• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

سنن وقوانين المجتمع الصالح في القرآن

أسرة

سنن وقوانين المجتمع الصالح في القرآن
 السنّة هي الطريقة التي جرت عليها حكمة الله عزّ وجلّ وقدرته في إثابة مَن سبق من الأمم ومَن يأتي بعدهم، أو معاقبتهم. والسنّة قانون أو أمر كلي ينطبق على جميع جزئياته التي يمكن التعرّف على أحكامها منه. والقرآن مليء بالسنن التأريخية المطّردة التي تأخذ شكل القضية الشرطية، أو الفعليّة أو الإتِّجاه الطبيعي، وبالتالي فالسنن التأريخية هي القوانين التي تتحكّم في مسيرة التأريخ وفي حركته وتطوّره، وهي مجموعة أو منظومة الضوابط والنواميس التي تحكم حركة الإنسان في حياته. ومن بين تلك السنن ما يمكن أن يحكم المجتمعات الصالحة، وهو الذي سيجري عليه التركيز في هذا المقطع من البحث.   1- الدعوة للتأمّل في السنن التأريخيّة: قال تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) (فاطر/ 43-44). - إنّ القوانين التي حكمت الأُمم والمجتمعات التي سبقتنا هي ذات القوانين التي تحكمنا، فالأخذ بها في المجال الاصلاحي يحقّق للمجتمع مردودات طيِّبة، والتنكَّر لها وتحدِّيها يؤدّي إلى خراب وانهيار المجتمعات، أي أنّ السّنن هي التي تُعاقب أولئك الذين يُخالفونها.   2- قانون الإستخلاف: قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30). - الإنسان خليفة الله على الأرض، فدوره فيها وعليها دور المستأمَن على الأمانة، والموكّل بإدارة مشروع نيابةً عن موكّله وضمن شروط المُوكّل وإقرار الوكيل بالموافقة على تلك الشروط، ولذلك فأيّ خروج عن هذا العقد أو الإتِّفاق هو مخالفة صريحة للدور الذي أنيط بالخليفة. فعلاقة الإنسان بالطبيعة وما تزخر به من ثروات ليست علاقة (مالك) بـ(مملوك)، بل هي علاقة (أمين) مستؤمَن على (أمانة)، يقول تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد/ 7). وعلى أساس من هذه النظرية، فإنّ الفساد والمفسدين في الأرض هو الطارئ والمتغيِّر والشاذ، وإنما القاعدة هي حكم الأرض من قِبَل الصالحين. قال سبحانه: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء/ 105). الأمر الذي يعني أن قانون الاستخلاف والوراثة في الأرض هو قانون قرين وملازم لـ (قانون الخلافة)، وهو قانون مُتشعِّب ومتفرِّع منه. قال عزّ وجلّ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/ 55). وقال جلّ جلاله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص/ 5-6). الأمر الذي يعني أنّ خلافة الإنسان لله في الأرض ليست مطلقة، إنما هي خلافة مُحدّدة وخاصّة بالصالحين، والدليل على ذلك قانون تعارف آخر وهو (قانون الاستبدال)، حيث أنّ الأُمم أو المجتمعات التي تتنصّل عن مسؤولية الخلافة وتفسد في الأرض يجري عليها قانون الاستبدال بأن يُبدِّلها الله تعالى بغيرها ثمّ لا تكون أمثالها. قال سبحانه: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) (النساء/ 133). وقال عزّ وجلّ في المرتدِّين عن دينهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة/ 54). وقال جلّ شأنه في المتخلِّفين عن نصرة دينه: (إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة/ 39). وقال تقدّست أسماؤه في المعرضين عن قبول الرِّسالة: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (هود/ 57). وقال تبارك وتعالى: (ولَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم/ 14). هذه الدلائل القرآنية بمجموعها تشير إلى أنّ الاستخلاف ليس هبة إلهية تُمنح لكلِّ إنسان أو مجتمع إنساني، وإنّما هي مرتبة شرف تُخلع على مَن خافَ مقام الله وخافَ وعيده وكان أميناً على ما استؤمن عليه، وإذا ما مكّنه الله تعالى في الأرض: أقامَ الصلاة، وآتى الزكاة، وأمرَ بالمعروف ونهى عن المنكر. قال تعالى في (قانون التمكين في الأرض): (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) (الحج/ 41). أي أنّ التمكين مسؤولية تترتّب عليها وظائف وواجبات هي في الصميم من معنى الاستخلاف في الأرض. قال تعالى: (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى/ 13).   3- قانون الإبتلاء (الغربلة والتمحيص): قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك/ 2). - الإنسان فرداً ومجتمعات إنسانية خاضع لسلسلةٍ من الاختبارات التي تكشف عن معدنه وصوابية عمله. يقول عزّ وجلّ: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت/ 2-3). وعبارة (الذين من قبلهم) تعني أنّ الإختبار والإمتحان سنّة جارية في الأُمم السابقة والحاضرة واللاحقة، فلابدّ من تكاليف ومصائب ومحن وشدائد وابتلاءات حتى يتحقق الفرز والغربلة ونفاسة النفس الإنسانية. قال جلّ شأنه: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران/ 179). وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة/ 214).   