العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله
كيف نفهم مسألة الحريات في الإسلام... ومن أين تنطلق فكرة الحق فيما يردده الباحثون من مسألة حقوق الإنسان في الحرية... فهل هي شأن إنسانيٌّ تفرضه الحاجة الذاتية إلى التحرك بحرية، فيما يفكر، وفيما يقول، وفيما يعيش فيه من أوضاع وعلاقات، فلا يملك أحد أن يفرض عليه أي قيد: أو يخضعه لأيّ ضغط؟
وإذا كانت شأناً إنسانياً ينبع من عمق المعنى الإنساني الكامن في الذات، فهل هو حق الإنسان الفرد، لتكون الحرية حرية الفرد؟ أم هو حق الإنسان المجتمع، فليس للفرد أن يمارس حريته إلا في نطاق المجتمع فيما تفرضه حرية قضاياه ومصالحه، من حدود للفرد، كجزء من المجتمع؟. أم هي شأن إلهيّ، يحدده الله للإنسان في نطاقه الفردي والاجتماعي في حركة النظام الذي أراد للناس أن يعيشوا في داخله، مما قد يفرض الحدود على الفرد، وعلى الجماعة... لأنّ الله لا يريد للإنسان أن يعيش على هواه فيتخذ إلهه هواه... بل يريد له أن يتحرك من خلال خطة مدروسة منظمة، يعرف فيه كل فرد حدوده ودوره، لئلا تعيش الحياة في نطاق الفوضى؟ قد نستطيع القول انّ فكرة الحق في الإسلام تنطلق من تشريع الله للحق فهو الذي يشرع للإنسان أحكامه في علاقاته العامة والخاصة بالحياة وبالإنسان الآخر، وهو الذي يضع المفاهيم لتتحول إلى قيمة روحية أو أخلاقية، لأنّه خالق الإنسان، فهو الذي يملك منه ما لا يملكه لنفسه، وهو الذي يعرف ما يصلحه وما يفسده، أكثر مما يعرفه هو عن نفسه... وهو الذي يعرف الدور الذي يجب أن يقوم به، أو الذي يجب أن يمتنع عنه... ولكن... هل معنى ذلك انّ الإنسان لا يملك شيئاً من أمره، فهو كميَّة مهملة، لا أهمية لها؟ أم أنّ المفهوم الإسلامي يختلف عن هذه النظرة؟ لقد خلق الله الإنسان وجعله خليفة في الأرض، وجعل له الدور الكبير في بناء الحياة عليها وقيادتها... وأعطاه العقل الذي جعله الحجة على كل فكر ينتمي إليه، وكرّمه على الخلق، وفضّله على كثير من خلقه... ثمّ أنزل الوحي على بعض أفراده، ليحملوا رسالته إلى الناس كافة، ودعاه إلى أن يفكر، واعتبر الفكر هو الطريق الذي يقود إلى المعرفة وأراد له أن يتحمّل مسؤوليته في العقيدة والإنتماء من خلاله، فلا مجال لأي التزام ناشئ من تقليد الآباء والأجداد، أو من الخضوع للبيئة الضاغطة، أو للانفعالات النفسية الطارئة، أو للمصالح الذاتية المعقّدة. وهكذا كان الإنسان حراً من هذا الموقع، فليس للفكر حدود يقف عندها إلا فيما لا سبيل له إليه، كعالم الغيب الذي لا يملك أدوات المعرفة الذاتية، لخصوصياته، ولكنه يملك إثباته بطريق الإمكان العقلي، والإثبات الذاتي مما يجعل من الإيمان به إيماناً منفتحاً يرتكز على أساس ثابت، لا إيماناً أعمى. وهذا ما أكده القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29). ولكن الإسلام يؤكد في أكثر من آية انّ الجانب الأساس في العقيدة الإسلامية من وجود الله وتحيده واليوم الآخر ومفاهيمها العامة، يملك أكثر من دليل في العقل والوجدان والمفردات الكونية في عالم الطبيعة في السماوات والأرض، مما يجعل من الانكار في هذه الدائرة انكاراً للحقيقة، ولهذا فإنّه يوجّه النداء الحاسم إلى كل الذين ينكرون ذلك بقوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل/ 64). ويتهمهم بالجهل فيما يتحدثون به من جدالهم بالباطل، من خلال أنهم لا يملكون أدوات الجدال بالحق، لأنّهم لم يأخذوا بأسباب العلم، وذلك في قوله تعالى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) (آل عمران/ 66). وفي ضوء ذلك دعاهم إلى أن يأخذوا الحوار كأساس للوصول إلى حل المشاكل الفكرية، إن كانت لديهم مشكلةٌ في العقيدة من ناحية الفكر، وإلى مواجهة الحالة النفسية المعقدة بطريقة معقولة متوازنة، وأراد للمسلمين الذين يريدون الحوار مع هؤلاء، أن يدعوا إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن وأن يقولوا التي هي أحسن، وأن يدفعوا بالتي هي أحسن ليحوّلوا أعداءهم إلى أصدقاء. وهكذا نجد أنّه لم يغلق على الإنسان الذي يقف في الجانب المضاد، باب الوصول إلى القناعة اليقينية من موقع الحوار الذي يملك فيه كل حريته في أن يقول ما يشاء لتأكيد موقفه، وللاعتراض على موقف العقيدة الإسلامية كما يستطيع أن يناقش في كل شيء، فليس هناك شيءٌ محظور في الحوار إبتداءً من الإيمان بوجود الله تعالى ووحدانيته، مروراً بمسألة النبوة والوحي وشخصية النبي واليوم الآخر، إلى آخر أيّ مفهوم في العقيدة والشريعة... مما يوحي بأنّ الإنسان لا يتجمد أمام الحقيقة المدّعاة ولا يشعر بالإحباط أمام جهله، ولا ينطلق من موقع الإيمان الأعمى... وإذا كانت العقيدة الدينية تختزن بعض المفردات الغيبية التي لا يحيط بها الفكر في خصوصياتها، فإن ذلك لا يعني انطلاق الإيمان بها من غير موقع العقل، بل لابدَّ من أن يتدخل الفكر ليرصد القاعدة التي يرتكز عليها الإيمان بالغيب، في دائرة النبوات التي ينطلق الإيمان بها من موقع المحاكمة العقلية لشخصية النبي ودوره وطبيعة الأسس التي ينطلق منها الإيمان بالنبي بشخصيته الرسالية. ومن هنا، فإنّ مسألة الحرية الفكرية في المفهوم الإسلامي العقلي، وفي النصوص القرآنية لا تقف عند حد، فلم يمنع الإسلام الفكر من مناقشة أي شيء إلا الأشياء التي لا يملك أدواتها في تفاصيل المعرفة... إذ لا سبيل له إلى مواجهتها بطريقة فكرية تفصيلية... ومن هنا كانت مشكلة الكفر لديه بالنسبة إلى الكافرين، ليست مشكلة فقدانهم لعناصر القناعة اليقينية بمفردات الإيمان، بل فقدانهم لتحريك الطاقات التي تنفتح على آفاق المعرفة ومفرداتها وابتعادهم عن الأخذ بأسبابها... مما يجعلهم يهربون من مواجهة الأسئلة التي تتحدى جهلهم، وكفرهم، وطريقتهم في الحياة، ويمارسون الموقف من منطق اللامبالاة... فلا يواجهون دعوة الأنبياء إلى الإيمان من خلال التأمل والحوار مواجهة جدية، بل يقفون منها موقف السخرية والتهديد وتوجيه الاتهامات اللامسؤولية إلى الأنبياء من دون أساس ثابت... وهذا ما صوّره القرآن الكريم بقوله تعالى: (قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ...) (الأعراف/ 179). وفي الآيات التي يوجّه فيها الخطاب إليهم بقوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أو قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا)، أو فيما وصف به المشركون بأنهم لا يعلمون في قوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) (البقرة/ 113)، وقوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الرعد/ 19)، أو في قوله تعالى: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد/ 24)... وهكذا نجده في هذا الجو المتحرك مع العقل كقيمة إنسانية تتصل بحركة الوجود الإنساني في مسؤوليته في نطاق المعرفة... وفي ضوء هذا، جعل الإسلام المسؤولية في الانحراف العقيدي خاضعة للقدرة على المعرفة بالقدرة على الوصول إلى عناصرها وأدواتها، فمن كان قادراً عليه، فلا عذر له في جهله أو انحرافه، ومن كان عاجزاً فله العذر في دائرة عجزه، ولهذا فرّق العلماء بين الجاهل القاصر الذي لا يملك سبيلاً لمعرفة وبين الجاهل المقصر الذي يملك السبيل إليها... ولكنه لا يأخذ بها عناداً واستكباراً، وقد حدثنا القرآن عن المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يجدون سبيلاً.. فيمن استثناهم من المستضعفين الخاضعين لأفكار المستكبرين كما أطلق القاعدة العامة في المسؤولية الجزائية أمام الله في قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) (الإسراء/ 15). وإذا كان الإسلام يطلق الحرية بهذه السعة، ويحركها في هذا الاتجاه فكيف يمكن أن يحدد موقفه من مسؤولية المعرفة في حرية الناس في التعرف على الآراء المختلفة؟.. هل يبيح للإنسان الذي يحمل الفكر المضاد أن يطرح فكره في الساحة ليناقشه الآخرون ليؤمنوا به، من موقع الإيمان، أو يكفروا به من موقع عدم القناعة اليقينية أم أنّ الإسلام يحظر ذلك فلا يسمح للساحة أن تتحدث عن أي فكر آخر، فلا حرية إلا للفكر الإسلامي.. وبعبارة أخرى، هل في الإسلام حرية فكرية بالمعنى الاعلامي للحرية في إظهار الفكر ونشره؟ أم ليس فيه مثل هذه الحرية...؟ ربما يطرح البعض المسألة على أساس أنّ الإسلام لا يلتزم بهذه الحرية، لأنّ أيِّ فكر مضاد فهو فكر الباطل الذي يتسع للكفر والضلال، مما يجعل من حرية الدعوة إليه، أو نشره، وسيلة من وسائل تشجيع الباطل على الامتداد والتوسع في الواقع الإنساني. وهذا أمر مرفوض عقلاً لأنّ الله قد أنزل رسالته ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، فكيف يسمح للكافرين بتأكيد فكرهم بالدعوة إليه بكل الوسائل المتاحة لهم؟ ويتحدث العلماء عن حكم عقلي بحرمة تشجيع كل المواقع الاعلامية للضلال لما يترتب عليه من الاضلال المرفوض عقلاً وشرعاً، مظَّنة أو قطعاً. ولكننا نريد أن نعالج المسألة من حيث المبدأ ومن حيث التفاصيل لنطرح سؤالاً محدداً وهو: هل مثل هذه الحرية في نشر الفكر المضاد بالوسائل الاعلامية المختلفة تؤدي إلى الاضلال الاجتماعي، بحيث تكون المسألة مرتبطة بالنتائج السلبية المترتبة على ذلك في مواجهة الاسلام كعقيدة وكحركة حياة؟ وإذا كان الجواب إيجاباً، فهل يكون التضييق على الفكر ومحاصرته، أو منعه من أن يتنفس، موجباً لإنهاء هذا الفكر ابعاده عن التأثير في عملية الاضلال... لأنّ الساحة لا تحمل إلا الفكر الإسلامي، فلا فكر غيره... فيبقى التأثير له وحده؟ أم أنّ المسألة ليست بهذه المثابة من الوضوح، لأنّ الفكر المضاد قد يتحول من المواقع العلنية إلى المواقع السرية، في نطاق الأوضاع المعقّدة التي يفرضها الحجر الفكري، فيعمد ملتزموه إلى البحث عن الثغرات الموجودة في حياة الأمة لينفذ فكرهم إلى الواقع من خلالها في الأجواء المثيرة التي تغري بالاهتمام، وتوحي بالتطلع إلى ملامح الغرابة في الفكر السري الذي قد يكون البحث فيه، وعنه، يشبه البحث عن عمق الأسرار، ودقة الأفكار، مما يجذب الكثيرين إلى التزامه والإنتماء إليه من خلال ذلك الموقع الغريب؟ وبذلك يتحرك هذا اللون من الفكر بعيداً عن الرقابة الفكرية الإسلامية التي قد تستطيع مواجهته بالحوار والمناقشة، والرفض العلمي الدقيق، وقد يمتد في تأثيره في الأمة إلى المستوى الذي قد يهدد سلامتها في خطها الفكري، عندما ينجح في استقطاب عدد كبير من الأُمّة إلى جانبه، بينما تضعه الحرية الإعلامية تحت رقابة الفكر الإسلامي الذي يعرف كيف يواجهه بمختلف الوسائل الفكرية التي تستطيع محاصرته بالحجة والبرهان، بدلاً من مواجهته بالقوة والقهر، وذلك بعد أن تنزع عنه الهالة السحرية التي يكتسبها من خلال الجو السحري الذي يوحي بالكثير من الأوهام. اننا نجيب عن هذا السؤال بالتأكيد على أنّ الحرية الفكرية التي تسمح بطرح كل الأفكار في ساحة الفكر على مستوى حركة الصراع لا تؤدي – دوماً – إلى الضلال، بل ربما تقوّي جانب الحق عندما يكتشف الناس، من خلال المقارنة، نقاط الضعف التي يختزنها الباطل في مقابلة نقاط القوة التي تتمثل بالحق... لا سيما إذا كانت الملاحقة سريعةً، متتابعة، بحيث لا يطرح فكرٌ إلا ويبادر الفكر الآخر إلى مواجهته، ولا تطلق شبهةٌ فكرية ضد الفكر الحق إلا وينطلق العمق الفكري ليوضح طبيعتها فيما تثيره من علامات الاستفهام، أو نقاط الضعف، ليجيب عن كل سؤال، وليحرك نقاط القوة أمامها، الأمر الذي يمنع الفئات المضادة من فرض فكرها على الواقع، ومن اضعاف الفكر الإسلامي في مواقعه. وإذا كانت الحرية قد تجتذب بعض السلبيات، فإنها قد تجتذب الإيجابيات بشكل أكثر فاعلية وقدرة على الثبات. وهذا ما نلاحظه في الأسلوب القرآني الذي طرح أمامنا كل الفكر الوثني، الملحد والمشرك، فيما يتعلق بالله في مسألة وجوده أو توحيده، وفيما يتعلق بالنبي (ص) من خلال التحديات التي كانت تواجهه بالاقتراحات التعجيزية في مطالبتهم إياه بالمعاجز التي كانت هي الوسيلة التي تسوغ إيمانهم بنبوته أو بالاتهامات الموجهة إليه في الحديث عن القرآن بأنّه "أساطير الأولين أكتبتها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً" أو الحديث عن مصدر علمه وثقافته بالايحاء بأنّه "يعلّمه بشر" أو باطلاق الكلمات غير المسؤولة التي تتحداه في عقله ليقولوا انّه مجنون، أو في شخصيته النبوية، ليقولوا انّه شاعر أو كاهن، أو في صدقه، ليقولوا انّه كاذب، أو فيما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر في الاستبعاد الذي كانوا يثيرونه أمام امكانية الحياة بعد الموت. وهكذا رأينا انّ القرآن قد خلّد لنا الفكر المضاد، بحيث يطرح أمامنا كل علامات الاستفهام حول هذه الأمور المتصلة بمضمون العقيدة التي كان يطرحها الملحدون والمشركون، مما قد يثير شكاً لدى بعض، وريباً لدى بعض آخر، لا سيما فيما يتصل بشخصية النبي (ص) الذاتية في صفاته الخاصة، بحيث يخيَّل للسامع للقرآن أن ابتعادنا عن عهد الرسالة قد يبعدنا عن الدقة في معرفة شخصية الرسول. وإذا كان دعاة اضطهاد الفكر يدافعون عن هذه الملاحظة، بأنّ القرآن قد طرح فكر الآخرين مقارناً بالرد العلمي أو الوجداني عليه، مما قد يمنع من تحقيق الضلال به... فإننا نجيب على ذلك بأننا لا ندعو إلى حرية ينسحب فيها الإسلاميون بعيداً عن ساحة الصراع الفكري بل ندعو إلى الحرية التي تؤكده وتمنحه قوةً وحركةً وسيطرةً وثباتاً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإننا نلاحظ أن أفكار الناس تختلف في استيعابها للمناقشات الفكرية التي يطرحها القرآن، مما قد يسيء بعضهم فهمه، فيجد ضعفاً أو شبهةً، لقصور فكره، أو يلاحظ فيه إجمالاً، يبقى معه الوضوح للطرح الآخر في مواجهته الغموض في الرد... وبذلك قد يضل الناس بهذه الطريقة، كما قد يضلون بطريقة عرض الفكر المضاد من دون رد. وهكذا نجد أنّ المسألة لا تخلو من السلبيات في أي موقع من المواقع، وربما كانت سلبيات السرية أكثر من سلبيات العلنية في كثير من الأوضاع... فيما ألمحنا إليه عند طرح السؤال. ولعل التجربة المتنوعة في حركة الواقع الفكري، تدلنا على انّ الذين فرضوا فكرهم بحصار الفكر الآخر، لم يستطيعوا أن يضمنوا الإمتداد لهذا الفكر في حياة الناس بأكثر مما لو أفسحوا المجال لذلك الفكر أن يأخذ مكانه في ساحة الصراع الفكري إلى جانب فكرهم. بل ربما يشعر الناس بالعطف على الفكر المحاصر على أساس انّ الناس تتعاطف مع المضطهدين أكثر مما تتعاطف مع الذين يضطهدونهم، وإذا كانت الصورة البارزة هي صورة الفكر الرسمي، فقد تكون الصورة في الخفاء شيئاً آخر. وهذا هو الذي جعل بعض العلماء يرى عدم حرمة حفظ كتب الضلال ونشرها في ذاته، لأنّ الأدلة التي أقامها القائلون بالتحريم لا تثبت أمام النقد، كما في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...) (لقمان/ 6)، ولكن الآية تتحدث عن الناس الذين يعملون في سبيل الضلال كهدف يعملون له، بقطع النظر عمّا إذا كانت الوسائل تتضمنه في مدلولها أو أنها تصرف الناس عن الحق، بما تثيره من اللهو الذي يشغل الناس عن سبيل الله، وعن استماع القرآن، فهي في مقام الحديث عن هذا النموذج السيء من الناس، لا في مقام الحديث عن طبيعة وسائلهم المتبعة وحكمها الشرعي في نفسها. وكقوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج/ 30)، باعتبار أن نشر كتب الضلال ومطالبه من مصاديق الزور وهو الباطل، ولكن اجتنابه يوحي بالإبتعاد عنه، لا بمنع حرية نشره في ذاته من قبل الآخرين، وكما ورد في "تحف العقول"، إنّما حرّم الله الصناعة التي يجيء منها الفساد محضاً، وقد نلاحظ على ذلك أننا نناقش في مسألة ترتب الفساد المحض عليها، لأننا قد نرى وجود فائدة من ذلك، من