: 1-     الحسبة على القصابين: واما القصابون فيمنعهم المحتسب من الذبح على أبواب دكاكينهم، فإنّهم يلوثون الطريق بالدم والروث، وهذا منكر يجب المنع منه، فإنّ في ذلك تضييقاً للطريق وإضراراً بالناس، أ هـ صفحة (163). 2-     في الحسبة على الطباخين: يؤمرون بتغطية أوانيهم وحفظها من الذباب وهوام الأرض بعد غسلها بالماء الحار والاشنان (صفحة 173). 3-     في الحسبة على الفرانين والخبازين: ينبغي أن يأمرهم المحتسب برفع سقائف أفرانهم ويجعل في سقوفها منافس واسعة للدخان.. ويأمرهم بكنس بيت النار في كلّ تعميرة، وغسل المعاجن ونظافتها.. ولا يعجن العجان إلاّ وعليه ملعبة نظيفة الاكمام ويكون ملثماً أيضاً، لأنّه ربما عطس، أو تكلم فقطر شيء من بصاقه أو مخاطه في العجين، ويشد على جبينه عصابة بيضاء لئلا يعرق فيقطر منه شيء في العجين، وإذا عجن في النهار فليكن عنده إنسان على يده مذبة يطرد عنه الذباب (صفحة 154). 4-     الحسبة على العطارين: وينبغي أن تكون بضائعهم مصونة في البراني والقطارميز لئلا يصل إليها شيء من الذباب، وهوام الأرض، أو يقع عليها شيء من التراب والغبار وبول الفأر ونحو ذلك، ويأمرهم ألا يستعملوا مسح أوعيتهم إلا بالخرق الطاهرة النظيفة، ويأمرهمأان تكون المذبة في أيديهم يذب بها على البضاعة طول النهار ويأمرهم بغسل أثوابهم وغسل أيديهم وآنتيهم ومسح موازينهم ومكاييلهم (صفحة 199). 5-     في الحسبة على قلائي السمك: يؤمرون في كلّ يوم بغسل قفافيهم وأطباقهم التي يحملون فيها السمك وينثرون فيها الملح المسحوق في كلِّ ليلة بعد الغسل، وكذا يفعلون بموازينهم الخوص، لأنّهم إذا غفلوا عن غسلها فاح نتنها وكثر وسخها، وينبغي للمحتسب أن يتفقد المقلى كلّ ساعة (صفة 170). إنّ نظام الحسبة في الإسلام ينم عن نظرة تقدمية شاملة في الاهتمام بشؤون البيئة من العلماء، فالقواعد التي وضعوها، والأساليب التي اتبعوها، والأهداف التي حددوها أمور جديرة بالاهتمام ومفيدة في كلِّ العصور. في مكافحة التلوث البيئي. فلو فرفضنا انّ المحتسب وجد في هذا الوقت لرأيناه يتجول في أرجاء المجتمع ولوجدنا ذراعه طويلة تطال كلّ ما يضر بالإنسان والحيوان والنبات فيمنعه، ولوجدناه يمنع استخدام النار في الأحراش، فإنّ ذلك منكر. ويمنع رمي الكناسة والزبالة في الشوارع والطرقات، لأنّ ذلك منكر. ويمنع استعمال غرف الدراسة الضيقة في المدارس. لأنّ ذلك منكر، ويمنع رمي فضلات الطعام في المتنزهات العامة، لأنّ ذلك منكر. ويمنع ترخيص محلات أنابيب الغاز في الأحياء السكنية، لأنّ ذلك منكر.   من أخلاقيات التعامل مع البيئة: قال النبيّ (ص): "لا تسبوا الريح فإنّها من روح الله". هذا قول النبيّ في أحد عناصر البيئة، وله أقوال أخرى في عناصر أخرى كذلك، يشير فيها إلى أنّه لا يليق بالإنسان أن يصف شيئاً من نعم الله بما يشين أو يسيء ولو بكلمة يطلقها عليه، فضلاً عن إلحاق الأذى بها. فالدين الذي يقول للناس "لا تسبوا الريح فإنها من روح الله" يكون قد أرسى في الحياة ركيزة أخلاقية متينة في التعامل مع مظاهر الطبيعة، ومكونات البيئة، باعتبار انها نعمة إلهبة يجب شكرها، فلا يعرى أي منها عن فائدة للناس. أليست الريح وسيلة التلقيح في النبات ومن وراء ذلك الإخصاب والاثمار والحصاد!! وإلى ذلك أشار القرآن بإشارته البليغة (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) (الحجر/ 22)، وأليست الريح مبشرة بغيث السماء الذي يسقي الزرع فيخرج الثمر وتتجمع الخيرات!! وأليست الريح هي التي تسوق السفن الشراعية التي تحمل للإنسان الشيء الكثير من وسائل العيش!! أليست الريح وسيلة عظة واعتبار ووسيلة تحذير وتأديب حين يبعثها وقت الابتلاء؟. فما بال الإنسان يحوّل الهواء إلى مصدر شقاء وتعاسة، ومصدر رعب وخوف، بما يثيره فيه من غبار قاتل، ودخان خانق واشعاع فتاك!! وانّ الدِّين الذي يقول للناس: "لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً" يكون قد وضع قاعدة سلوكية راقية في المحافظة على عناصر البيئة الحية. فلا يتعامل معها تعاملاً عابثاً يخرج بها عن أهداف خلقها، ويجحد نعمة الله فيها. وانّ الدِّين الذي يقول للناس: "لا تسبوا الديك فإنّه يوقظ للصلاة". يكون قد وضع للإنسان قاعدة فكرية لتوجيه نشاطه العقلي لالتماس جوانب المصلحة في أشياء الكون وعناصر البيئة، واثارة روح التفاؤل منها. وانّ الدين الذي يقول للناس: "في كلِّ كبد رطبة أجر" يجعل الإنسان مُجليا في ميادين الرحمة بكلِّ ما حوله من الكائنات الحية. أليست هذه نظرة جديدة إلى العالم، وبالتالي إلى كلِّ ما يحيط بالإنسان ويعيش معه!!   الثقافة البيئية واجب شرعي: انطلاقاً من القاعدة الشرعية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) نستطيع أن نقول: إنّ عملية التثقيف البيئي أمر ضروري وواجب شرعي. ذلك انّ الثقافة البيئية طريق إلى المحافظة على البيئة، التي هي واجب من الواجبات الشرعية للاعتبارات المذكورة في الكتاب والسنة، وانّ الكتاب الكريم والسنة المشرفة يقدمان تثقيفاً عقدياً رائعاً عن البيئة، وعما يحميها من عوامل الفساد، وعما يبقيها نقية سليمة صالحة لحياة الإنسان والأحياء الأخرى. وانّ صلاح البيئة ذو أبعاد إيجابية اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية في حياة الشعوب والأُمم، فمن خلاله تظهر قوة البلاد على تأمين غذاء كافٍ للناس، والكائنات الحية الأخرى في كلِّ الأوقات والأحوال، ضمن حياة رغيدة مفعمة بالنشاط والحيوية والصحة. قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (السجدة/ 27). وانّ المغزى العظيم من النصوص الدينية المتعلقة بالبيئة، هو توطيد الإحساس العميق لدى المواطنين، واستنهاض هممهم للمساهمة في المحافظة على البيئة، واستغلال خيراتها وحمايتها من كلِّ ما يؤذيها بدافع من عقيدتهم. وما لا ريب فيه انّ غرس هذه المشاعر والمفاهيم في حياة الناس تجعلهم أكثر قدرة على الإفادة من خيرات بيئتهم ومعطياتها وإمكاناتها، وبالتالي تتيح لهم فرص الترقي والارتفاع في مستوى معيشتهم. وهو في الحقيقة تثقيف للناس لكي يرتفع وعيهم على البيئة واحتياجاتها، ولكي تدفعهم هذه الثقة لإجراء الدراسات الفنية، وإنتاج البحوث العلمية المبتكرة، وتطوير الوسائل والأساليب الناجعة لحماية البيئة والمحافظة عليها من التقهقر وأسباب التلوث. وانّ الإنسان الذي يفتقر إلى الإحساس بواجبه في خدمة بلده يكون في حاجة ماسة إلى ثقافة بناءة لغرس روح المواطنة لديه، من أجل أن يبذل كلّ جهوده وقدراته وحكمته وسائر مواهبه لازدهار وطنه، وأمته، وخدمة بيئته التي تحتضنه. وهذا يجعلنا نؤكِّد انّ المحافظة على البيئة أمر مهم يجب أن يحتل مكانة في سلم الأولويات بالنسبة للأهداف التنموية على الصعيد الوطني، ويجب ان يتم في إطار تكاملي وتعاون مشترك، وتنسيق مستمر بين من يشعرون بالمصير الواحد من هيئات رسمية وشعبية وجميع الأفراد، يتخطى كلّ الاعتبارات الأنانية والآراء الشخصية والمذهبية.   المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العددان 1 و2 لسنة 1992م

ارسال التعليق

Top