• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ذرفت نهري وطيوري

حسن العاصي

ذرفت نهري وطيوري

أحببت في صغري كُتُباً كثيرة

تعلقت ببعضها كطفل يشد ثوب أُمّه

عشقت أخرى وأخفيتها في ملامحي

وهربت من كُتُب سفكت عافيتي

حين قرأت قصيدة أوّل مرّة

انكمش صدري خلف القميص

راودني قلبي عن الحروف

جثوت فوق شفق الحكاية

 نظرت إلى وجه القصيدة

 عيونها تحدق في الوجع العاري

 حروفها تطفوا فوق فوهة الأُفق

 والسطور رماح تطعن الضجيج

خالَ لي حينها أن الشعر قِدْراً أسود

تنضج فيه الطلاسم والتمائم

لحظات استدرجتني لسدرة المعنى

صرير صدري كان مثل شجر يتقلّب

ظل قلبي يؤلمني مسافة موكب الرمل

مسّني هسيس المخطوط

في الليل كنت أسمع صراخ عصافير الماء

يأتي من وريد الريح الجاف

جهة النهر الكسيح

أستيقظُ مرتعباً وحيداً كل صباح

 في كل نوبة هلع تتلبّس جسدي الحمّى

تصبّ أُمي الرصاص السائل على الماء فوق رأسي

ترتّل العمات أوراد الطقوس الروحانية

يأبى مجنوني أن يغادرني

تقول أُمي صدر ابني مثقوب

كلما بكت أصابعه

 يخرج من ضلوعه نخل ورمان

لكن قلبه سيموت في كل صك مولود

ظمئي لخزائن المطر يقشر عشبي

جَرّتني صارية نهري

من فيض الخشوع للصراخ المشروخ

كنت كما أذكر جنوني أضم القارب في جيبي

أشدُّ قلبي كي أسمع فاكهة السفر

وتسألني بلابل الطريق

كيف تنام القصيدة

إن لم يجد الصغار شمساً

يرمون لها نواجذهم

أو ساقية تلهو فيها مراكبهم الورقية

 شجرة ربما يختبئون خلفها

لهذا ابتعت قِدْراً وقطفت الخرز الأخضر

 وصرت ناسكاً

كتبت أوّل قصيدة

فارق التوت قلبي

لم أبرح لوني ولم أقرب زادي مسافة حقل

يقتلني هذا الجنون ولا يهجع

أحرقت كثيراً من الصور

وفديت قيدي بقمح عظيم

قبل أن أكتب الديوان الأوّل

قالوا انج بنفسك قبل أن يغتالك قلبك

لكنني يا ربي مسكون بالوجوه الحافية

كيف تستقيم القصيدة

وكلما دعا العشب أحبتنا للنوم

يفتحون لهم نوافذ الأرض خلف السور

قد بلغ الهذيان الانشطار

القصيدة تنتشي بالخواء الثقيل

تتسكع أسفل الظلال

لا معالم في الحروف

لا مكان لبساتين التين

القصيدة تغمض عينيها

تبدأ اللوعة هنا

مَن وهب الولادة شهقتها؟

مَن أسقط المواسم في فوضى اليقظة؟

محنة المرء أدغال المباهج

لا تظن رحم الماء ضرير

فهي معصية تربك وجه الغابة

لذلك هشمت قِدْري

قالوا للنذر أربعين وحياً

ما غفوت لكن العصب اختمر

بلوحتي الأخيرة كنت وحيداً

في قاع القلق

وفوق ظهري شقاء العابرين

خلف غيمة تفور تركت صدري مفتوحاً

ذرفت نهري وطيوري

مزقت قصائدي وبقيت أنا مجنونها

حزيناً أهلوس بتعاويذي

أكره النوم وأستيقظ ما زلت مرتعباً

 ولا زلت

 كلما كتبت قصيدة يموت قلبي

ارسال التعليق

Top