• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مسؤولية التكافل في المجتمع

مسؤولية التكافل في المجتمع

◄الفقر حالة عامّة في مدى التاريخ، حتى الدول الأكثر تقدّماً، تجد فيها أحياء تعيش فقراً مدقعاً، كما أنّنا نجد أنّ العولمة خلقت لنا في البلد الواحد مجالات في أعلى درجات الحداثة، تفصلها أسوار الفقراء، والذين ربّما لا يجدون قوت يومهم.

وفي الدول التي تغيب فيها الدولة، أو ينتشر فيها الفساد، وتتحوَّل مقدّراتها إلى فئة قليلة من المستأثرين، ولا ينالُ الناس منها إلّا على سبيل الرشى التي تمنُّ بها الزعامات على جماعاتها في أزمنة شراء الأصوات والذمم، يتحتَّم علينا التفكير جدّياً في حلول تنبع من رحم التكافل الاجتماعي الذي يعمل على أن يقلع المجتمع شوكه بأظافره بما يستطيع إلى ذلك سبيلاً.

ونحن في هذه العجالة، نريد أن نطرح بعض النقاط

أوّلاً: التكافل العائلي

في كلّ عائلة ميسورون أو أغنياء، وهؤلاء يجب أن يلحظوا فقراء العائلة واحتياجاتهم الأساسية، انطلاقًا من لُحمة القرابة، فلا يجوز أن يأكل أحدُهم وأخوه جائع، ولا أن يتعلّم أبناؤه وأبناء أقربائه لا يجدون الحدّ الأدنى من أقساط التعليم...

قد لا يستطيع فردٌ أن يقوم بكلّ ذلك، ولكنّ ميسوري كلّ عائلة، لو أنشاوا صندوقاً، وكلٌّ وضع فيه على قدر ما يطيق، لكفى ذلك حاجاتها ولفاض؛ لأنّ الإنسان عادةً ينظر إلى حجم المشكلة قياساً بوضعه، ولا نفكّر بطريقة تكافلية جماعية، والله تعالى يقول: (وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ)، وهذه الآية وإن وردت في باب الإرث، لكنّها تشير إلى مبدأ عامّ يشمل كلّ المجالات.

ثانياً: الجوار

لو أخذنا مبنىً سكنياً منطلقاً للتفكير في الآتي: أليس في إمكان كلّ مبنىً أن يقوم بمبادرات بسيطة تخفّف عن الفقراء الذين قد يلتقي الإنسان بهم، وهو خارج من بيته أو عائدٌ إليه؟

بدلاً من رمي الكثير من الطعام، فإنّ من الممكن جمعه وإيصاله إلى فقراء المبنى أو الحيّ بطريقة لائقة وبسيطة أيضاً. في بعض الروايات عن الإمام الرضا (ع)، أنّ أحدهم قال له: أكل الغلمان يوماً فاكهةً، فلم يستقصوا أكلها ورموا بها، فقال الإمام (ع): «سبحان الله! إن كنتم استغنيتم، فإنّ ناساٌ لم يستغنوا. أطعموه مَن يحتاج إليه». وقد ورد في وصيّة الإمام عليّ (ع) لمّا ضربه ابن ملجم: «الله الله في جيرانكم، فإنّهم وصيّة نبيّكم، مازال يوصي بهم حتى ظنّنا أنّه سيورّثهم».

ثالثاً: كبح جماح الجشع

في ظلّ غياب الدولة، عادةً ما يلجأ الناس إلى استغلال حاجات بعضهم البعض، ولذلك يثرى في أزمنة الفساد والحروب كثيرون من أبناء الشعب الفقير نفسه، ممّن أمّنت لهم الظروف بعض الفرص، وينسى هؤلاء أنّهم انطلقوا من رَحِم المعاناة، فيبخلون، بل قد ينطلق بعضهم ليمارس الجور والبغي على الفقراء بأقسى ممّا يمارسه الفاسدون في الدولة.

لو أخذنا مثالاً الكهرباء، لا للإدانة، بل للتفكير الموضوعي. كم هي التكلفة الحقيقية للاشتراك الأدنى في الكهرباء (من ضمنها أكلاف الاستهلاك والصيانة والطوارئ)، ونضيف إليها النسبة المعقولة للربح؟ فكم تصبح؟ هل هذه النسبة هي ما يجري بيعه للمواطنين اليوم من أبناء جلدتهم؟ أنا لا خبرة لي في ذلك، ولكن أليس الجميع يتحدّث عن جشع وإثراء سريع، وكثيرون من الناس يستوعب اشتراك الكهرباء ثلث معاشهم الشهري أو نصفه!

يحتاج المجتمع هنا إلى رحمة!

يحتاج إلى تفكير حديثي النِّعمة بعائدة الأيّام التي يمكن أن تصيب أولادهم. ماذا قال رسول الله (ص)؟

قال (ص): «تحنَّنوا على أيتام الناس يُتحنَّن على أيتامكم»، فإذا لم تنشروا الرحمة وتحوّلوها إلى سبيل للتعاطي مع بعضكم البعض، فإنّ أبناءكم لن يجدوا في هذا المجال مَن يتحنّن عليهم!

كيف صوَّر الله لنا مشكلة قارون - الذي نتبرّأ منه ونلعنه، وقد نفعل فعله -؟

قال الله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) (القصص/ 76- 82).

وأخيراً، نختم بكلمات نفثتها نفسُ أمير المؤمنين عليّ (ع) في زمانه، وما أشبه اليوم بالبارحة!

يقول (ع): «اضرِبْ بطَرفِك حيثُ شِئتَ من الناسِ، فهل تُبصِرُ إلّا فقيراً يُكابِدُ فَقراً، أو غنيّاً بدَّلَ نِعمةَ اللهِ كُفراً، أو بخيلاً اتّخذَ البُخلَ بحقِّ اللهِ وَفْراً، أو مُتمرِّداً كأنّ بأُذُنِهِ عن سَمْعِ الموَاعِظِ وَقْراً! أين خِيارُكُم وصُلحاؤُكُم؟! وأين أحرَارُكُم وسُمحاؤُكُم؟! وأين المُتَوَرِّعُون في مَكاسبِهم، والمُتنزِّهون في مَذاهبِهم؟! أليسَ قد ظَعنُوا (ارتحلوا) جميعاً عن هذه الدُّنيا الدَّنيَّةِ، والعاجلةِ المُنغِّصةِ، وهل خُلِّفتُم إلّا في حُثالة لا تَلتقي بذَمِّهم الشَّفتانِ، استصغاراً لقَدرِهم، وذَهاباً عن ذِكرِهم؟! فـ(إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون)، (ظهرَ الفسادُ) فلا مُنكِرٌ مُغَيِّرٌ، ولا زَاجرٌ مُزدَجِرٌ. أفبِهذا تُريدُون أن تُجاوِرُوا الله في دارِ قُدسِهِ وتكونوا أعزَّ أوليائِهِ عندَه؟ هيهاتَ! لا يُخدَعُ الله عن جَنَّتِهِ، ولا تُنَالُ مَرضَاتُه إلّا بطاعتِهِ. لَعَنَ الله الآمِرِين بالمعروفِ التَّاركين لهُ، والنَّاهين عن المنكرِ العامِلين بهِ».

وبكلمات وجّه بها الإمام الباقر (ع) مواليه. يقول الراوي، واسمه خيثمة: دخلتُ على أبي جعفر (ع) أودّعه، فقال: «يا خيثمة! أبلغ مَن ترى من موالينا السلام، وأوْصِهِم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيّهم على فقيرهم، وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيُّهُم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم؛ فإنّ لُقيا بعضهم بعضاً حياةٌ لأمرنا. رَحِم الله مَن أحيا أمرَنا».►

ارسال التعليق

Top