• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

في ذكرى وفاة الإمام الباقر (عليه السلام): لنتمسك برسالة الإسلام ولننفتح على المحبة

عمار كاظم

في ذكرى وفاة الإمام الباقر (عليه السلام): لنتمسك برسالة الإسلام ولننفتح على المحبة

الإمام الباقر (عليه السلام) مدرسة الحياة

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}. من أهل هذا البيت الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) الإمام الذي ملأ الواقع الإسلامي علماً، حتى إنه انفتح بعلمه الواسع على علم الكتاب وعلم السنة، وعلم الواقع الذي كان يعيش فيه المسلمون آنذاك أمام التحديات الكبرى في حياتهم، وقد أخذ عنه كبار علماء المسلمين ممن كان يرى إمامته، وممن كان لا يراها، فأقرّوا له بالتفوق العلمي وبالقدرات الكبيرة من الناحية الفكرية، وكان الخلفاء من بني أمية قبل سقوط دولتهم يقعون في بعض المآزق، ولا يرون أحداً إلاّ الإمام الباقر (عليه السلام) ليحل لهم المشكلة. ينقل أن ملك الروم أرسل إلى عبد الملك بن مروان الذي كان يريد أن يضرب عملة جديدة، لأن المسلمين كانوا يتداولون بعملة الروم، وعندما سمع ملك الروم بهذا الأمر، غضب وأرسل إلى الخليفة الأموي يهدّده إذا ما غيّر عملة الروم فإنه سيصدر عملة يسب فيها النبي، وكبرت القضية على الخليفة، ولم يجد من يشير عليه، فأرسل إلى الإمام الباقر (عليه السلام) يستشيره في ذلك، لأن المسألة تتعلق بكرامة النبي، فطلب منه الإمام (عليه السلام) أن يمضي في ضرب العملة الإسلامية، وأن يرد على ملك الروم رداً قاسياً، لأن ملك الروم يرسل هذا التهديد ليضعف الموقف العام، ولكنه لن يستطيع فعل ذلك لأنه إذا أصدر عملة بهذا فإن المسلمين لن يتداولوا بها، وهكذا كان ولم يصدر ملك الروم العملة لأنه كان يقوم بتهديد وحرب نفسية.

انطلق الإمام (عليه السلام)، في مدرسته الواسعة، التي كان يتعاون فيها مع ولده الإمام الصادق (عليه السلام). وعندما ندرس تراث أهل البيت (عليهم السلام) ،نجد أن أغلب ما عندنا من أحاديث الفقه والعقيدة والأخلاق، وكل ما يتصل بالحياة في مناهجها وأساليبها وأهدافها، صادرة عن الإمامين الباقر والصادق (عليه السلام)، إلى جانب بقية الأئمة (عليهم السلام).

 

العيش مع الله

وكان الإمام (عليه السلام)، كما يذكر المؤرخون عنه، يعيش مع الله في كل حالاته. فكان دائم الذكر لله، وكان لسانه يلهج بذكر الله في أكثر أوقاته، فكان يمشي ويذكر الله في مشيه، ويحدث القوم في المجلس دون أن يشغله ذلك عن ذكره تعالى، وهكذا كان يجمع ولده ويأمرهم بذكر الله حتى تطلع الشمس.

كما كان يأمرهم بقراءة القرآن، ومن كان لا يقرأ منهم القرآن يأمره بذكر الله سبحانه وتعالى، وكذلك كان الإمام (عليه السلام) ينطلق في حياته العملية في كل مجالاتها، إذ كان من صفات الأئمة (عليهم السلام) أنهم يمارسون العمل، وكانت للإمام (عليه السلام) مزرعة في المدينة وكان يعمل فيها بنفسه.

يقول أحد الأشخاص، وهو محمد بن المنكدر: ما كنت أرى أن عليا بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) يدع خلفاً أفضل منه ـ لأنه بلغ من العلم والزهد والعبادة والأخلاق ما لم يبلغه أحد ـ حتى رأيت ابنه محمد بن علي (عليهما السلام)، فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعةٍ حارّة، فلقيني أبو جعفر محمد بن علي (عليهما السلام)، وكان رجلاً بادناً ثقيلاً وهو متكىء على غلامين... فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟ أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحالة ما كنت تصنع؟ فقال: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عز وجل أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس ـ لأن الله إنما يريد للإنسان أن يكسب رزقه وأن يعمل ويقوم بمسؤوليته، ولذلك فإن طلب الرزق إذا كان من حلّه فهو عبادة تماماً كبقية العبادات ـ وإنما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله».