خلال المقارنة بين النتائج السلبية والإيجابية. وفي ضوء ذلك لابدّ أن ندرس المسألة من خلال العناوين الثانوية الطارئة على الموضوع، فيها توجبه من المصالح والفوائد، أو فيما تؤدي إليه من المفاسد والمضار، لنحدد الحكم الشرعي على أساس ذلك من خلال دراسة النتائج المباشرة أو غير المباشرة، أو من خلال مواجهة التحديات الثقافية الموجهة نحو العالم الإسلامي فيما يراد أن يثار حوله من التهم المتعلقة بالحريات، أو غير ذلك من القضايا التي قد يكون منها حاجة الأمة إلى الاطلاع على الأفكار الأخرى لتقوى على الوقوف أمامها من خلال المعرفة، فإنّ الإنتماء إلى خط فكري لا يملك الاطلاع على الخطوط المضادة قد يؤدي إلى الضعف والسقوط تحت تأثير الشبهات المتنوعة التي تحركها الخطوط الأخرى ضده، وذلك على أساس الفكرة الحركية القائلة إن معرفتك لكل أفكار عدوك هي جزء من الخطة التي تحصن فيها نفسك ضده... بينما يكون الجهل به مؤدياً إلى أن تقع في أحابيل مكره وكيده من دون شعور. ولقد أحسن صاحب "جامع المقاصد"، فيما نقله عنه الشيخ الأنصاري في "مكاسبه"، في حديثه عن حفظ كتب الضلال الذي هو العنوان الفقهي للمسألة التي نتحدث عنها في حرية الإعلام للفكر المضاد، حيث قال: "إنّ فوائد الحفظ كثيرة" مما يجعل القضية المطروحة أمام العاملين الإسلاميين، أن يدخلوا دائماً في دراسة المصالح والمفاسد التي هي الأساس في تحديد الحكم الشرعي القائم على حركة التزاحم في ملاكات الأحكام، وتقديم الأهم على المهم، ليكون الحكم الفعلي في دائرة الأهم. وربما كان الحديث عن الحرية الفكرية في المجتمع الذي يخضع لحكم الإسلام قد يطرح الكثير من التحفظات ضدها، فيما قد يثيره من ضرورة الحفاظ على القاعدة الفكرية التي ترتكز عليها الدولة في وجودها وحركتها لأن ذلك يمثل نوعاً من حماية المجتمع من تيارات الكفر والضلال التي قد تستغل مواطن ضعفه... مما يفرض على الدولة أن تضع خطة تفصيلية للمسألة الفكرية في حركة الحرية والتقييد لتحدد – من خلالها – للمجتمع ما يأخذ به، وما يدعه، مما قد يصلحه أو يفسده. ولكن المسألة قد تختلف عندما يكون المجتمع خاضعاً لحكم آخر على أساس عقيدة أخرى مضادة، أو غير ملائمة، أو عندما يحمل الواقع الفكري أكثر من تيار، فيما يحاول فيه كل فريق أن يتغلب على فريق آخر في ساحة الصراع الفكري، ليكون الموقع للأقوى... فإن علينا أن نقف لندرس حركة الواقع بطريقةٍ مختلفةٍ، فقد يكون الموقف، أن حرية الآخرين في الاعلان عن فكرهم هو الذي يمنحنا حرية الاعلان عن فكرنا، عندما يحاول الحكم المضاد أن يحجر حرية الفكر على الجميع، في الظروف التي لا نستطيع فيها من الحصول على حريتنا بشكل خاص، فقد يكون من الضروري، أن ندافع عن حرية الآخرين ونعمل على حمايتها، حتى لو كان الفكر مخالفاً لقواعدنا الفكرية... ولعل من الطبيعي، في حركة الدعوة، أن ندرس الشروط الضرورية لحماية مواقعنا من حركة الآخرين في الإتجاه المضاد، فيما نملك من قوة فكرية وعملية، لأنّ المسألة المطروحة هي أن تتحرك مسألة الحرية في مواقع القوة التي تملك خوض ساحة الصراع بوسائلها الخاصة، لا في مواقع الضعف التي تجعلك خاضعاً لكل الضغوط القوية المفروضة على الواقع كله، فإنّ الضعفاء لا يملكون أن يحركوا أية قضية في الساحة، ولا أن يدافعوا عن أي موقف، سواء كان ذلك متصلاً بموقفهم، أو بموقف الآخرين. ومن خلال ذلك، فلابدّ لنا من دراسة المواقع الثقافية لنحدد الشعار الذي نطرحه فيها في مسألة إلتزامنا الحرية الفكرية، فيما نريد أن نثيره من شعارات بارزة في ساحة التحدي ضد الطغاة والمستكبرين. وخلاصة الفكرة، أنّ الخط العملي في مسألة الحرية الفكرية يختلف حسب اختلاف طبيعة القوة التي يملكها الإسلام في سيطرته على الجو العام، أو في سيطرته على بعض المواقع، أو في ضعفه أمام المواقع الأخرى، أو طبيعة القوة التي يملكها الآخرون. فلابدّ لنا من دراسة ذلك