• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

لا تتجنب صراعات العمل.. تدبر أمرها

مونسي دجي. ويليامز/ ترجمة: هيثم نشواتي

لا تتجنب صراعات العمل.. تدبر أمرها
◄هل يلوح صراع في الأفق؟ هل لديك سبب جيِّد يدعوك لتجنب الوقوع فيه بسهولة؟ طبعاً، لدينا صراعات، ونود التخلص منها. السيدة في قصيدة لينون مكارتني الغنائية تعاني وجودَ خلل في شخصيتها: كانت تتجنب الوقوع في ورطة بالهروب منها، بدلاً من التصدي لها ومعالجتها. عندما تتعلق الأمور بالصراع، وتجنب الوقوع فيه، يكون لكل منا أسبابه التي تدفعه إلى الانسحاب من الصراع. لكن يوجد موظفون وقضايا تتعلق بالعمل، وهي قادرة على امتصاص وقتنا واهتمامنا قُدرة الإسفنجة على امتصاص الماء؛ هذا إن لم نعالج الموقف. معظمنا مصممون، بطريقة تجعلنا نتوتر، على مواجهة أصغر المشكلات حجماً، وأقلها شأناً. هذا الفعل المنعكس التلقائي واللاإرادي، يعدنا للاقتتال أو الهروب عندما نتعرض لتهديد. وأي عائق يحول بيننا وبين إنجاز المهام الثلاثة والستين الموكولة إلينا، التي يجب علينا أن ننتهي منها يوم الجمعة القادم (لا، ليس يوم الجمعة، بل يوم الخميس؛ لأنّ هذا الأسبوع قصير)، يبدو لنا مصدر إزعاج. لذلك لدينا جميعاً أسباب قوية تدفعنا إلى تجنب الوقوع في حبائل الصراع. هكذا نعتقد. لكن هنا ثمة رؤية أخرى مهمة تتعلق بحياة المدير ما بعد الحداثي؛ تجنبُ الصراع، والفرار منه يجعلان أمر تحقيقنا أهدافنا أكثر صعوبةً. ينشأ الصراع من حاجات الناس، والاحتياجاتُ التي لا تلبى لا تموت. إنها تهجع بانتظار فرصة أخرى تمكنها من التعبير عن نفسها؛ الأمر الذي يعني، عادةً، في حياة العمل المؤسسي، أنّ الاحتياجات التي لا تلبى تواظب على اعتراض سبيلنا في سعينا إلى إنجاز أمر نرغب في إنجازه، أو نُضطر إلى تحقيقه. تقول إيلين ردر، مديرة التدريب في المركز العالمي للتعاون وحل الصراعات التابع لجامعة كولومبيا: "عندما ينشأ صراع، تُحوَّل الطاقة عن المهام التي ينبغي أن تنصب عليها إلى القضايا التي تنشب بين الموظفين. إن أنت تدبرت أمر الصراع، يتحرر منه الموظفون، ويعودون – تلقائياً – إلى التركيز على المهام الموكول إليهم تنفيذها". إدنا آدلر، زميلة ردر تدير دورات تدريب على حل الصراعات في مدينة نيويورك، تنظر إلى مهارات إدارة الصراع بوصفها أدوات إنتاجية، حيث تقول: "الاتفاقيات السابقة لأوانها، التي تُبرم قبل أن يُحل الصراع، لا تعمر طويلاً". نعم، باستطاعة مدير قوي أن يفرض تسويةً لا تعالج قضايا العمل الطويلة الأمد، أو احتياجات الأنا الفردية. لكن من المرجح أن يهدر المدير – أو مرؤوسوه – كثيراً من الوقت وهم يجمعون بقايا اتفاقية مبعثرة الاجزاء: بيد أنها تبقى مبعثرة. تقول ردر: "ثمة اختلاف بين الخضوع والالتزام. عندما يرغم موظف على إبرام اتفاقية مبتسرة لا تلبي احتياجاته معك، سوف ينتقم منك متى استطاع بتخريبه المتعمد تجهيزات منشأتك؛ بغية تعطيل الإنتاج فيها بوصف ذلك تنفيساً عن عدوانيته السلبية، أو قد يغدر بك انتقاماً". مع تنحية الصراع الذي يؤدي إلى قتل أحد العاملين زميله في العمل، يعد التفاوض من أجل حل الصراعات في العمل داخلاً في صلب عمل المدير في العصر الحالي، أكثر من أي