 

القرآن ميزانه

كان الإمام (عليه السلام)، كما يقول كتّاب سيرته، يتعهّد الفقراء والمساكين في المدينة مع كونه متوسط الحال، وكان يطلب من الناس أن لا يتحدثوا إلاّ بما يعلمون، وأن لا يتحدثوا بما لا يعلمون: «ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم»، «إن الرجل ينتزع الآية فيخرُّ فيها أبعد ما بين السماء والأرض»، وهذا الكلام موجه إلى من يفسر القرآن على مزاجه، أو يخوض في الفقه من غير علم ومعرفة، وهكذا.

وكان يعلّم الناس كيف يتصرّفون مع بعضهم البعض، مع أهل البيت، مع الجيران، مع الآخرين في العمل وغيره: «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم فإن الله تعالى يبغض اللعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين الفاحش المتفحش السائل الملحف ويحب الحليم العفيف» عن الحرام، المتعفف عن أموال الناس.

وهكذا كان الإمام (عليه السلام) يتحدث بهذه الطريقة، وكان أيضاً يركز على مسألة التمييز بين الأحاديث التي نسمعها، في ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)، وذلك بأن نجعل «الميزان القرآن»، فكان يقول: «كل ما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك من رواية من بر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به».

فالقرآن هو الميزان، لأن الله تعالى يقول: {قد جاءكم من الله نور} القرآن هو النور الذي يضيء غيره ولا يضيئه غيره.

 

رائد التكافل الاجتماعي

ويعالج الإمام (عليه السلام) عملية التكافل الاجتماعي بين الناس، لا سيما ونحن في موسم الحج، حيث يحجم بعض الناس عن مساعدة أقربائهم أو جيرانهم أو أصدقائهم من فقراء المسلمين وايتامهم، ولكنه يقصد في كل سنة الحج أو الزيارة أو العمرة، وهو مستعد أن يصرف المال في الحج المستحب، وفي ذلك يقول الإمام (عليه السلام): «ولأن أعول أهل بيت من المسلمين أشبع جوعهم وأكسو عريّهم وأكف وجوههم عن الناس، أحب إليّ من أن أحج حجة وحجة، حتى انتهى إلى عشر وعشر ومثلها ومثلها حتى انتهى إلى سبعين».

والمقصود بذلك أن العمل الاجتماعي في مساعدة الأيتام والفقراء هو أفضل من الحج المستحب، وباقي الأعمال المستحبة، لأن ذلك يعتبر نوعاً من التكافل الاجتماعي يتقرب فيه الإنسان إلى الله من خلال إعالته لعباد الله، لأن التقرب إلى الله لا يقتصر على أن يصلي الإنسان الليل والنهار، ولذا ورد: «الخلق عيال الله؛ فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً».

 

نهج التشيع

كما نجد أن الباقر (عليه السلام) يوجه الناس من الشيعة كيف يكون كلٌّ منهم شيعياً حقيقياً، وذلك في أكثر من حديث، فيقول وهو يخاطب جابر بن عبد الله: «يا جابر، أيكفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت والله ما شيعتنا إلاّ من اتقى الله وأطاعه وما كانوا يعرفون إلاّ بالتواضع والتخشع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعهّد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والايتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلاّ من خير وكانوا أمناء عشائرهم».

ثم يقول: «حسب الرجل أن يقول أحب علياً وأتولاه ثم لا يكون فعّالاً، فلو قال: إني أحبُّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ورسول الله خير من علي ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئاً» لأن الحب هو حب العمل وحب الخط والمنهج وليس حب الشخص. ويتابع الإمام وصيته فيقول: «اتقوا الله، واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عز وجل وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، فوالله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، والله لا تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع». وفي حديث آخر عندما يقول له أحد الأشخاص إن الشيعة عندنا كثير، قال: «هل يعطف الغني على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء؟ وهل يتواسون؟ فقلت: لا، فقال: ليس هؤلاء الشيعة، الشيعة من يفعل هكذا». وهكذا تتكرر كلمات الإمام (عليه السلام) مما لا يتسع له المجال.

 

مدرسة الأئمة (عليهم السلام)

هؤلاء هم أئمتنا الذين يربطوننا بالله ويربطوننا ببعضنا البعض، ويريدون منّا أن نتواصل وأن نتعاون وأن نتكافل وأن نتوحد وأن نشعر بمسؤوليتنا عن الإسلام كلّه وعن المسلمين كلهم، كل بحسب طاقته، ولذلك فإن الذين ينشرون الفتنة بين المؤمنين وبين المسلمين، هؤلاء ليسوا من أهل البيت، وكذلك أولئك الذين ينحرفون بولاية أهل البيت (عليهم السلام) إلى حالة الغلو.

ارسال التعليق

Top