4- قانون المساواة في عمل الجنسين: قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران/ 195). - لا إبطالَ لعملٍ من عمل الخير، ذكراً كان العامل أو أنثى، فكما أنّ أصل الجنسين مشترك، فإن جزاء الجنسين فيما يعملان من صالح واحد ومشترك. يقول تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 35). ويستتبع هذا القانون آخر هو (قانون الإرتهان بالكسب). قال تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور/ 21). فكلّ إنسان مرتهن بعمله ولا يحمل ذكر ذنب أنثى ولا تحمل أنثى ذنب ذكر، ولا يحمل الذكور بعضهم ذنوب بعض، ولا الأناث ذنوب بعضهنّ البعض. قال سبحانه: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الزمر/ 7).   5- قانون التّسخير المُتبادَل: قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف/ 32). - جعل الله تعالى الناس بحكمته أغنياء وفقراء، وفاوتَ بينهم في الأموال والأرزاق وأمور المعيشة، وهذه المفاضلة بين الناس في الرِّزق والعيش ليست اعتبارية أو تشريفيّة، وإنّما ليكون كل منها مُسخّراً للآخر، يخدم بعضهم بعضاً لينتظم أمر الحياة، وتقوم بمنافع ذلك المجتمعات. قال الشاعر: الناسُ للناسِ من بدوٍ ومن حَضَرٍ **** بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خَدَمُ قال سبحانه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود/ 118).   6- قانون التأثير المُتبادل بين الخبرة والممارسة: قال تعالى: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم/ 34). - في الآية استجابة مطلقة بعطاء ما سأل الإنسان من قدرات لتسخير الطبيعة لخدمته، وكلّما ازدادت خبرة الإنسان بالطبيعة ازداد سيطرةً عليها، وإمكانية لحلِّ رموزها وفكّ معادلاتها، واستجلاء قوانينها المودعة فيها، وتمكّناً من تطويعها وتذليلها لحاجاته.   7- قانون ارتباط الاستقامة بوفرة الإنتاج: قال تعالى على لسان نوح (ع): (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح/ 10-12). - إنّ العلاقة بين الاستقامة وتطبيق أحكام الله تعالى وإجراء العدل في المجتمعات وبين وفرة الإنتاج وازدياد الخيرات علاقة طردية، فكلّما زادت عدالة التوزيع ارتفعت وفرة الإنتاج وتراكمت البركات. يقول سبحانه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة/ 66). وقال عزّ وجل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف/ 96). وقال جلّ جلاله: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن/ 16). وعلى ذلك، فإن تطبيق شريعة السماء، في أيّ مجتمع من المجتمعات، يؤدِّي دائماً وباستمرار إلى وفرة الإنتاج.   8- قانون التّغيير: قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد/ 11). - يستند قانون التغيير الإجتماعي على ركيزتين: تغيير المحتوى الداخلي الروحي والنفسي للإنسان، وتغيير الوضع الإجتماعي، والتغيير الأوّل يُمثِّل (القاعدة) والتغيير الثاني يُمثِّل (البناء العلوي)، والتغييران متلازمان متكاملان، فخارج الإنسان يصنعه داخل الإنسان، ولا تستقيم أمور مجتمع صالح إلا بصلاح أفراده. وقانون التغيير معادلة ذات طرفين، هي قضية شرطية: يُغيِّر المجتمع أسلوبه في الحياة ويتجاوز المنكرات واعتماد الحسنات، فيفتح الله له سُبُل النجاح والفلاح والتوفيق والإمداد الغيبي والنصر على الأعداء.   9- قانون الشرط والجزاء: قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم/ 7). - الشكر بكل فصوله وأنواعه مدعاة للزيادة المادية والمعنوية، وعلى العكس الكفر والجحود والعصيان. قال سبحانه: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (الإسراء/ 19). وقال عزّ وجلّ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (القصص/ 84). وقال جلّ جلاله: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ/ 39). وقال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف/ 90).   10- قانون الدّفع: قال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج/ 40). - لولا ما شرّعه الله من الجهاد ومقاتلة الأعداء، لاستولى أهل الشرك والكفر والإستكبار على المجتمعات الإيمانية وعطّلوا برامجهم وشرائعهم وأفسدوا حياتهم. فقانون الدفع يكفل توازن القوى ويحفظ للحياة استقرارها وامتدادها وحيويّتها، وإذا كان قتال الأعداء للبغي والعدوان، فقتال المجتمعات الإيمانيّة الصالحة لردع الظلم وكبح جماح العدوان، واستئصال شأفة الشرّ، أي أنّ قتالهم دفاعي وقائي لحماية الحياة والحرِّية والكرامة.   