• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«الصلاة» ميدان التطهير والتزكية

أ. د. سليمان صادق البيره

«الصلاة» ميدان التطهير والتزكية

◄الصلاة جعلها الله تعالى ميداناً لتطهير النفس وتهذيبها، وسبيلاً لإصلاحها، وتزكيتها وإصلاح ما بها من خلل وعوج، وعلاج أمراضها، وعللها، وذلك أنّ للذنوب أثراً رهيباً في التأثير على سلامة النفس وقوتها، ونضارتها ونظافتها، ونقائها وجمالها، وسلامة إدراكها، وحُسن تصورها. والصلاة جعلها الله تعالى سبباً لإزالة هذا التأثير وإذهابه، ولعل ذلك يدل عليه قول المصطفى (ص): "أرأيتم لو أنّ نهراً ببابِ أحدكُمْ يَغتَسِلُ منه كلُّ يوم خَمْسَ مرّاتٍ، هل يَبْبقَى من دَرَنِهِ شيءٌ؟"، قالوا: لا يَبْقَى من درنه شيء، قال: "فذلك مثل الصَّلَوَاتِ الخمسِ يَمْحُو الله بِهِنَّ الخطايا".

وهذا الحديث الشريف يدل على وظيفة الصلاة وأثرها في حياة صاحبها وفيه تمثيل المعقول بالمحسوس، ليظهر المعقول في صورة المحسوس اعتناءً بشأنه وبياناً لأهميته وتعميقاً لصورته ومعناه في حس المخاطب. والحديث بدلالاته وأبعاده، وإيماءاته يتجاوز أبعاد الصورة الظاهرة في ذهن المخاطب والمتصلة بإزالة الماء المغتسل به كلّ يوم خمس مرات للدرن؛ أي الوسخ المتراكم على الجسم إلى الأبعاد المتصلة بما وراء ذلك وهي الأبعاد التي تتناول ميدان النفس، والعقل والقلب، وذلك وسواه يدل على سعة العلم النبوي الشريف بأسرار العبادات، وبأسباب علاج النفوس من أمراضها. إنّ الماء هو سبب الحياة، وإذا وجد فإنّه توجد معه الحياة بما تعنيه من الحركة، والفاعلية، والنشاط، والجمال، والذوق، والإحساس بقيمة الحياة، وبوجود الماء يتحرك الناس لنظافة أبدانهم، وبيوتهم وملابسهم، وشأنهم كلّه: مسكناً، ومركباً، ومطعماً، ومنتزهاً، ومظهراً.

والإنسان النظيف في بدنه، وشأنه الظاهر مظهر جميل تحبه النفوس التي تعشق النظافة، وترتاح إليها، وبالمقابل فإنّ الوسخ تنفر منه الطباع السليمة وتأباه النفوس الكريمة، ووسخ الظاهر في الغالب دليل على قابلية الباطن له. والوسخ هو البيئة التي تتراكم وتتزاحم وتتوالد وتتكاثر فيها الجراثيم والطفيليات والميكروبات، وهي تشكل ضيقاً وعبئاً وثقلاً على النفس والعقل والقلب والروح، وكلّ شيء يوجد بوجود أسبابه إلّا ما شاء الله خلافه، وهكذا وجود الوسخ وما يتسبب عنه. والإنسان المتسخ في ظاهره هو دائماً ضيق البال، مضطرب الحال، وآثار ذلك كلّه تنعكس على شخصيته وعلى عافيته، وعلى نفسه وقلبه وعقله وروحه، ومن ثمّ على عمله كُلّه.

ولعله من خلال ما تقدم بيانه يمكن أن ندرك الأثر الفعّال الذي تحدثه الصلاة في حياة صاحبها بناءً على فهم هذا الحديث الشريف طهارة، ونقاءً وصفاءً وجمالاً وبهاءً في الظاهر، والباطن، فإنّ الاغتسال كلّ يوم خمس مرات من نهر غمر جار سيذهب بكلِّ أثر مهما كان نوعه، وبكلِّ الأوساخ العالقة بالبدن، وسينمحي بناءً على ذلك كلّ أثر يترتب على هذه الأوساخ الظاهرة، وسوف ينشأ عن هذه النظافة المتكررة كلّ يوم الخفة والنشاط في البدن والانشراح في النفس.

والخطايا والذنوب هي بمثابة الجراثيم والميكروبات والطفيليات التي تفعل فعلها في البدن المتسخ فتفتك بقواه وتوهنه وتجعله بدناً مريضاً غير قادر على أداء وظيفته في الحياة، فما تحدثه الذنوب والخطايا – إن لم يتب منها – من أثر مدمر على ظاهر المذنب وباطنه أمر معلوم مشاهد في الواقع لا يخفى إلّا على النائمين والغافلين. وقد أفاض ابن القيم – رحمه الله – في بيان الآثار المدمرة للذنوب والمعاصي إضافة بديعة في كتابه الجميل (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي).

وتأتي الصلاة مفروضة من الله تعالى على عباده المؤمنين في اليوم والليلة خمس مرات لتمحو بإذن الله تعالى تلك الذنوب والمعاصي وتذهب بكلِّ آثارها المترتبة عليها فيخرج المصلي بإقامة الصلاة من تلك الذنوب والمعاصي نظيفاً كيوم ولدته أُمّه كما يخرج من الأوساخ العالقة ببدنه من يغتسل من نهر جار أمام بيته كلّ يوم خمس مرات.

 

المصدر: كتاب تأملات في فضل الصلاة ومكانتها في القرآن والسنّة

ارسال التعليق

Top