وقت مضى. وفي عصر المؤسسات المتعثرة، "كان المديرون يتفاوضون، دوماً، مع زملائهم بشأن الحقوق والموارد". هذا ما يلاحظه مايكل ويلر، أستاذ الإدارة في كلية هارفارد لإدارة الأعمال. ويشارك ويلر في إدارة مشروع حل النزاعات، ضمن برنامج يعنى بالتفاوض والتعاون بين جامعة هارفارد، وكل من إم آي تي، وتُفتس. وقد أصبح تنظيم المسؤوليات والموارد من مهام مجموعات العمل على نحو متزايد. بيد أنّ المستشارين، والأكاديميين، والمدربين، والمتمرسين في معالجة الصراعات التي تنشب في ميادين العمل، يلاحظون أن فِرق العمل تبلي بلاءً حسناً إلى أن ترتطم كل منها بصخرة صراعها الأوّل. يقول ويلر: "كل ما يقال عن بناء فِرق العمل لا يعدو كونه كلاماً معسولاً، ولم نجد أساليب مبتكرةً لحل الصراعات. فعدم التمكن من حل الصراعات، يجعل عمل بعضهم مع بعض ضرباً من العبء الثقيل". وأفضل وسيلة لمعالجة الصراع بفاعلية، تكمن في تغيير أسلوبك في التفكير فيه تغييراً جوهرياً. ماري باركر فولت، منظرة مشهورة في علم الإدارة، وكاتبة، ومستشارة، أرست قواعد التفكير الحديث المتعلق بحل الصراع لستين عاماً خلت أو يزيد؛ إذ قالت: "لا نفكر في الصراع بوصفه خيراً، أو شراً... أو اقتتالاً، بل ننظر إليه على أنّه مظهر من مظاهر الاختلاف". وأضافت: "لما كان الصراع – الاختلاف موجوداً في العالم... فإنّه يتعين علينا أن نسخره لمصالحنا، بدلاً من صب اللعنات عليه". رأت فولت في مظهر الاختلافات فرصةً لنا كي نحسن حال الأمور التي كانت متعطلةً. وإن ما ذهبت إليه يبعث على الذهول، بيد أنها كانت على حق حين قالت: إنّ التسوية ليست مرشحةً لتكون الحل الأمثل لأي مشكلة. هذه الملحوظة ترددت أصداؤها بعد عقود من ذكرها في بحث تناول فاعلية مقاربات الروح التعاونية، إزاء مقاربات الروح التنافسية على صعيد التفاوض. وقد أجرى البحثَ هربرت أ. سايموت، منظر علوم الإدارة والتفاوض، وهو حائز على جائزة نوبل عن عمله المتعلق بصنع القرار الإداري و"المرضي". من جديد، أدانت فولت منطق التسوية بوصفها الاستجابة الأمثل لمعالجة المشكلات (والكلام الذي يلفظ غمغمةً وهمساً). وهي بذلك تدين نهج المستشارين المعاصرين الذين يعالجون المشكلات عبر التسوية. وتقترح فولت – بدلاً من ذلك – إيجاد حلول تحقق "اختراقات"، بحيث لا يقتضي الامر من أحد الطرفين المختلفين أن يضحي بأي شيء، وبحيث تؤخذ في الحسبان رغبات كلا الطرفين. إنّ هذا الأمر يكون، أحياناً، أسهل منالاً مما يمكن أن يعتقد المرء، كما بينت فولت عبر سردها قصة مصنع الزبدة والجبنة التعاوني، الذي أضحى وشيكاً من الفشل بسبب خلاف تافه نسبياً يتعلق بحيثيات تفريغ الحليب واستلامه. مصنع الزبدة والجبنة ذاك مبني على طرف تلة، والحلابون الذين يقودهم طريقهم إلى المصنع عبر أسفل التلة، كانوا يعتقدون أنّه ينبغي تفريغ حليبهم أوّلاً. في حين أنّ الحلابين الذين يقودهم طريقهم إلى المصنع عبر أعلى التلة، كانوا يعتقدون أنّه ينبغي أن يحظى تفريغ حليبهم بالأسبقية والأفضلية. قد يستلزم الحل الملائم – وهو تسوية مصممة لتقليص مقدار الزمن الذي يُستنزف في الصراع – منح كل مجموعة فرصةً "لتفريغ حليبها أوّلاً" بواسطة اعتماد خيارات تفريغ واستلام بديلة. أما الحل الأمثل، فقد تمثل في اقتراح الوسيط حلاً عبر تغيير وضع البرنامج، بحيث تستطيع مجموعتا الحلابين كلتاهما تفريغ حليبهما من حافظاتهما "أوّلاً" على نحو متزامن.   مسلك إلى الحل: في الحقيقة، بعض الصراعات غير قابلة للتسوية ما لم يُقدم أحد الفريقين أو كلاهما بعض التنازلات. وبعض منها لا يمكن أن يسوى مطلقاً؛ لأن واحداً من الأطراف المتنازعة – أو أكثر – يفضل الاقتتال بدلاً من استنباط حلول للمشكلات. لكن إن كنت راغباً في الإفادة من فكرة حداً للصراع، ويرضيكم جميعاً، فستجد في الأفكار الآتية الجيدة، والإلماعات المفيدة التي ينصحك الخبراء بالأخذ بها، ما يعينك على تحقيق ذلك.   ليس ما يطلبه الموظفون هو ما ينبغي لهم الحصول عليه بالضرورة: الفارق بين الأمرين يكمن في التمييز بين "المواقف" المتخذة في نزاع ما، وبين "الاحتياجات الأساسية". ويستخدم مدربو حل الصراع نموذج "البرتقالة"، وهو مثال كلاسيكي آخر من الأمثلة التي ضربتها فولت لشرح هذه المسألة. تقول الحكاية: ثمة امرأة هي أم لطفلين، ولديها برتقالة واحدة. تشاجر الطفلان بسبب البرتقالة؛ لأن كلاً منهما كان يريدها لنفسه. شطرت الأُم البرتقالة إلى شطرين – حلاً للمشكلة – وأعطت كل طفل نصفاً. لكن تبين أخيراً أنّه في حين كان أحد الطفلين جائعاً، ويرغب في الحصول على الثمرة كي يأكلها، لم يكن الآخر يريد إلا القشرة ليصنع منها حلوى مكسوة بالسكر. لقد حصل كل طرف من الطرفين على نصف ما كان يرغب فيه، في حين أنّه كان من الممكن أن يحصل كل منهما على كل ما يريده بطريقة ترضيه تماماً. تفسر القصة عدم الإتقان الكلاسيكي على صعيد حل المشكلات – الفشل في سبر غور الحاجة، أو الرغبة الأساسية. ونصيحة من الخبراء: لا تفترض أنك تفهم ما يجري من أمور. استكشف الأمر عبر طرحك أسئلةً، واقتراحك حلولاً بديلةً، واكتشافك ردود أفعال الأطراف المختلفة.   عملك الأوّل يتمثل في فهمك الطرفَ الآخر: عندما ترى في المرة القادمة صراعاً يحتدم، قد تلاحظ أن كلا الطرفين يعيد تأكيده الجازم احتياجاتِه ورغباته مرات عديدة، ويخبر كل منهما الطرف الآخر عن سبب كونه على خطأ. ويطلق الخبراء على هذا السلوك: "حلزون ثنائية الهجوم/ الدفاع". يحدث هذا عندما نثور – معظمنا – ونتميّز غيظاً. يوصي مدربو حل الصراع باستخدام تعابير "افتتاحية"، و"إخبارية" محايدة؛ تشجيعاً للشخص الآخر على الانفتاح. إذ إن تعليقات مثل: "أود منك أن تعلمي أن كلينا كان شديد الاهتمام بالموضوع (س)، بيد أني لاحظت أيضاً أنّ الموضوع (ع) هو بالغ الأهمية عندك؛ أرجو أن يكون هذا الأمر واضحاً تماماً لك"، تشجع الطرف الآخر على الإفصاح على اهتماماته ورغباته. عوِّدْ نفسك على النظر إلى موقف الشخص الآخر ومطالبه، بوصفها أموراً مشروعةً. ركِّز على المصالح المشتركة، لا على الاختلافات: إنّ التركيز، أوّلاً، على الأمور المشتركة بينك وبين معارضك، تجعلك أقرب إلى التوافق معه. ومناقشة الاختلافات دون تحديد الأرضية المشتركة، والعودة إليها، سوف تعمق الفجوة بينكما.   تعرف احتياجاتك وقضاياك الملحة: ما يؤدي بنا إلى التورط في صراع – الشك، والغضب، والاقتناع بأمور لا يمكن أن تُكسب – قد يقودنا إلى اتجاهات لا قبل لنا بتصحيح المسار متى سلكناها. أورد هنا مثالاً مستمداً من موقف واقعي: عالم اقتصاد ذكر انتقل من موقع رقم "2"، حيث كان يرأس إدارة التنبؤ الاقتصادي، وكان يعمل في مؤسسة ضخمة تعمل في مجال الأموال؛ ليضطلع بمسؤولية إدارة مماثلة في مؤسسة أخرى منافسة، هي أصغر حجماً قليلاً من تلك التي كان يعمل فيها. مرؤوسته الجديدة التابعة له مباشرةً عالية التأهيل في مجال علم الاقتصاد، وكانت تجري أبحاثاً، وتكتب تنبؤاتها بتدخل محدود من رئيسها السابق في العمل. بيد أن رئيسها الجديد يمحص في كل مسودة تقدمها له، لذلك كان عليها أن تقضي ساعاتٍ طوالاً وهي تعيد كتابة تقاريرها. ومع كل وابل كان يصيبها من التغذية الراجعة التي تنطوي على شك في صحة عملها، كان يشتد غيظها وانفعالها. ثمة تضارب بين الاثنين يتعلق باحتياجات هوية كل منهما؛ فهي لديها حاجة قوية إلى الاستقلالية، وهي شديدة الاعتداد بما تقوم به من عمل. أما فيما يتعلق به فقد جعله حدسه وخبرته من عمله السابق يطلب عملاً تنبُّئِيّاً بالغ الدقة. وللتعامل مع مواقف من هذا القبيل، ينصحك كل من روجر فيشر وويليام أوري، مؤلفَيْ كتاب "التوصل إلى قول: نعم"، بالتفكير في الأمر بهدوء وروية، كما لو أنّ الموضوع لا يعنيك؛ الأمر الذي يدعوانه "الانسحاب نحو الشرفة"؛ الشرفة التي توفر لك النظر إلى الصراع الدائر نظرةً عامة، تمكنك من الإحاطة بمجرياته. قد يمكِّن النظر من الشرفة الرؤوسة المتخصصة في علم الاقتصاد، التي ورد ذكرها في المثال السابق، من التحقق أن رئيسها الجديد في العمل لم يكن يستخف بمهارتها. بل كان يحتكم إلى خبرته ومهارته هو؛ وأسبابه في ذلك مشروعة وصحيحة. لو أنها فعلت، لربما اكتشف أن عرضها على رئيسها النقاط الرئيسة قبل شروعها في كتابة مسوداتها، وتبادل المعلومات معه، قد يمكنانها من دمج تفكيره في كتاباتها؛ الأمر الذي يحقق نوعاً من التكامل بين ذاك وتلك.   أحياناً يتمثل التصرف الصحيح في تجنب الصراع: الزمن كفيل بحل بعض الصراعات. وقد تكون بعض القضايا المرتبطة بالعمل المؤسسي أكبر من قدرتك وقدرة خصمك على تسويتها، ولا تحل إلا من لدن الإدارة العليا في المؤسسة التي تعمد إلى تركك مع زملائك تحومون حولها. سواء أكنت تتحرك حول الصراع، أم تتصدى لمعالجته بطريقة مباشرة، فإن نطاق الحلول التي تبتكرها والرغبة فيها، يشسعان إن أنت أمعنت النظر في اختيارك طريقة استجابتك. كان عمل المدير مصمماً بحيث يكون أكثر تعقيداً في العمل المؤسسي التقليدي، الذي يقتضي منه بسطاً أوسع لسلطته، وتنافساً في الموارد. الآن، ومهما تغير الأمر، ما تزال اللعبة منوطةً بأولئك الذين التأمل والتفكير فيما يفعلون، وفي ردود الأفعال المحتملة للآخرين، وفي الأسباب التي يمكن أن تجعل ردود أفعالهم تتخذ منحىً بذاته.   قراءات إضافية: Getting to Yes: Negotiating Agreement witbout Giving In by Roger Fisher and William Ury (1981, Viking Penguin). Mary Parker Follett: Propbet of Management, edited by Pauline Graham (1995, Harvard Business School Press). No Contest; The Case Against Competition by Alfie Kohn (1992, Houghton Mifflin).◄   المصدر: كتاب التعامُل مع الموظفين المشاكسين

ارسال التعليق

Top