11- قانون نصر أنصار الله: قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج/41). - شرط النصر للمجتمعات الصالحة بنصرتها لدين الله والسعي لرفع كلمته، والدِّفاع عن عباده المظلومين والمستضعفين. قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء/ 18). وقال جلّ شأنه: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات/ 171-173). وقال تبارك وتعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) (غافر/ 51). وعلى هذا، فالنّصر للمجتمعات الصالحة ليس حقّاً إلهيّاً وإنّما هو نتيجة لمُقدّمات وتأمين لشروط استحقاق النصر والغلبة. قال سبحانه: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد/ 7).   12- قانون التّداول: قال تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران/ 140). - مداولة الأيّام تعني تقليبها بين السعد والشقاء، والنصر والخسارة، فيومٌ لك ويومٌ عليك، ويوم تُساء ويوم تُسرّ، ذلك أنّ الدنيا طُبعت على كدرٍ، وأنّها قائمة على النِّسبيّة، فحتى المجتمع الصالح تتفاوت أيامه شدّة ورخاءً، وفي كلا الحالين امتحان واختبار: امتحان للصبر في الشدّة، وامتحان للشكر في الرخاء، يقول تعالى في تقلّب الأيام: (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (الروم/ 2-3).   13- قانون القصاص: قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 179). - من مقوّمات ومستلزمات سلامة المجتمع الصالح حفظ حرمة الدِّماء، فإنزال عقوبة مماثلة بالمجرم جزاءً وفاقاً لما ارتكبه لا تعني الانتقام، بلا هو سبيل إلى ضمان حياة الناس واحترام أرواحهم، ولذلك كان تشريع القصاص ضمان لحياة المجتمع ولولاه لتفشّت الجريمة ولتمادى القتلة في القتل وسفك الدِّماء، وبمعنى آخر فإنّ القصاص صيانة لحياة المجتمع وحياة القاتل نفسه، إذ يحميه من تهوّره ويصدّه عن ارتكاب الجرائم بدون عقوبات، فضلاً عن أنّ القصاص أحد ثلاثة أحكام يحقّ لأولياء القتيل التخيّر بينها وهي: العفو دون أخذ الدِّية، أو العفو مع أخذ الدِّية. قال سبحانه: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء/ 33).   14- قانون نجاة الصالحين: قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/ 87-88). - في قانون موازٍ لهذا، يقول تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/ 2-3). وفي الحديث: "ما من مكروبٍ يدعو بهذا الدعاء ولا أستجيب له"، فكما أنجى الله تعالى يونس (ع) من كربه لأنّه كان من المسبِّحين الذاكرين الله كثيراً، المحسنين الظن بالله، فإن قانون النجاة لأمثاله مفتوح على الزمن كلّه، وكما هو ملاحظ فهو قانون مشروط. قال تعالى على لسان نوح (ع): (قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (الشعراء/ 117-119).   15- قانون انمحاء الزبد وبقاء النافع (قانون البقاء للأصلح): (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرعد/ 17). - كما أنّ الزبد الذي لا خيرَ فيه ممّا يطفو على وجه الماء والمعادن، حيث يرمي به السيل ويقذفه بعيداً في حالة رفضٍ واقصاءٍ واستغناء، فإنّ ما ينتفع به الناس من الماء الصافي والمعدن الخالص يبقى في الأرض ويثبت ويُرغب فيه ويُحرص عليه. والمثل لكلِّ ما هو صالح ونافع ومفيد، ولكلِّ ما هو فاسد وضار وخبيث، والمجتمعات الصالحة هي التي تُكرِّس الإيجابي وتوسعه وتنميه. قال تعالى: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الشورى/ 24).   16- قانون السداد والتوفيق: قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69). - سواء كانت المجاهدة مجاهدة الإنسان لنفسه، أو مجاهدته للأعداء وشرور الحياة والسيِّئات والمنكرات والمفاسد، فإنّ الله سبحانه سيفتح له طريق الخير والبر والصلاح والمعونة والسداد والتوفيق والنصر. ولذلك فإنّ المجتمع الصالح يعتني بجهاد أبنائه بما يفتح له على أيديهم من فتوح البناء والخير والإحسان والإعمار والإصلاح.   17- قانون النّجاح والفلاح: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج/ 77). - كل ما يُقرِّب إلى الله تعالى من الإستقامة والخير والصلاح ونفع الناس يؤدي إلى النجاح والفلاح. قال عزّ وجل: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون/ 1-11). فإنّ أدنى ما ينفع الإنسان به مجتمعه أن يكفّ شروره عنه، فما بالك إذا فاضَ بخيره عليه؟!

ارسال التعليق

Top