• ١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٨ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حياة السيد المسيح (ع) في ضوء القرآن الكريم

الشيخ جعفر السبحاني

حياة السيد المسيح (ع) في ضوء القرآن الكريم

إنّ الآيات القرآنية التي تتناول حياة السيد المسيح (ع) بعد أن رفعه الله إليه لا تتجاوز الخمس آيات. وإنّ البحث حول هذا الموضوع هو بحث قرآني أوّلاً، وعقائدي ثانياً. وسنبدأ بالبحث في تلك الآيات وفق الترتيب التالي:

الآية الأولى: قوله سبحانه:
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ...) (آل عمران/ 55).
فهل التوفي في الآية بمعنى الإماتة؟
أو إنّ للتوفي معنى آخر؟
إنّ استعمال القرآن لهذا اللفظ في أكثر من مكان يكشف عن معنى الأخذ والاستيفاء، وهذا يتحقق بالإماتة تارة، وبالنوم أخرى، وثالثة بالأخذ من الأرض والعالم البشري إلى عالم آخر (وهو عالم السماء أو غيره).
1- قال سبحانه: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (الزمر/ 42).
لا شك أن كلمة "والتي" في الآية معطوفة على كلمة "الأنفس".. وتقدير الآية: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا). ولو كان التوفي بمعنى الإماتة لما استقام معنى الآية، إذ يكون معناها حينئذ: (الله يميت الأنفس حين موتها، ويميت التي لم تمت في منامها)!.
فدرءاً للتناقض الواضح، لا مناص من تفسير "التوفي" بمعنى "الأخذ" وهو ينطبق على الإماتة (الموت) في القسم الأوّل من الآية، وعلى الإنامة في القسم الثاني منها.
2- وقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام/ 60).
فإنّ توفّي الناس في الليل لا يعني الإماتة بل معناه أخذهم بالنوم ثمّ بَعْثهم باليقظة في النهار ليقضوا بذلك آجالهم المسمّاة، ثمّ إلى الله مرجعهم بالموت والمعاد..
3- وقال سبحانه: (وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا) (الأنساء/ 15).
فلا معنى لتفسير التوفّي بمعنى أنّه "يميتهنّ الموت". وبهذه الاستعمالات القرآنية ندرك أنّ "التوفي" ليس مرادفاً "للموت والإماتة"، وإنما هو أخذ الشيء وافياً كاملاً وبرمته وكلّه. والأخذ إما من عالم الحياة أو من عالم اليقظة أو من عالم الاختلاط بالبشر.
وبهذا يبطل الاستدلال في الآية الأولى بلفظ (متوفيك) على موت المسيح (ع)، لما عرفت من اشتراك اللفظ بين الإماتة وغيرها.
وأما قوله تعالى: (.. وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا...)، فللرفع ثلاثة احتمالات:
- إما رفع المنزلة، كقوله تعالى: عن إدريس (ع): (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) (مريم/ 57).
- وإما الرفع الحسي والنقل من الأرض.
- وإما رفع روحه دون بدنه.

الآية الثانية:
(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء/ 157-158).
نزلت هذه الآية الكريمة لتكذيب ادعاء اليهود وزعمهم بقتل المسيح (ع) وصلبه. وهي تسكت عن موته بعد ذلك أو بقاء حياته واستمرارها إلى اليوم. فيكون هدف الآية ومفادها هو تفنيد زعمهم وتأكيد رفع عيسى (ع) إليه سبحانه. والرفع لابدّ أن يتعلّق بمتعلّق الادعاء والزعم، ومتعلّق الادعاء والزعم هو الوجود الخارجي للمسيح (ع) (جسمه وروحه)، فيكون هو عينه متعلّق الرفع أي أنّه رُفع إلى الله بجسمه وروحه لأنّ الرفع هو تخليص وإنجاء للمسيح (ع) من أيدي أعدائه (سواء مات بعد ذلك أم لا). وهذا يتم برفع شخصه (ببدنه وروحه) من بين الأعداء حتى لا يتمكنوا من قتله وصلبه، وإلا لو قلنا بكون المراد من الرفع هو رفع روحه دون جسمه للزم من ذلك القول بإبقاء جسده بين الأعداء وتسليطهم عليه كما أنّه لا يصح إعادة ضمير الهاء في (رفعه) إلى الروح فقط، أضف إلى أن ذلك لا يعدّ ردّاً وتفنيداً لادّعاء اليهود. وكذلك القول بأنّ المقصود بالرفع هو رفع شأن، فينحصر معنى الرفع بالرفع الشخصي: بالروح والجسم.

الآية الثالثة:
(مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة/ 117).
لا إشكال في أن زمان المحاورة في الآية بين الله سبحانه وبين المسيح (ع) هو يوم القيامة. وأما "التوفّي" فيها فقد عرفت أنّه ليس مرادفاً للموت، بل هو بمعنى الأخذ تماماً الذي يتحقق تارة بالإماتة وأخرى بالنوم وثالثة بالأخذ من المجتمع. ولا يصح لأحد التمسك بمعنى منهما دون دليل.
وأمّا مصير عيسى (ع) بعد الرفع: وهل بقي حياً أم لا، فلا تدلّ الآيات السابقة على شيء من هذا.

الآية الرابعة:
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) (النساء/ 159).
إنّ لفظ "إن" في الآية هو بمعنى ما النافية، والمبتدأ محذوف يدل عليه سياق الكلام، فيكون معنى الآية هو (ما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنّ به)، والضمير في لفظ "به" ولفظ "يكون" هو نفسه ويرجع إلى عيسى (ع) بلا نقاش.
ولكن الكلام هو في قوله تعالى: (قبل موته)، فهو ضمير الهاء في (موته) يرجع أيضاً إلى (المسيح) (ع) أو يرجع إلى (أحد) المقدّر؟.
كلاهما محتمل ولا يمكن القطع بأي واحد من الاحتمالين لأوّل وهلة! إلا أنّ الإمعان في سياق الآية يؤيد رجوع ذلك الضمير إلى (المسيح) (ع) لا إلى (أحد من أهل الكتاب)، لأنّ البحث إنما هو حول قتل المسيح وصلبه، فيناسب أن يكون المراد من (موته) في الآية هو (موت المسيح) (ع) لا (موت الكتابي). وهذا يدل على كونه حيا، وأنّه لابدّ أن يدركه كل الكتابيين فيؤمنوا به قبل موته (ع).
فالتدبّر في سياق هذه الآية، وما ينضم إليها من الآيات المربوطة بها يفيد أن عيسى (ع) لم يُتوفّ بقتل أو صلب، ولا بالموت حتف الأنف، وأنّ الكتابيين جميعاً سيؤمنون به قبل موته، ويشاهدونه عياناً ويذعنون له إذعاناً لا خلاف فيه، وهذا فرع كونه حياً حتى يؤمن به كل كتابي قبل موته.

الآية الخامسة:
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (الزخرف/ 61).
إنّ هذه الآية وما قبلها هما بصدد بيان شأن المسيح (ع) وموقفه أمام الله سبحانه وتعالى، وأنّه لم يكن إلهاً بل كان كما وصفه سبحانه: (إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ) (الزخرف/ 59-60)، (وإنّه لعلم للساعة... مستقيم).
فسياق الآيات ينفي نفياً قاطعاً أن يكون القرآن أو النبي الأكرم (ص) مرجعاً للضمير بل المرجع في ضمير "إنّه" هو المسيح (ع) بلا شك لأنّ الآيات السابقة تبحث عنه (ع)، فالآية تفيد أنّ المسيح سبب للعلم بالساعة.. وعليه فيجب تحليل كيفية كونه علماً للساعة. وإليك الاحتمالات:
1- إنّه بخلقه من دون أب، أو بإحيائه للموتى دليل على صحة البعث وإمكانه: وهذا مرفوض لأنّ البحث ليس في إمكان البعث وعدم إمكانه، والآية لا تحتمل ذلك، وإلا لكان الأنسب أن تقول: وإنّه فعله دليل على إمكان البعث.
2- إنّ وجود عيسى دليل على قرب الساعة وشرط من أشراطها. وهذا أيضاً مرفوض، لأنّه لو كان وجوده دليلاً على قرب الساعة فوجود النبي الأكرم (ص) أولى بأن يكون كذلك.
3- فلم يبق إلا الاحتمال الثالث بأن وجود عيسى (ع) في ظرف خاص من الظروف (غير ظروفه السابقة الماضية) يكون علماً للساعة، فإذا أضيفت إليها الأخبار والروايات المستفيضة المصرّحة بنزوله في آخر الزمان، يتجلّى مفاد الآية بصورة واضحة.
هذا خلاصة القول في تبيين مفاد الآيات، حيث انّ الثلاث الأوّل تدل على كونه حياً عند الرفع، بينما الآيتان الرابعة والخامسة تدلان على حياته حتى الآن.


المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد 9 و10 لسنة 1989م

ارسال التعليق

Top