• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

معنى الأخوة في الله

حسني أدهم جرار

معنى الأخوة في الله
   الأخوّة في الله رباط إيماني يقوم على منهج الله.. ينبثق من التقوى ويرتكز على الاعتصام بحبل الله.. والأخوة في الله منحة قدسية، وإشراقة ربّانية، ونعمة إلهية.. يغدقها الله عزّ وجلّ على قلوب المخلصين من عباده، والأصفياء من أوليائه والأتقياء من خلقه الذين علم منهم صدق إيمانهم وعميق إخلاصهم.. إنها قوة إيمانية نفسية تورث الشعور العميق بالمحبة والعاطفة والاحترام، والثقة المتبادلة بين الذين تربطهم أواصر العقيدة الإسلامية، ووشائج الإيمان والتقوى.. فهذا الشعور الأخوي الصادق يولد في نفس المؤمن أصدق العواطف النبيلة، وأخلص المشاعر الصادقة.. في اتخاذ مواقف إيجابية: من المحبة والإيثار، والرحمة والعفو، والتعاون والتكافل.. وفي اتخاذ مواقف سلبية: من الابتعاد عن كل ما يضر الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وكرامتهم.. ولذا كانت الأخوّة في الله صفة ملازمة للإيمان، وخصلة مرافقة للتقوى.. إذ لا أخوّة بدون إيمان، ولا إيمان بدون أخوّة.. فالله تعالى يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات/ 10). كما أنّه لا أخوة بلا تقوى، ولا تقوى بلا أخوة.. والله تعالى يقول: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف/ 67).. فإن وجَدْتَ أخوة ولم تجد من ورائها إيماناً فهو التقاء مصالح وتبادل منافع، وإن وجدت إيماناً ولم تجد بجانبه أخوة فهو إيمان ناقص يحتاج إلى معالجة. والنفس الإنسانية القائمة على الإيمان، والممتزجة بالتقوى بمجرد أن تلتقي مع يماثلها إيماناً وتقوى فإنها تشعر بالأنس في أول لحظات اللقاء، وتحس بالصفاء في أول لمحات التعارف.. بل وتمتزج نفساهما كأنهما نفس واحدة، ويتجاذب قلباهما كأنهما قلب واحد، فإذا المحبة تنبض في عروقهما، والأخوة تسري في دمائهما، والمودة تتألق في وجهيهما.. فيمسك الأخ بيد أخيه في رفق وحنو وإشفاق.. ليسيرا معاً في رياض الصفاء، ويتنسّما جنباً إلى جنب نسمات الوفاء، ويتفيّئا أثناء المسيرة ظلال المحبة الوارفة.. وإلى هذه المعاني أشار رسول الله (ص) فيما رواه الشيخان حيث قال: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف". ولهذا فإنّ الأخوة الإسلامية تمتاز على كل أساس يهتدي إليه البشر لأنها عقيدة قوية تحوي ركائز روحية وإنسانية لا افتعال فيها ولا تزوير.. إنها أخوة تعني أن كل فرد يحتفظ لأخيه بمشاعر الحب والإيثار، ويؤدي حقوقه وإن كان لا ينتفع منه بشيء، لأنّه يعامل في ذلك ربّه، ويرجع في ذلك إلى إيمانه بالثواب والجزاء الحسن (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى) (الليل/ 18-20)، وبذلك ترتفع الأخوة الإسلامية عن نطاق المصلحة وتسمو فوق حدود المادة، وهذا ما حدث في المدينة حين قام أول مجتمع إسلامي بعد هجرة المسلمين إليها، فكانت الأخوة بين المؤمنين الدعامة الأولى التي قام عليها ذلك المجتمع، والتي شدّتهم برباط متين من المحبة والإيثار، فقد فتح الأنصار قلوبهم وبيوتهم لإخوانهم الذين هاجروا إليهم من مكة على غير أرحام بينهم، وقاسموهم ديارهم وأموالهم.. لقد حرصوا على الحفاوة بهم، فما نزل مهاجر على أنصاري إلا بقرعة. وكان من نتيجة هذه الأخوة والمحبة في الله أن تعامل أفراد المجتمع الإسلامي عبر التاريخ، وخلال العصور على أحسن ما تعامل الناس مواساة وإيثاراً وتعاوناً وتكافلاً. وللأخوة في الله معاني جليلة يتميز بها الإخاء الإسلامي.. ومن أهم هذه المعاني: المساوا، والتعاون، والحبّ في الله. 1- المساواة: ففي رحاب الإخاء تزول عصبيات الجاهلية، وتذوب نهائياً فوارق الحسب والنسب والغنى والجاه، وتتحطم فوارق الجنس واللون، وكلها فوارق صنعها الانحراف البشري، والظلام الإنساني، والهوى المتسلط، والتمييز المصطنع.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). ويقول عليه السلام: "أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، كلكم لآدم، وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وأكّد الإسلام المساواة بين جميع المسلمين، ونظر إليهم نظرة واحدة، فهم متساوون أمام الشريعة، في المسؤولية والتكاليف والجزاء. ويبرز هذا المعنى جلياً في الشعائر الإسلامية: كالصلاة والحج.. فلا تفرقة بين غني وفقير، ولا بين حاكم ومحكوم، ولا بين أبيض وأسود، كما يبرز ذلك في الحقوق والعقوبات.. قال رسول الله (ص): "وأيْمَ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". 2- التعاون: التعاون مظهر كريم من مظاهر الإخاء الإسلامي، أمر به الله تعالى فقال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة/ 2)، وصوّره الرسول (ص) بأروع معنى عرفه بني الإنسان فقال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً". ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثاً جماعياً قام على التعاون والإيثار كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، والبذل السّخي، والتسابق إلى الإيواء، حتى إنّه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة، لأن عدد الراغبين في الإيواء أكثر من عدد المهاجرين.. ولم تكتحل عين الزمان بأروع من أمثلة الإخاء والإيثار والتعاون التي وقعت هذه المرة في المدينة. وإن من تمام التعاون بين الإخوة، أن يخلص الأخ النصح لأخيه، ويصدقه ولا يغشه، وأن يترفق بتوجيهه إلى ما يلحظ عليه من عيوب.. ويكون التعاون أيضاً في دفع الأذى عن أخيك ما أمكن، والمبادرة لتقديم العون إليه طالما كان في حاجة إليه.. فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن مظاهر التعاون أيضاً أن ينصر الإنسان أخاه، فإذا وقع به ظلم وقف بجانبه دافع عنه، وإن كان الظلم منه، ردّه عن ظلمه. 3- الحبّ في الله: وللحب في الله مراتب: أدناها سلامة الصدر تجاه الإخوة، فلا يليق بمسلم أن يربط بين حظه في الحياة ومشاعره مع الناس، ذلك أنّه ربما أخفق حيث نجح غيره، وربما تخلف حيث سبق آخرون. قال عليه السلام: "إياكم والحسد فإنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النارُ الحطب". ودرجة أخرى من درجات الإخاء تتمثل في أن يتمنى الإنسان الخير لإخوانه، ويعمل على تأمينه لهم مثلما يرجو ذلك لنفسه.. قال عليه السلام: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وقد بشّر رسول الله (ص) المتآخين في الله بالرحمة والخير العميم.. فقد ورد في الحديث النبوي ان سبعة يظلهم الله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، ومن هؤلاء: "رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه". وإذا خالطت بشاشة الإيمان قلب صاحبه، وقام بحق أخيه عليه وملك عليه الحب في الله كل نواحيه، فسرعان ما يرقى إلى قمة الإيثار السامية، فيتصرف بأعمال لولا أن مثيلاتها مؤكدة في تاريخ الإسلام لأنكرها الناس، ظنّوها أحلاماً في دنيا الخيال. إنّ الإخاء والحب في الله كفيل أن يتغلب على صعاب الحياة، وينتصر على مشاكل العيش، ويهنأ الناس به أفراداً، ويسعدون به جماعات.   المصدر: كتاب الأخوة والحب في الله

ارسال التعليق

Top