◄لا تقتصر الصناعة على ما هو مادّي فقط. وإذا كانت كلمة تصنيع تشي بالجماد عادة، كالحديد والخشب وغيرها، وبالآلة عموماً، إلّا أنّ الواقع يكشف لنا أنّ المشاعر بكلّ أنواعها تُصنع، والمهارات والقيادة كذلك تُصنع. فإن كان الحزن يأتي أحياناً على غير ما نشتهي، فإنّ هناك من البشر مَن يَصنع أحزاناً للبشر أكثر مما يصنع القدر. وهناك مَن يقيم بيننا قوافل النكد من دون أن يستشيرنا. وكذلك الفرح، فهناك مَن يصنع الفرح للآخرين، أكثر مما تصنعه الحظوظ والأقدر.
ونحن نعيش بين خارطة كبيرة من البشر، فيها شتى الأقاليم والتضاريس الطيِّبة والسيِّئة. هناك مَن يعيش بيننا ويُمطرنا بالحزن في كلّ المناسبات، وهناك مَن يمنحنا الفرح بلا مقابل، ومَن يكون حديثة كرشة العطر، ومواقفه كالفنار للسفن في ليلة مظلمة، نستهدي به إلى شط الأمان، وهناك مَن يحفر في ذاكرتنا مواقفه بيديه، فتكون له الكهوف المحصنة في ذاكرتنا.
حين يحب الإنسان حباً صادقاً، فإنّه يحترف من دون أن يدري مهنة جديدة، وهي تحمل الألم والصبر، ويتعلم كيف يخلق الفرح لمن يحب.
ومن الحب الذي لا يختلف عليه الكثير هو حب الأبناء. فالأب، مهما كثرت مشاغله، فإنّه يتقن منه إسعاد أبنائه الصغار، ويدمن على هذه المهنة. والأطفال، بكلّ ما حباهم الله من براءة يمنحون الوالدين السعادة بحركاتهم، وكلماتهم المتلعثمة الأولى، وبشقاوتهم المحببة. وكذلك حب الرجل للمرأة. فحين يحب الرجل يحترف مهنة جديدة وهي إسعادة محبوبته، بالهدية وبالكلمات الحلوة، وبالحديث الممتع والطرائف، ويفرح لضحكتها أكثر مما يفرح لنفسه حين يضحك. إنّها مهنة صناعة الفرح التي يتقنها العاشق.
ولا تقتصر صناعة الفرح على الإنسان. فالوطن كذلك يصنع الأفراح لأبنائه، بتكريمهم وتقديرهم، وبالثناء على المبدع والمجتهد منهم. فحين يجد الإنسان التقدير من الوطن متمثلاً في وزارة أو هيئة أو جمعية تكرمه لسبب ما، فإنّها تصنع الفرح لهذا الإنسان، وهي مهنة لا تتقنها إلّا الأوطان التي تمتهن العدل والكرامة والخير والأمان لأبنائها.
وحين يفكر كلّ قارئ هنا في مَن حوله، سيكتشف أنّه يصنع الفرح للكثير ممن يعيشون حوله أو معه، وأنّ مَن يصنعون له الفرح ربما أقل مما كان يتوقع. فالأبناء كانوا يمنحون الفرح وهم صغار من دون اختيار منهم، وحين كبروا وتوقفوا عن صناعة الفرح عند الكثير من الآباء والأُمّهات، حتى أصبحت المقولة الشائعة عند الوالدين عن أبنائهم: «المهم أنّهم بخير». والكثير من العشاق، ربما بعد الزواج توقفوا عن صناعة الفرح، وتوقف في المقابل الطرف الآخر عن تبادل الصناعة. وأصبحت المقولة الشائعة بينهم: «يا ريت ترجع تلك الأيام».
وحتى تكون الحياة أجمل، فلابدّ ممن يمتهن صناعة الفرح، ولتكن تلك مهنتنا لكلّ مَن حولنا.►
وأصنعُ حولي الأفراحَ
للقاصي وللداني
ومن فرط امتداد الحبّ
في صدري لخلاني
نسيت كأنّني في اليمّ
لا مرسى لعنواني
****
وتصنعُ عندي الأفراح
من أوصى بها الألمُ
وتنسى حزنها المفطوم
كي يحلو لي النغمُ
وتكتب لي وصيتها
ويُكسرُ خلفها القلمُ
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق