• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

عامل الوراثة وثقافة المجتمع

عامل الوراثة وثقافة المجتمع
عزيزي القارئ.. على التربية وتوجيهاتها تترتب الآثار الكبرى في تحديد الوضع النهائي للتكوين النفسي والعقلي والاجتماعي للفرد. وفي عمليات التربية تتفاعل عوامل الوراثة وما تضمها من استعدادات وقابليات بعوامل البيئة المادية والاجتماعية التي يتبناها المجتمع كأساس للتوجيه، وعلى أساس القيم التي تتبناها التربية تتحقق رغبات الأفراد والجماعات داخل النطاق الحضاري العام، وتحقق درجات التكامل الاجتماعي التي تعلمها إلى صغاره، أو يسعى إلى تغييرها وملائمتها لمطالب الحياة الاجتماعية المتغيرة والمتجددة. فالإنسان حينما يخرج في لحظة الولادة إلى الحياة يجد أمامه بيئة تتبنى ثقافة تربوية اجتماعية تحدد معالمه التكوينية وتحمله على تشربها وتمثل مفاهيمها خلال عمليات وأدوار نموه، حتى إذا استوى وكبر قام بنقل تلك الثقافة والانماط التربوية الاجتماعية التي تعلمها إلى صغاره، أو يسعى إلى تغييرها وملائمتها لمطالب الحياة الاجتماعية المتغيرة والمتجددة. فالطفل البشري يمتاز بوراثة سلالية وقابليات فطرية لها قابلية التشكل والتكيف وفق إرادة البيئة وأهدافها. وهي تمتاز على سائر الكائنات الحية بمرونتها ومطواعيتها على التعديل والتوجيه والتأثر بعوامل التربية. والطفل انما ينتقل من حالته كطفل بيولوجي يشابه صغار الحيوانات إلى شخصية إنسان اجتماعية قادرة على التفاعل مع الوجود، عبر عمليات التربية الاجتماعية التي يجد أجواءها قائمة بعد الولادة مباشرة. ويحدثنا القرآن الكريم عن هذه الحقيقة حينما يشير إلى السمع والابصار والأفئدة كأجهزة لإستقبال وهضم المؤثرات التربوية كقوله: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ) (السجدة/ 7-9). فالإنسان يولد وهو يرث قدرته على الكلام، وحينما يبلغ النضج الكافي فإنّه يتكلم اللغة الشائعة في بيئته، وإذا اهملت تربيته ورعايته وعاش مع الحيوانات في الغابة مثلاً ضمرت فيه سماات التكوين النفسي للإنسان الطبيعي وانعدمت فيه الشخصية البشرية الاجتماعية. ولم يتكلم لغة المجتمع، وانما يصرخ كما تصرخ الحيوانات ويعوي كما تعوي الاحياء من حوله. وللتربية الاجتماعية التي يتولاها المجتمع وأفراد العائلة الأثر البليغ في تكوين الجانب الانفعالي والادراكي لدى الطفل، كما تحدد له مفاهيم الحياة وممارساته السلوكية اجتماعياً. فالإنسان يخضع لكل المؤثرات الاجتماعية التي يتلقاها من مجتمعه مباشرة أو عن طريق خلية المجتمع القريبة منه والمتمثلة باسرته، أو المدرسة التي يدرس فيها أو أيّة مؤسسة اجتماعية ينتسب إليها في أدوار حياته المختلفة. فممثلو المجتمع من الآباء والأُمّهات والمعلمين والمسؤولين والأصدقاء، يتولون نقل تراث المجتمع ويعدونه اعداداً نفسياً وجسمياً وعقلياً للاضطلاع بدوره الفاعل في المجتمع. فكل مولود يولد على الفطرة إلا ان أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. فكلما سمت الغايات والأهداف التربوية لدى المربين الذين يتولون أمر التربية في المجتمع كلما كانت نتائجها حسنة وسليمة في الأولاد، وعلى الأجيال الآتية، وبعكسها لو اهملت التربية أو تدنت مراميها واغراضها ساءت نتائجها وتدهورت ثمارها. وكذلك المحيط التربوي العام للمجتمع بما فيه الإدارة السياسية والاعلامية له كبير الأثر على منحى الأجيال واتجاهاتهم واهتماماتهم الأخلاقية والاجتماعية، فكلما تميز المحيط بالنظافة والالتزام، أثر إيجابياً في نظافة أخلاق الأجيال والعكس صحيح أيضاً. ولذلك فإنّ السلطة السياسية في أي مجتمع من مجتمعاتنا تتحمل الثقل الأكبر في نشأة أبناء المجتمع وتحصينهم ضد نزعات الانحراف والتطرف. وأمير المؤمنين (ع) يقول بهذا الشأن "الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم" والمثل الشعبي عندنا يقول "الناس على دين ملوكهم". إنّ نوع الثقافة العامة الشائعة في المجتمع أو ما يصطلح عليها بالحضارة أو الثقافة المميزة (Culture) كذلك تحدد نظرتنا بقدر كبير إلى الكون والحياة ومكانتها فيها، وطرق تفكيرنا وتعبيرنا عن انفعالاتنا وارضائنا لدوافعنا، وفيما ندركه من معايير المحظور والمباح، والعدل والظلم، والحق والباطل، يضاف إلى ذلك انّ الثقافة هي التي تعيّن السبل والأساليب التي يتبعها الوالدان في تنشئة الأطفال، وفيما إذا كانت وسائل قائمة على التشدد أو التسامح، أو انها تفرض على الطفل تكاليف الرجولة من عهد مبكر أم تنتظره حتى يبلغ مدى نضجه الطبيعي، فثقافة المجتمع تعيش فينا كما نعيش فيها، وتنعكس علينا آثارها، وما الشخصية الا مظهر ذاتي للثقافة في بعض جوانبها.   المصدر: مجلة الفكر الجديد

ارسال التعليق

Top