يفيض القرآن الكريم على الناس قيماً ومبادئ وأنظمة للحياة تحقق للفرد والمجتمع الخير والسعادة في دنياه وآخرته.
وقد رغبنا في اطلاع قرائنا الأفاضل على بعض ما جاءت به آيات الكتاب العزيز من درر المعاني تكون لهم نبراساً في حياتهم فكان اختيارنا لآيات من سورة آل عمران.
(يا أيها الذين آمنوا)
خطابٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين يحرك فيهم حب الإنصات والاستماع ويقوّي الرغبة لديهم لقبول ما يُلقى عليهم، فيبادروا لتنفيذ كلّ أمر ويسارعوا لتجنّب كلّ محظورٍ حُبّاً لله الذي آمنوا به ورغبةً في نيل رضاه والفوز بجنته.
(لا تأكلوا الرِّبا)
ينهى المولى تبارك وتعالى عن أكل الربا، والأكل من مال الربا هي إحدى صور الاستفادة من هذا المال وليست هي مقصودةً بذاتها على سبيل الحصر بل هي على سبيل المثال. واختيار هذا المثال لأنّ الأكل هو الهدف الغالب من تملك المال. والمعنى لا تأخذوا مال الربا فتضمّوه إليكم ولا تنتفعوا به في أي صورة؛ بل إنّ ضمّ مال حرام إلى مالٍ حلالٍ معصيةٌ كبيرة في حد ذاته كما بيّن ذلك رسول الله (ص) في حديثه: "ما خالطت الصَّدقةُ مالاً إلّا اهلكَتْهُ" (159/ 4 السنن الكبرى).
(أضعافاً مُضاعفةً)
كان الربا في الجاهلية في السن وفي التضعيف: يكون للرجل دَيْنٌ فيأتي المدين إذا حلّ الأجل فيقول له: تقضيني أو تزيدني؟ فإن كان عنده شيءٌ يقضيه قضى وإلّا حوّله إلى السن التي فوق ذلك: إن كانت له ابنة مخاض (في السنة الأولى من عمرها) يجعلها ابنته لبون (في السنة الثانية من عمرها).
أما في التضعيف إن لم يكن عنده أضعفها في العالم القابل تكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين فجاء النهي عن هذا في قوله تعالى: (أضعافاً مُضاعَفَة).
(واتَّقُوا اللهَ)
الأمر بتقوى الله تعالى وذلك بأداء أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه. وتتمثل تقوى الله تعالى بترك الربا وعدم أخذه أو الانتفاع به ففي ذلك نجاة من عذاب الله تعالى الذي أعدّه للعصاة وفوز بنعيم الله تعالى الذي أعدّه للطائعين.
(لَعَلَّكُم تُفلِحُون)
الفلاح هو الفوز أي إنّ فوز الإنسان يكون بتقوى الله تبارك وتعالى. وهذا الفوز دنيوي وأُخروي؛ ففي الدنيا ينال التقي عون الله تعالى تأييده ولطفه فيعيش آمناً في دنياه رضيّاً، ويفوز يوم القيامة بجنات النعيم والقرب من الله تعالى وذلك الفوز العظيم.
وتوجِّه الآية الكريمة المسلم إلى أن يكون متّصفاً بصفتين:
الأولى: الخوف من الله تعالى، وهذا الخوف لا يقتصر على الشعور والعواطف بل يتعداها ليظهر في سلوكٍ عملي بالمبادرة لامتثال ما أمر الله والبُعد عما نهى عنه.
الثانية: الرجاء في الله تعالى بأن يقوي يقينه بأنّ الله تبارك وتعالى يغفر ذنب مَن تاب إليه ويقبل عمل من أطاعه مخلصاً ويكون على رجاء قبول الله تعالى لتوبته ولعمله الصالح.
(واتَّقُوا النّارَ)
إنّ هذه الآية هي أخوف آيةٍ في كتاب الله تعالى لأنّ الله عزّ وجلّ أوعد المؤمنين فيها بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتّقوه في اجتناب محارمه.
(التي اُعِدَّتْ للكافرين)
التي جُهزت للكافرين. والمعنى جُعلت داراً لمن كفر بالله تعالى، وإعداد النار للكافرين أي تخصيصها بهم يحتمل:
1- إشارة إلى الدركات المخصصة المعدة لمن كَفَرَ بالله تعالى.
2- إضافتها لهم باعتبار الغلبة لأنّ معظم أهلها من الكافرين ولأنّ الكفار هم الذين يبقون فيها خالدين والإضافة للغلبة شائعة كما تقول اشتريت الطعام لأهلي وتطعم منه غيرهم.
3- إشارة إلى أنّ هذه النار مُعدّة للكافرين، وغيرها يشير إلى أنّ النار أُعدت لمن سرق وقتل. والقرآن الكريم كالسورة الواحدة والمعنى أنّ النار لمن عصى الله تعالى بأيّ صورة.
4- إضافتها إلى المشركين لا يدل على حصرها عليهم كما أنّ الجنّة أُعدت للمتقين لا تنفي دخول غيرهم من الصبيان والحور العين.
5- المقصود تعظيم الزجر للمؤمنين الذين أُمروا باتقاء المعاصي لأنّهم إذا علموا بأنّهم متى فارقوا التقوى أُدخلوا النار المعدة للكافرين كان توقّيهم للمعاصي أتم. وكما يخوّف الوالد الولد يقول له: إنّ عصيتني أدخلتك غرفة الأشباح لا يدل على أنّ هذه الغرفة لا يدخلها غيرهم.
ولا يقتصر فهم الآيات الكريمة هذه النهي عن تناول الربا بل ثمة نهيٌ عن الكفر. فإن ذكر الفعل مع عقابه يدل على تحريمه وذكر تحريمه نهيٌ عن فعله، والمعنى الجديد المستفاد: احذروا من الكفر بالله تعالى وذلك يكون بتجنّب أي عملٍ ينزع عن صاحبه صفة الإيمان فيستوجب العذاب لأنّ من الذنوب ما يستوجب به صاحبه نزع الإيمان ويُخاف عليه من سوء الختام. ومن هذه الذنوب قطيعة الرحم، وأكل الربا، والخيانة في الأمانة.
ومما يلفت النظر أنّ النهي عن الربا جاء في سياق آياتٍ تتحدث عن الجهاد؛ وقد قيل في ذلك إنّ المشركين أنفقوا أموالاً كثيرةً لقتال المسلمين، ومعظم هذه الأموال جمعوها من الربا، وقد كان بالمسلمين قلةٌ وهم محتاجون إلى المال لإنفاقه في الجهاد. ولعلّ ما كان يفعله الكفار يكون داعياً للمسلمين للإقدام على التعامل بالربا حتى يجمعوا المال للجهاد فجاء النهي عن ذلك؛ وبالتالي فلا يجوز للمسلمين اللجوء إلى الحرام بحجة الاستعانة به على أداء العبادة.
(وأطيعُوا اللهَ والرَّسُولَ)
إنّ عبادة الله تعالى لا تقتصر على تجنب محظورٍ معيّن، إنّ عبادة الله تعالى تعني طاعة الله عزّ وجلّ وطاعة رسوله (ص) طاعةً ليس فيها اختيار بين ما يوافقه وما لا يوافقه، بين ما يعجبه وبين ما لا يعجبه، إنما الطاعة في كلّ أمرٍ مع الرضا والتسليم لله عزّ وجلّ في أن يحكم بما يريد.
(لعلّكم تُرحَمُون)
وعدٌ من الله تبارك وتعالى بالرحمة وهذه الرحمة يوم القيامة. وهي ليست مطلقة إنما هي مشروطةٌ هنا بطاعة الله تعالى وطاعة رسله (ص)، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا طاعته وطاعة رسوله (ص) وأن يرزقنا رحمته.
وفي هذه الآية الكريمة شيءٌ من الغمز لمن خالف أمر رسول الله (ص) يوم أُحُد وكانوا مجتهدين لم يقصدوا العصيان.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق