• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رمضان.. مدرسة الثلاثين يوماً

علاء محمد الصفطاوي

رمضان.. مدرسة الثلاثين يوماً
◄أنت فيها المدرس والتلميذ.. الدراسة يومية والإمتحان نهاية الشهر والمقررات: صوم.. قرآن.. جود وقيام بما أن عمل مدرسة الصيام يقوم أساساً على الإمتناع عن الطعام والشراب فإنّ هذا الإمتناع والترك – كما يقول الدكتور يوسف القرضاي – إن بدا سلبياً في مظهره فهو عمل إيجابي في حقيقته وروحه، إذ هو كف النفس عما يشتهيه المرء لله تعالى، فهو بهذا عمل نفسي إرادي، له ثقله في ميزان الحق، والخير، والقبول عند الله. (العبادة في الإسلام). المواد الدراسية التي تدرسها المدرسة:   المادة الأولى: الصوم: وقد بدأ تدريس هذه المادة في مدرسة الثلاثين يوماً في العام الثاني للهجرة، ولهذه المادة خصوصية كونها تنسب إلى الله تعالى، جاء في الحديث القدسي الذي يرويه النبي (ص) عن رب العزة: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به". والهدف من وراء تدريس هذه المادة، أن يتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة.   -        مراتب الصوم: الصيام على ثلاث مراتب كما قسمها أبو حامد الغزالي في كتابه "الإحياء" كما يلي: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص: أما صوم العموم، فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، أما صوم الخصوص، فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وهو صيام الصالحين، ويتم بثلاثة أمور: أ‌-     غض البصر وكفه عن كل ما يشغل القلب، ويلهي عن ذكر الله عزّ وجلّ. ب‌- حفظ اللسان: عن الكذب والغيبة والنميمة والخصومة والمراء. عن مجاهد قال: خصلتان تفسدان الصيام: الغيبة والكذب، ونُذكِّر بحديث النبي (ص): "إنما الصوم جُنة فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم. إني صائم" (متفق عليه). جـ- كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حُرِّم قوله حُرِّم الإصغاء إليه، وليعلم طلاب مدرسة الثلاثين يوماً أن من يذاكر ويجتهد في هذه المادة فقد أعدّ الله عزّ وجل له ما أخبر به رسول الله (ص) عندما قال: "للجنة باب يُقال له الريان، لا يدخله إلا الصائمون" (متفق عليه). وقال أيضاً: "للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه" (رواه مسلم). ثمّ إنّ الإجتهاد في المادة يكون سبباً في قهر عدو الله إبليس، لأن وسيلة إبليس إحياء الشهوات، وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب. صوم خصوص الخصوص: هو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عزّ وجلّ بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عزّ وجلّ واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دُنيا تُراد للدين، فإن ذلك من زاد الآخرة، وليس من الدنيا، هذه رتبة الأنبياء، والصديقين، والمقرّبين.   المادة الثانية: تلاوة القرآن الكريم: لهذه المادة علاقة وثيقة بالمادة الأولى، فالقرآن الكريم نَزَل في شهر رمضان، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة/ 185). وعلى دارس هذه المادة أن يأخذ القدوة والمثل من السلف الصالح في تلاوته للقرآن الكريم، فقد كان بعض السلف يختم القرآن في رمضان كل ثلاث ليال وبعضهم في كل سبع منهم قتادة، وبعضهم في كل عشر منهم أبو رجاء العطاردي. قال إبن عبدالحكم: إن مالكاً كان إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف. ولدارس هذه المادة والحافظ لها سمات يحسن أن يتحلى بها، أوضحها ابن مسعود عندما قال: "ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرف بليله إذ الناس نائمون، وبورعه إذ الناس يخلطون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يحتالون، وبحزنه إذ الناس يفرحون". وقال محمد بن كعب: كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه، يشير إلى سهره وطول تهجده. وأنشد ذو النون: منع القرآن بوعده ووعيده **** مقل العيون بليلها لا تهجع فهموا عن الملك العظيم كلامه **** فهماً تذل له الرقاب وتخضع والذي يحافظ على قراءة القرآن الكريم ويجعل لنفسه ورداً يومياً، فقد بشّره الرسول (ص) عندما قال: اقرؤوا القرآن فإنّه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة" (رواه مسلم). فإذا تعلمت هذه المادة وقمت بعد ذلك بتعليمها فأنت من خيار أمة الإسلام، مصداقاً لحديث رسول الله (ص): "خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه". واحذر أخي – فإن من كان معه القرآن فنام عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار فإنّه ينتصب خصماً له يطالبه بحقوقه التي ضيعها. أما إذا نجحت في المادتين الأولى والثانية معاً، فإليك هذه البشرى: عند عبدالله بن عمرو عن النبي (ص) قال: الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفّعني فيه، فيشفعان" (رواه أحمد والطبراني). المادة الثالثة: قيام الليل: كفى دارس هذه المادة فخراً أن يعلم أن قيام الليل "هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم فيشكون إليه أحوالهم ويسألونه من فضله، فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات. وكما قلنا، فإن هناك رابطاً يربط بين الصيام والقرآن، وهناك أيضاً رابط بين قيام الليل والقرآن. قيام الليل في القرآن: قال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة/ 16)، قال مجاهد والحسن: يعني قيام الليل. وقال إبن كثير في تفسيره: يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والإضطجاع على الفرش الوطيئة. وقال عبدالحق الإشبيلي: "أي تنبو جنوبهم عن الفرش فلا تستقر عليها ولا تثبت فيها لخوف الوعيد، ورجاء الموعود". فأين رجال الليل؟ يا رجال الليل جدو رب داع لا يرد وإذا كنت تريد الحصول على الدرجات العلا في هذه المادة، فعليك بتنفيذ هذه النصائح: ذكر أبو حامد الغزالي أسباباً ظاهرة وأخرى باطنة ميسّرة لقيام الليل: فأما الأسباب الظاهرة فأربعة أمور: 1-                ألا يُكثر الأكل فيكثر الشرب فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام. 2-                ألا يُتعب نفسه بالنهار بما لا فائدة فيه. 3-                ألا يترك القيلولة بالنهار فإنها تعين على القيام. 4-                ألا يرتكب الأوزار بالنهار فيحرم القيام بالليل.   أما الأسباب الباطنة فأربعة أمور: 1-    سلامة القلب من الحقد على المسلمين، وعن البدع وفضول الدنيا. 2-    خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل. 3-    أن يعرف فضل قيام الليل. 4-    الحب لله وقوة الإيمان بأنّه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه.   المادة الرابعة: الجود والكرم: ربما يسأل بعض المنتسبين لمدرسة الثلاثين يوماً: ما علاقة الكرم والجود بهذه المدرسة؟ والإجابة أنّ الصوم – في حقيقته – إنما جاء ليشعر الأغنياء بحاجة الفقراء، ولذا فعندما يعاني الغني الجوعَ والعطش في نهار رمضان يزداد شعوره وإحساسه بالفقير فيدفعه ذلك إلى الكرم والجود، ثمّ إنّ الله تعالى يُوصَفُ بالجود، وفي الأثر المشهور عن فضيل بن عياض قال: إنّ الله تعالى يقول كل ليلة: "أنا الجواد ومنِّي الجود، أنا الكريم ومنِّي الكرم"، فالله سبحانه وتعالى أجود الأجودين، وجوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان الذي فيه أنزل قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة/ 186). وقال بعض الشعراء يمتدح بعض الأجوار، عندما رأى فيض كرمه وعطائه: تعود بسط الكف حتى لو أنّه **** ثناها لقبض لم تُجبه أنامله تراه إذا ما جئته متهللاً **** كأنك تعطيه الذي أنت سائله هو البحر في أي النواحي أتيته **** فلجته المعروف والجود ساحله ولو لم يكن في كفه غير روحه **** لجاد بها فليتق الله سائله►

ارسال التعليق

Top