• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

شهر رمضان ربيع القلوب

أسرة البلاغ

شهر رمضان ربيع القلوب

قال الله الكريم في قرآنه المجيد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 183-184).

شهر رمضان المبارك شهر متميز على بقية الشهور بروحانيته وبرامجه العبادية وبالفعل يدخل الإنسان الصائم في مصحّة نفسية وبدنية ليزكي نفسه من الذنوب العالقة به والمترسبة في داخله جراء الآثام الصغيرة والكبيرة التي ارتكبها خلال أحد عشر شهراً لذلك قال النبيّ الأعظم (ص) في تعريفه لاسم شهر رمضان: "إنما سمي الرمضان لأنّه يرمض الذنوب" أي يحرقها وينهيها.. فبركات شهر رمضان كالمطر النازل على سطح الأرض فنلاحظ إنّ من الأرض ما هو خصب صالح للزراعة يتقبل الماء فتنتعش الأرض ثم تزهر بعطائها وخيراتها من الحبوب والفواكه والخضر بينما نلاحظ قسماً آخراً من الأرض غير صالح للزراعة فلا يتقبل الماء وبدلاً من الصلاح والازدهار يزداد قسوة وخراباً.. وهكذا الإنسان فإنّه يعيش شهر رمضان المبارك فمن الناس من يستفيد من هذا العطاء الرباني فيطهر نفسه ويصلح سريرته وأعماله فيخرج من هذا الشهر بروحٍ جديدة صالحة معطاءة ومن الناس من يزداد طغياناً وعمياً وانحرافاً.. فقد ورد في الحديث النبوي الشريف عن الإمام الباقر إنّه قال رسول الله (ص) لجابر بن عبدالله: "يا جابر هذا شهر رمضان مَن صام نهاره وقام ورداً من ليله وعفّ بطنه وفرجه وكفّ لسانه خرج من ذنوبه مخروجه من الشهر..." وهكذا يكون شهر رمضان مصحة بدنية كما ورد في الحديث الشريف: "لكلّ شيءٍ زكاةً وزكاة الأبدان الصيام" وقال (ص) أيضاً: "صوموا تصحوا". وأثبت الطب الحديث الأثر البالغ للصيام على صحة الإنسان والشواهد على ذلك كثيرة.

والآن نحاول أن نسلط الضوء على الآية المباركة التالية والتي تعتبر امتداداً لها ومن ثمّ نلخص برنامجاً يومياً على المستوى الفردي والاجتماعي وكذلك على الصعيد الفكري والثقافي والتربوي والاقتصادي مستخرجين هذا البرنامج من أحاديث النبي (ص). يقول سبحانه: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ...) المقصود من (أياماً معدوداتٍ) شهر رمضان المبارك فهو أيام محصورة ما بين الهلالين والدليل في الآية اللاحقة بيان لهذه الأيّام حيث يقول سبحانه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ...) (البقرة/ 185).

وإنها جاءت فكرة (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، ووصفت بالعدد القليل لرفع الهول والخوف من التكليف ومتى ما نظر الإنسان لشيء واستهابه يعسر عليه تطبيقه بينما في الحالة الطبيعية ينظر الإنسان للتكليف الشرعي بالمنظار الواقعي فيسهل تطبيقه.

(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) نلمس في هذا المقطع من الآية الكريمة الرعاية الإلهية لحالات الضعف الإنساني فمن هنا نلاحظ الصرامة القانونية في الإسلام إلى جانب المرونة الواقعية وأبرز حالات الضعف في فريضة الصيام هي المرض والسفر وحالة الكبر والشيخوخة والضعف فيضع القانون الإسلامي المعالجة الشرعية لهذه الحالات وهي بالفعل حالات غير طبيعية تمر على الإنسان ذاتياً أو موضوعياً فالمرض حالة طبيعية تمر على الإنسان فإن كان الصوم يضرّ به أكثر أو يزيد من ألمه أو أنّه صحيح الجسم ويخشى المرض من الصوم لأسباب معقولة فيرتفع الحكم إلى أيامٍ أُخر خارج شهر رمضان بعدد الأيّام الفائتة للأسباب المرضية الطارئة.

ويتناول المقطع حالة الضعف الإنساني:

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ...) يذكر العلامة الطباطبائي في تفسيره – الإطاقة – كما ذكره بعضهم – صرف تمام الطاقة في الفعل ولازمه وقوع الفعل بجهدٍ ومشقة والفدية هي البدل وهي هنا بدل مالي وهو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكيناً جائعاً من أوسط ما يطعم الإنسان وحكم الفدية فرض كحكم القضاء في المريض والمسافر.

فالشخص المسن الهرم لا يقدر على الصيام (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) (يس/ 68)، فهذا الشخص رجلاً كان أو امرأة يفطر ويدفع فدية لإطعام المساكين.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 184).

مَن أتى بالأعمال الحسنة الواجبة أو المستحبة في حالة التطوع والاندفاع نحوها بالرغبة والقناعة دون الإكراه والضغط كان ذلك أفضل له فالقرارات الشرعية لابدّ أن تؤتى من قبل المؤمن بها برضىً وتطوع هذه الحالة يصل إليها الإنسان بعد البناء للروح فلا يعتبر إطعام المسكين – الفدية – ضريبة تؤخذ منه وإنما يشعر بأنّه يؤدي واجباً شرعياً يتمنى قبوله من الرب الحكيم والغني عن عباده. فالذي يتبرع أكثر ويزيد في إطعام المسكين لملىء حاجتهم هو خير له. (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

والصيام هو في قمة التطوع والأداء دون إكراه فالمسلم لو يعلم فوائد الصيام الجسدية والروحية، ولكي تتحول النفس الإنسانية إلى حدائق زاهرة تسودها عطور الإيمان والعمل الصالح فلابدّ للمؤمن أن يجلس في هذا الشهر العظيم جلسة التلميذ المنتفع من هذه الفرصة الكبرى فيقطف ثمار العطاء الإلهي بإطاعة القرآن الكريم وذلك لأنّ الفرص تمر مرّ السحاب ونأتي الآن إلى البرنامج اليومي الذي نضعه منذ الليلة الأولى من هذا الشهر العظيم فحينما نطالع أحاديث النبيّ (ص) نستطيع أن نثبت خطوطاً تربوية للإنسان والمجتمع نحاول من خلالها استثمار هذا الشهر قدر الإمكان وهذه النقاط نذكرها لا على سبيل الحصر وإنما على سبيل الأهمية بما يناسب المقام:

أ) قراءة القرآن الكريم وكثرة الذكر والتسبيح والصلاة والأعمال العبادية الأخرى فقراءة القرآن في أيام الصيام تركز العقيدة في الإنسان وتشرح صدره للإيمان يقول النبيّ الأعظم (ص): "ثلاثة يذهبن النسيان ويحدثن الذكر: قراءة القرآن، والسواك والصيام". فقراءته بداية العمل به ثمّ أنّ مجرد التلاوة تعكس الآثار الخلقية العالية في النفس يقول النبيّ الأكرم (ص) إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قيل يا رسول الله فما جلاؤها قال: تلاوة القرآن. وقال (ص): "عليك بقراءة القرآن فإنّ قراءته كفارة للذنوب وستر في النار وأمان من العذاب". وفي بعض الأحاديث مجرد النظر في المصحف عبادة وأما أحاديث وروايات التدبر والتفسير والحفظ فكثيرة يقول (ص): "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارقَ ورتّل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإنّ منزلتك عند آخر آية كنت تقرأها". ويقول أيضاً: "عليكم بتعليم القرآن وكثرة تلاوته، خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه، خيركم مَن قرأ القرآن وأقرأه، تعلموا القرآن فإنّه أحسن الحديث وتفقهوا فيه فإنّه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور واحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص".

وقال أيضاً: "مَن قرأ القرآن في المصحف مُتّع ببصره وخُفّف عن والديه وإن كانا كافرين" فلابدّ أن نتلو القرآن ونتعلم آداب التلاوة بشكلٍ فردي أو جماعي فقد قال (ص): "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله يتدارسونه بينهم إلّا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم فيمن عنده – وورد أيضاً – البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله تعالى فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدريّ لأهل الأرض وإنّ البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله تعالى فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين – وقال أيضاً – مَن قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول (آلم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف".

ثمّ تبيّن الأحاديث طريقة القراءة المفضلة أن تكون بلغة حزينة فيقول (ص): "إنّ القرآن نزل بالحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا".

ثمّ نجد هناك أحاديث وروايات كثيرة تدفع المؤمن لحفظ الآيات والأحاديث والروايات لتكريس الأفكار الإيمانية في النفس لذلك نقرأ عن النبيّ (ص) إنّ الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخراب.

وعن النبيّ (ص) من حفظ من أمتي أربعين حديثاً يطلب بذلك وجه الله عزّ وجلّ والدار الآخرة حشره الله يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

ثمّ مسألة التدبر والتدارس في القرآن من المسائل المحبذة جدّاً في هذا الشهر الكريم فعن الرسول (ص): "يا معاذ إن أردت عيش السعداء وميتة الشهداء والنجاة يوم الحشر والأمن يوم الخوف والنور يوم الظلمات والظل يوم الحرور والريّ يوم العطش والوزن يوم الخفة والهدى يوم الضلالة فادرس القرآن فإنّه ذكر الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان".

ويقول الرسول الأعظم (ص): "مَن أراد علم الأولين الآخرين فليقرأ القرآن".

هذه جولة عاجلة بين الأحاديث والروايات للتعرف على أهمية هذا الكتاب الكريم الذي يعتبر الدستور الإلهي الدائم للبشرية فلابدّ إذن أن نتوجه في هذا الشهر العظيم إلى القرآن المجيد تلاوة ودراسة وتدبراً وحفظاً فليقرأ كلّ منا على الأقل في كلّ يوم جزء من القرآن ولنختمه ليلة العيد بصورة فردية أو جماعية ولنحضر دروس تعليم التلاوة ولنستمع إلى التفسير أو نقرأه ولنحفظ ما نستطيع من القرآن والأحاديث ولنخرج من الشهر وكأننا نتخرج بشهادة علمية دينية من مدرسة رمضان المبارك.

ب) العمل الاجتماعي والتزاور وصلة الأرحام وزيارة المقابر والاعتناء بالأيتام ففي هذا الشهر يحتاج الإنسان المؤمن إلى التسلية من أخيه المؤمن ويبحث عن الحنان الاجتماعي والأقربون أولى بالمعروف ومن قطع رحمه قطعه الله يوم القيامة فلابدّ إذن من حالة التماسك الاجتماعي وتوزيع أسباب الفرح والبشرى بين الصائمين ويقول الحديث: "تهادوا تحابوا" فالهدية والتصدق والولائم كلّ ذلك يدخل الفرح في قلوب المؤمنين ويزيد في حبهم الواحد للآخر أما الأيتام فهم الطبقة المستحقة للحنان التام فلا نبخل بالكلمة الطيبة والصدقة الخالصة.

ونقرأ أيضاً: إنّ في الجنة داراً يقال لها دار الفرح لا يدخلها إلّا من فرّح يتامى المؤمنين.

جـ) المطالعة الهادفة في هذا الشهر فنحن نلاحظ الكثير من المسلمين يقضون الأوقات الذهبية في ليالي هذا الشهر العظيم بمتابعة مسلسلات تلفزيونية التي لا تنظر إلى شهر رمضان إلّا من خلال النكات الهزلية أو حفلات الطعام الدسمة وقد يقضي البعض من الناس ساعاتهم في ليالي الشهر المبارك بالانشغال بألعاب شعبية معينة تشغلهم عن ذكر الله سبحانه فترى المقاهي يعلوها الضجيج والصخب وغالباً ما تجعلهم هذه الألعاب متخاصمين فيما بينهم حتى طلوع الفجر!

بينما المفروض أن نتوجه لتربية أنفسنا وتزكيتها من الأدران الماضية وطلب الغفران لنا ولآبائنا وأمواتنا وهذا ما يتم من قبل بعض الصائمين والحمد لله لأنّهم لم يخضعوا للثقافة السائدة في المجتمع التي تحركها الأصابع الخفية وتؤيدها الأهواء والميول الفسية بل العكس فيندفعون نحو تحصيل ديني ثقافي رفيع فيطالعوا الكتب الهادفة في الأخلاق والثقافة والعلاقات الاجتماعية وبالفعل أنّهم يشعرون بالنمو السلوكي والثقافي خلال هذا الشهر ومن المواد المهمة في المطالعة أن تكون في مادة تحصيل التقوى ومعرفة القيم الخلقية لأنّ الأجواء النفسية والحالة الطارئة للإنسان تساعده على ممارسة الأخلاق الحسنة وضبط النفس.

فهذه الحالة العميقة بالالتزام بالمبادئ في ظرف شهر تجعل المؤمن قادراً على استمراره على هذا النحو المتميز. وكذلك دراسة.

ارسال التعليق

Top