كله لتكون نتائج الدراسة هي التي تحدد لنا الموقف من خلال الحكم الشرعي الذي تؤدي إليه العناوين المتنوعة في الساحة، وربما يفرض علينا الموقف، أن ندرس نوعية الأفكار التي نعمل على توفير الحرية لها، أو حماية حريتها، فقد نحتاج إلى أن ندخل في عملية التفاضل بين فكر وآخر حسب قربه من فكرنا أو بعده عنه ليكون الفكر الأقرب إلينا هو الذي يثير اهتمامنا بطريقة أكثر فاعلية في حركة الحرية. وإذا كان الحديث الذي أثرناه متصلاً بالجانب الفكري للحرية، فقد يكون الحديث عن الجانب السياسي أكثر حركيةً على صعيد الواقع الذي نطرح فيه هذا السؤال: هل في الإسلام مجال للمعارضة الداخلية التي قد تتمثل في فرد، أو جماعة، أو حركة، تنقد الحاكم فيما قد يكون أخطأ فيه، أو انحرف، مما قد يتصل بشرعية بقائه في الحكم، أو في الولاية، أو يتصل بمشروعية الخط الذي يتحرك فيه في نطاق السياسة الداخلية والخارجية؟ قد يطرح بعض، في الجواب، الموقف السلبي في المعارضة السياسية من خلال نقطتين: النقطة الأولى: انّ الحكم الاسلامي ينطلق من خط مستقيم سليم يتحرك في أجواء القواعد العامة للشريعة، وللفهم الدقيق للواقع، وللعمق الشرعي في مسألة التطبيق، مما يمنع من وجود حاجة للمعارضة التي تعمل على ملاحقة أخطاء الحكم وانحرافاته... لأنّه ليس حكماً مبنياً على الهوى والسطحية والارتجال، بل هو مبني على المبدأ والعمق والدراسة والتخطيط، فإن عنوانه الحاكم العادل الذي تمنعه عدالته من مواجهة المسألة ببساطة أو اهمال. النقطة الثانية: هي أنّ المعارضة السياسية قد تؤثر تأثيراً سلبياً في مواقع الحكم الثابتة، فتفتح فيها أكثر من ثغرة للشك في سلامة الحكم من قبل أفراد الأُمّة ثقتها بالحكم، فقدت طاعتها له وتأييدها لحركته، مما يدفع بالمسألة إلى خطورة كبيرة في طبيعة وجوده، كما أنها قد تفتح الثغرات التي يشتغلها أعداء الإسلام في الداخل والخارج لينفذوا منها إلى إيجاد حالة من الاهتزاز التي قد تؤدي به إلى السقوط. ولكن هاتين النقطتين تثيران أمامنا أكثر من ملاحظة: أوّلاً: انّ انطلاق الحكم من قاعدةٍ شرعية ثابتة، ومن عمق في فهم الواقع، ودقّةٍ في تطبيق القواعد، وفي تخطيط الحركة، لا يعني العصمة من الخطأ. كما أن عدالة الحاكم قد تمنعه من تعمد الخطأ، أو الانحراف ولكنها لن تنقذه من الوقوع فيه، من خلال الإجتهاد الخاطئ، أو الغفلة والسهو والنسيان. كما أنّ العالم قد يجهل، والعادل قد ينحرف، تحت تأثير نقاط الضعف الداخلي، أو ضغط العوامل الخارجية. ثانياً: ان ولاية الفقيه، تعني الطاعة في حال عدم اكتشاف الخطأ، لأن أمر الفقيه، لا يمثل حالة موضوعية مطلقة في فعلية التكليف الذي يقود إلى الحركة من الموقع الشرعي، بل يمثل حالة طريقةً في الكشف عن الواقع الذي قد يصيبه الفقيه، وقد يخطئ فيه. فلا مجال لوجوب الطاعة عند القطع بالخطأ، وبذلك يكون النقد الذي تمارسه المعارضة، فيما تقصده من المواقف، وفيما تدرسه من الاجتهادات، وسيلةً من وسائل التعاون مع الولاية على تسديد الخط، وتقويم المنهج، وتثبيت الموقف على أساس الحق. ثالثاً: انّ المعارضة لا تهز ثقة الأمة بقيادتها، وبدولتها، وخطوات الحكم الذي يسيطر على أمورها... لأنّها لابد أن تخضع للشروط الشرعية التي تجعلها معارضةً بناءةً لا معارضةً هدامةً... لأنّ المسألة المطروحة ليست هي مسألة أن نهدم موقعاً هنا أو شخصاً هناك، لنضع مكانه موقعاً أيَّ موقع، وشخصاً أيّ شخص، كما يحدث في بعض الديمقراطيات الغربية أو غير الغربية في العالم... ليكون النقد حركةً في تسجيل النقاط، لا تسديد المواقف... وإذا عرفت الأُمّة فكرة النقد، كوسيلة من وسائل تثبيت الحكم، على أرض صلبة من الحق والصواب... فإنها لا تلبث أن تتعاون مع الحكم والمعارضة، لتركيز المواقف على أساس ثابت. اننا نثير المسألة من حيث المبدأ، ولا مانع من أن نبحث التفاصيل الدقيقة التي تحفظ للموقف سلامته، وللحكم الإسلامي ثباته... ورابعاً: ان نقد الحكم ليس مجرد حق شرعي للمعارضة التي تأخذ شرعيتها من حاجة الحق إلى من يكتشفه في مواقع الخطأ والصواب، وإلى من يدعمه في حالة تعمد الخطأ والانحراف، بل هو حق للأُمّة، أن يكون من بينها، فريق يلاحق سلامة الحكم في النظرية والتطبيق، واستقامة الحاكم على الخط السليم.. لأنّ حق الحاكم في الطاعة، ليس أمراً ذاتياً متصلاً بموقع الاحترام في شخصيته، بل هو أمر عام يتصل بمصلحة الأُمّة في قضاياها، مما يجعل نقده قضية ترتبط بالحق العام، لا بالحق الخاص. ولعلنا نلتقي بهذا الاتجاه يمنح المعارضة شرعيتها الإسلامية في مواجهة الحكم، وكما يقدم إلينا الحاكم الإسلامي الذي لا يريد للأُمّة أن تتعامل معه بطريقة المدح والثناء ونحوها من أساليب التعظيم التي درج الناس على المبالغة فيها مع حكامهم وقادتهم، مما يغلب عليه طابع التزلف والمداجاة، وذلك في بعض كلام الإمام علي (ع) في "نهج البلاغة" في خطبته التي خطبها بصفين: "وان من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر ويوضح أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء، ولست بحمد الله كذلك، ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء، وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا عليَّ بجميل ثناء لاخراجي نفسي إلى الله سبحانه وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لابُدّ من امضائها. فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، لا ولا التماس اعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فاني لست بفوق أن اخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني، فإنما أنا وأنتم عبيد مملكون لربّ لا ربَّ غيره يملك منّا مالا نملك من أنفسنا وأخرجنا مما كنّا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى". فنحن نلاحظ أنّ الامام يرفض أساليب المدح والثناء، وطريقة التكلم مع الجبابرة ويدعو الناس إلى أن ينقدوه ويغريهم بذلك عندما يؤكد لهم بأنّه ليس بفوق أن يخطئ، ونحن نعتقد عصمته، ويؤكد الحقيقة السياسية انّ الذين يرفضون النقد للخطأ، فإنهم لا يملكون الانفتاح على الحق لأن الذي يثقل عليه الكلام، لابدّ أن يثقل عليه إلتزام لمضمون الحق في الممارسة العملية. وقد نستطيع أن نجد الملامح البارزة للمعارضة السياسية في مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو الأسلوب الواقعي العملي للتغيير والاصلاح في المجتمع، في مواجهة حالات الانحراف الطارئة على مستوى الحاكم والمحكوم مما يجعل المسألة في حجم المسؤولية التي يمثل اهمالها اهمالاً للواجب المفروض على الإنسان المسلم. وإذا كان الإسلام قد حرّم التجسس والغيبة والظن السيِّئ بالآخرين، فإن ذلك قد يكون في دائرة العنوان الأوّلي الذي يتصل بالعلاقات الإنسانية في الاطار الذاتي، ولكنه لا يمتد إلى دائرة العنوان الثانوي الذي قد تدخل معه القضية في باب النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم، عندما يكون الموضوع مرتبطاً بالقضايا الكبرى التي تمس المصلحة الإسلامية العليا، وعندما يتحول الانحراف الخاص إلى انحراف عام، وذلك في الشخصيات التي تملك صفة عامة في الموقع القيادي السياسي أو الاجتماعي أو غيره... وقد ذكر الفقهاء ذلك في مستثنيات الغيبة وغيرها من المحرمات التي يزاحمها حرام أهم، أو واجب أشد في اختزانه للمصلحة العامة. وقد نستوحي من كلمة الامام علي (ع) في "نهج البلاغة": "إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله، ثمّ أساء رجل الظن برجل، لم تظهر منه حوبة فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر...". إنّ من الممكن أن يعيش الإنسان بعقلية سوء الظن بالآخرين من أجل الوصول إلى خفايا الأمور الدقيقة التي قد يختفي في داخلها الانحراف. وهذا ما نفهم منه كيف يمكن أن تتحرك المعارضة السياسية في داخل الواقع الإسلامي، بحيث تتجاوز كثيراً من الحدود التي قد تقف حائلاً بينها وبين الواصل إلى الأهداف الكبرى من الأحكام الشرعية الإلزامية في دائرة التحريم والوجوب. وقد لا نحتاج إلى التأكيد بأنّ المسألة التي نعالجها في الحرية السياسية في المعارضة، هي في دائرة المبدأ، أما التفاصيل المتعلقة بالمفردات العملية الخاضعة للظروف الضاغطة، التي قد تلقي كثيراً من مواقعها فيما يشبه حالات الطوارئ، أو التي تجمد بعض وسائلها من خلال النتائج السلبية المترتبة على ذلك. أما هذه التفاصيل، فإنّها تخضع للمصالح والمفاسد العليا التي تعيش في الساحة الإسلامية العامة التي تحدد للحكم الشرعي السلبي أو الإيجابي دائرته وحركته تبعاً لقوانين التزاحم في ملاكات الأحكام التي يحكم بها العقل ويحددها الفقهاء. ولكن هل يعني ذلك اطلاق حرية الأحزاب السياسية، كحق من حقوق الناس الذين يلتزمون فكراً سياسياً مضاداً للفكر السياسي الإسلامي، أو الذين ينتمون إلى محور سياسي آخر في الدائرة الدولية أو الاقليمية بالمستوى الذي قد يتنافى مع السلامة العامة للأُمّة، أو للنهج الإسلامي في الحكم والتشريع والحركة... باعتبار أن ذلك يمثل وجهاً من وجوه حرية العمل السياسي في المعارضة السياسية؟ إنّ الجواب، هو أنّ المسألة قد تختلف في هذه الدائرة، فإنّ السماح بالحرية السياسية من داخل الفكر الإسلامي لا يمثل أي خطر على الساحة الإسلامية العامة، بل ربما يربك بعض مواقعها قليلاً إذا أخطأ الذين يمارسونها في أساليبهم ووسائلهم، ولكنهم يؤكدون المصداقية الإسلامية في النقد السياسي فيما يحاولونه من تسديد المواقف وتصحيحها بينما تتحرك الأحزاب المضادة في الفكر، أو المخالفة في الأهداف لتكون البديل عن الحكم الإسلامي، بالذات عندما تستغل حريتها لتجمع الناس حولها من خلال بعض الأساليب والأوضاع التي قد تخاطب عواطف الناس ومشاعرهم، وتستغل مشاكلهم وآلامهم... وليس من الطبيعي أن يسمح الحكم الإسلامي الذي عانى الكثير الكثير حتى وصل إلى موقع المسؤولية في مراكز السلطة العامة لأية قوة لكي تقتلعه من موقعه وتفسح المجال للفكر وللظلم وللطغيان. إنّ معنى ذلك، أن يفسح الحكم الإسلامي المجال للآخرين، ليهدموا قواعده وليبعدوه عن الساحة. وإذا كنا قد تحدثنا عن الحرية الفكرية، للفكر الآخر فإننا نتحدث عن الوسائل الفكرية التي تتحرك في ساحة الصراع مع الفكر الإسلامي الذي يجد في وجود الفكر المضاد معه في ساحة واحدة مجالاً للحصول على فرصة كبيرة في تأكيد مواقع الحق لديه، واحتواء الآخرين من خلال ذلك، مما لا نجد فيه أية خطورة على العقيدة والمنهج والشريعة. ولعل الرأي الإسلامي، الذي نثيره في حديثنا هذا، يتفق في النتائج مع أي موقع من مواقع الدول التي تقوم على فكر ملتزم شامل، فإنّها لا تجد أي معنى لإعطاء الفرصة للأحزاب غير المؤمنة بالقاعدة الفكرية للدولة لأن تأخذ حريتها في الحركة السياسية المضادة في داخل البلد. ولكن هذا النهج الذي أكدناه من التحفظ في اعطاء الحرية للأحزاب المضادة قد لا يكون شاملاً لكل الظروف التي تحيط بالدولة الإسلامية، فقد يفرض عليها الوضع الدولي الضاغط، أو المرحلة السياسية الانتقالية أو الظروف القلقة التي تعيش فيها البلاد التحدي الكبير في مسألة حريتها واستقلالها، أن تمنح الحرية لهذا الحزب أو ذاك، عندما تقتضي المصلحة ذلك، أو عندما يكون هناك مفسدة في المنع... ولكن ذلك لا يعني اعطاء الحرية المطلقة، فقد يكون من الضروري احاطة المسألة بضوابط عامة وخاصة، لحماية الساحة الكبرى مما قد يحصل من الأخطاء. · أننا نقدم هذه الأفكار للمناقشة لأنّ المسألة تتصل بالقضية الأكثر خطورة على سلامة الإسلام في حركة الحرية في الفكر وفي الحركة، وفي الواقع. المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 43 لسنة 1989ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق