• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دور زينب (ع) في مسيرة الحضارة الإسلامية

عمار كاظم

دور زينب (ع) في مسيرة الحضارة الإسلامية

الناس من حيث اهتماماتهم نوعان: الأوّل: يعيش همومه الغريزية المادية من طعام وشراب ومأكل وملبس لنفسه أو لمن يراهم امتداداً لنفسه كأولاده وأهله: (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ) (محمّد/ 12). (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) (الفتح/ 11). وآخرون يعيشون هموماً وأهدافاً تتعدى هذه الذاتية، ويعيشون بكلّ وجود أو بجزء من وجودهم على الأقل من أجل أهداف ذات آثار تتجاوز الذات. بتعبير آخر بعض الناس يعيشون لمتطلبات الطين الذي خُلق منه الانسان، وبعض آخر تتجلّى فيهم بدرجة وأخرى آثار النفخة التي نفخها الله سبحانه وتعالى من روحه في هذا الانسان. كرامة الانسان تتجلّى في هذا النوع الثاني، هذه الكرامة التي يشير اليها القرآن الكريم حيث يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الاسراء/ 70). بهذا التكريم يفضل الانسان على سائر المخلوقات، وبهذا التكريم يسخّر قوى الطبيعة ببرّها وبحرها. وبهذا التكريم يتحرك ليقيم خلافة الله في الأرض، وليشيد صرح الحضارة الانسانية الالهية. وأكبر ما تُمنى به البشرية من انتكاس هو ضمور هذا التكريم في وجودها بسبب عوامل مختلفة، فتنتكس في حركتها الحضارية أو تعيش أهواءها الذاتية، وهذه الأهواء عادة متضاربة بين الأفراد فيتمزق المجتمع ويُصبح عرضة لسيطرة الطواغيت عليه. الأديان السماوية استهدفت جميعاً احياء عنصر الكرامة في نفس الانسان، كلّ ما دعوا اليه يصب في هذا الهدف سواء على صعيد العقيدة أو السلوك أو العلاقات. الانسان لابدّ أن يعبد، المؤمن يعبد والكافر يعبد: (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) (الكافرون/ 2-3).

اما أن يعبد الله سبحانه وتعالى أو يعبد ما دونه، وجاءت الرسالات السماوية لتقول للانسان: أنت أكرم من أن تعبد غير الله، ولتحقق كرامته وجّهته لعبادة خالق السماوات والأرض: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) (النحل/ 36). وحين يعبد الله يتجاوز عبادة نفسه وعبادة هواه. وينطلق لتحقيق رضا الله في سلوكه وعلاقاته، ليتخلّق بأخلاق الله من عزّ وعلم وكرم وقدرة وسعة وحلم ورحمة وانتقام وسائر صفات الله سبحانه. وحين يعبد هواه يفقد كلّ قوة أودعها الله في نفس هذا الانسان بنفخته، فيصاب بالضعف أمام قوة الطاغوت واغراءات المال والشهوة فيمنى بالذل، وهو أقسى ما يمنى به فرد أو مجتمع. والأديان السماوية دعت الى تحرّر الانسان من كلّ ما يعيق حركته نحو كرامته وعزّته: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ اِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف/ 157). ولا يجوز للجماعة البشرية أن تعيش في حالة استضعاف يعيقها عن ممارسة دورها الرسالي في الحياة، وان وُجدت مثل هذه الجماعة فلابدّ من الجهاد لتحريرها: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) (النساء/ 75). والجماعة المستضعفة هي أيضاً مسؤولة عن رفع ما عليها من حالة معيقة عن حركتها التكاملية، فان لم تستطع رفع الاستضعاف عنها في مقامها فعليها أن ترحل لتجد المكان الذي تحقق فيه شخصيتها وعزتها وكرامتها، وان لم يفعلوا فقد ظلموا أنفسهم واستحقوا عقاب رب العالمين: (اِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء/ 97).

الرسالة الاسلامية في عصرها الأوّل واجهت نوعين من المجتمعات: الأوّل: مجتمعات جامدة ساكنة لا تطور فيها ولا حراك تعيش في اطار اهتماماتها الغريزية ولا تتعداها. الثاني: أمم ذات حضارة قائمة على أساس عبودية الطواغيت وكلّ شيء مكرّس فيها لخدمة الأباطرة الحاكمين، وكلّ اهتمام يصبّ في تقوية السلطة الحاكمة وجيوشها وعروشها ولهوها وقصورها. أما الانسان بما هو «انسان» فلا قيمة له في تلك الحضارات. وجاءت الرسالة الاسلامية لتقدم منهج تحرير الانسان من كلّ ما يعيقه عن الحركة على طريق كرامته.. تحريره من الجهل والخرافة وعبودية الطاغوت وعبودية الهوى من الخضوع والاستسلام لكلّ ما يريد للانسان أن يكون ضعيفاً ذليلاً مقهوراً. بهذا المنهج خلق الاسلام في المجموعة المسلمة طاقة روحية والصبر على مواصلة المعاناة، وهذه الطاقة الروحية كانت وراء كلّ ما ظهر في التأريخ الاسلامي من فتوحات وعلوم وفنون وحضارة مشرقة. الاسلام ركز في مفاهيمه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره الضمان اللازم لمقاومة المعوقات التي تظهر أمام المسيرة الحضارية، وهذا المبدأ يضع المسلمين أمام مسؤولية مواجهة هذه المعوقات وبذل الغالي والنفيس لازالتها. هذه المعوقات غالباً ما تكون طبيعية ناتجة عن خصلة الطين الموجودة في البشر. وتكون هيّنة حين تبرز على الساحة الفردية، فتتوجه دعوة الاسلام الى هذا الفرد أو ذاك للاهتداء ولتقويم الاعوجاج، ومن ثم لدفع هذا الانسان على مسيرة الكرامة والكمال. غير أنّها تكون خطرة حين تتحول الى عائق يقف أمام كلّ المسيرة الاجتماعية نحو الكرامة. فيصاب المجتمع بالذل، وتنتكس المسيرة برمتها. من هنا فانّ الرساليين وهم الذين استعلوا بايمانهم عن السقوط في أوحال الذل يتحملون من مسؤوليات التضحية بمقدار حجم الانحراف السائد. المجتمع الاسلامي بعد عصر الخلافة الراشدة مني بسبب عوامل عديدة بهذه النكسة، وأوشكت حالة الذل أن تخيم على المجتمع الاسلامي بعد أن أطبق عليها التخويف والتجويع والارهاب في أفظع صوره.

من هنا كان لابدّ من اجراء عملي كبير لاحداث هزة نفسية في المجتمع تشعره بكرامته المهدورة وعزته الضائعة، وكان الامام الحسين (ع) يتحمل هذه المسؤولية باعتباره امام ذلك المجتمع. حركة الحسين كانت من أجل هدف أكبر من الدولة الاسلامية وأكبر من أي هدف متصوّر آخر.. انّه عملية احياء المسيرة الحضارية الاسلامية في أهدافها المنشودة بعد أن تعثرت، بل كادت أن تنتكس وتتراجع بسبب حالة الذل المفروضة على المجتمع. كلّ مواقف الحسين وحركاته وسكناته وكلّ ما قاله وخاطب به أصحابه وأهل بيته وما خاطب به الجيش القادم على قتاله يؤكد هذه الحقيقة.. حقيقة أنّه قادم لاعادة الكرامة الى المجتمع الاسلامي. ليس حديثنا عن الحسين، بل عن عقيلة بني هاشم التي كان لها الدور الأكبر بعد الحسين في عملية احياء المجتمع المسلم، فماذا كان دورها الرسالي في تحقيق هذا الهدف الكبير. لابدّ أذكر أوّلاً أنّها كانت في اعتقادي مؤهّلة تماماً لحمل هذا الدور. لا تتوفر لدينا وثائق كثيرة عن شخصيتها، ولكن ما ذكره لنا التأريخ من نتف عابرة هو كافٍ لمعرفة شخصية هذه المرأة وتأهّلها لهذا الدور. يكفي ما ذكره لنا التأريخ أنّ هذه المرأة يخاطبها الحسين في أعظم وأصعب موقف في ليلة الاستعداد للقتل والسبي.. في ليلة العاشر من محرم ويقول لها: «يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل». انّي أفهم من هذه العبارة شيئاً كثيراً.. بعضه استشعره دون أن أتمكن من بيانه وبعضه يمكن بيانه، انّها عبارة تبين ارتفاع الأخ والأخت الى مستوى يفوق بكثير الحالات التي تصيب الناس العاديين حين يواجهون موقفاً رهيباً، تبين مدى ارتباط الأخوين بالهدف الكبير ومدى سموّها في القلب الالهي. وثمّة وثيقة أخرى بقيت خالدة عن هذه المرأة هي قولها عند وقوفها على جسد أخيها المدمى المقطع بالسيوف المحزوز الرأس.. وهو مشهد يهدّ الجبال ويضعف الأبطال، قولتها المشهورة: «اللّهمّ تقبل منّا هذا القربان». ومن الأفضل للانسان أن يكفّ عن أي تعليق على هذا القول ويكتفي بما يحدثه في النفس من عاصفة تحيّر العقول وتدهش النفوس. وثمّة وثيقة ثالثة تبيّن تأهّل هذه المرأة لمثل هذا الدور الرسالي ما ذكره المؤخرون أنّها أدّت ليلة الحادي عشر من محرم صلاة الشكر.. يا الهي كفى على عظمتك شهيداً أنّك خلقت أمثال هؤلاء العظماء الذين لا تقاس بهم عظمة سماواتك وأرضك!!!

الدرس الكبير العملي الذي قدمته زينب للأُمّة الاسلامية هو كيف يمكن تبديل حالة الذل الى حالة العزّة والكرامة. والبديع في الأمر أنّ أسرها ساعدها في النهوض بهذا الدور الرسالي التأريخي. لو كانت زينب عزيزة باخوتها وأهل بيتها وعشيرتها وأصحابها لما استطاعت أن تؤدّي هذه المهمة. ولكنها وقعت في ذلّ الأسر بعد أن فقدت اخوتها وأهل بيتها وحماتها، ولا شكّ أنّ الأسر ذلّ ما بعده ذلّ، خاصة حين يكون بيد أناس ذبحوا ابن بنت رسول الله وأحرقوا خيم عياله ورضّوا أجساد القتلى بالخيل ومارسوا ألوان الفظاظة والقسوة والدناءة. ولكن دور زينب هو أنّها حوّلت هذا الذل الى عزّة وكرامة، وكأني بها قالت للمجتمع الذي خيّم عليه الذل: أنا امرأة وحيدة لا ناصر لي ولا معين حوّلت حالة الذلّ التي وقعت فيها الى حالة عزّ فهل فيكم من بقايا كرامة؟!! كيف مارست زينب هذا الدور الرسالي الكبير؟

-عدم الشعور بالهزيمة: وهذه صفة هامة لمن يتأهّل لتحويل الهزيمة الى انتصار. لو بدى على زينب الانكسار أو الضعف والانهيار لما استطاعت أن تؤدي مهمتها، لكنها في مواقفها كانت من القوة بحيث جعلت المؤرخين يتحدثون عن هذه المواقف. قال بشر بن خزيم الأسدي: «ونظرت الى زينب بنت عليّ (عليها السلام) يومئذ فلم أرَ خفرة أنطق منها كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين (ع)، وقد أومأت الى الناس أن اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكتت الأجراس». هذا الموقف يدل على أنّ صلابة شخصية زينب قد أثّرت على هذا الرجل كما أثّرت على كلّ المخاطبين بحديثها في الكوفة. يقول الراوي: «لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم. ورأيت شيخاً واقفاً الى جنبي يبكي حتى اخضلّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول وشبابكم خير الشباب ونساؤكم خير النساء ونسلكم خير نسل لا يُخزى ولا يُبزى». وهذه الصلابة وعدم الاحساس بالضعف أفقدت صواب والي يزيد عبيد الله بن زياد فما بالك بالآخرين الحاضرين في مجلسه حين أدخل عيال الحسين على ابن زياد فدخلت زينب متنكرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتى جلست ناحية من القصر، وحفّت بها النساء. فقال ابن زياد: من هذه التي انحازت فجلست ناحية ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانية وثالثة يسأل. فقالت بعض النساء هذه زينب بنت رسول الله (ص). لاحظوا عظمة الموقف: دخلت على أعتى مستكبر وأبشع قاتل وأفظع طاغية، فما التفتت اليه، ولا وقفت أمامه، ولا أستأذنته في الجلوس، بل أهملته وانحازت وجلست مع النساء في جانب من القصر، ثم لم تجب على سؤال الطاغية رغم أنّه كرره ثلاثاً. هذا يعني أنّها لم تستشعر بأي ضعف ولم يساورها أي شعور بالهزيمة.

-المحافظة على روح العزّة: حرصت زينب (عليها السلام) على صيانة روح العزّة لدى سبايا أهل البيت كي لا يستشعروا الذلة في أسرهم، ولكي يكونوا هم أيضاً صورة لمن يأبى أن يُذلّ. في الرواية أنّ السبايا أدخلوا في دار الى جانب المسجد الأعظم، ومن الطبيعي أن تزورهم النساء، فتجمّعن على باب هذا البيت للدخول على زينب، فخشيت زينب أن يساور نساء آل بيت النبوة نوع من الاحساس بالذلة أمام بقية النساء، فرفضت زينب دخول النساء عليها وقالت: «لا تدخل علينا الّا مملوكة أو أم ولد فانّهنّ سُبين كما سُبينا». لاحظ أنّها سمحت لدخول نوع خاص من النساء يشاركن أهل بيت النبوة في الأحاسيس والمشاعر، دون بقية النساء اللاتي لا يحملن مثل هذا الاحساس والتأريخ المشترك. وفي الرواية أنّ قافلة السبايا حين دخلت الكوفة قدّم لهم بعض أهل هذه المدينة تمراً وخبزاً. فصاحت زينب: «انّ الصدقة حرام علينا أهل البيت». فرمى كلّ واحد منهم ما في يده أو فمه وراح يقول لصاحبه: انّ عمّتي تقول انّ الصدقة حرام علينا أهل البيت. بهذا الشكل جعلت هذه الأسرة الكريمة تستشعر عزتها وكرامتها في انتسابها لآل بيت رسول الله (ص).

-الايمان بالمستقبل: من عناصر التربية القرآنية في تحقيق النصر الايمان بالمستقبل، الايمان بانتصار العدل على الظلم وانتصار الدم على السيف وانتصار المستضعفين على المستكبرين. هذا الايمان كان راسخاً في نفس زينب وكان له الأثر الكبير في تحقيق هدفها الكبير. في الرواية أنّها رأت التأثر الكبير على عليّ بن الحسين (عليهما السلام) وهو يستعرض ذكريات الواقعة الأليمة في كربلاء، ومشهد الأجساد المتناثرة على الرمضاء، فقالت له: «مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي واخوتي، فوالله انّ هذا لعهد من الله الى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والأجساد المضرّجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لمّا يُدرس أثره ولا يُمحى رسمه على مرور الليالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره الّا علوّاً». وبهذا الايمان بمستقبل تسقط فيه دولة الظالمين تخاطب يزيد قائلة: «فكد كيدك واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض (تغسل) عنك عارها، وهل رأيك الّا فَنَد، وأيامك اّلا عَدَد، وجمعك الّا بَدَد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، انّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل».

-الشجاعة: وهي خصلة بارزة في مواقف السيدة زينب، وقد ورثتها عن أبيها، بل من مدرسة أبيها وجدها، وهي مدرسة القرآن التي تعلّم الانسان أن يخشى الله ولا يخشى سواه، تربّت على أنّ الحوادث مهما كانت جسيمة لا يهتز لها قلب، ولا يرتجف لها جسد، وعلى أن تستقبل الموت وتطلبه، ومن طلب الموت كُتب له الحياة وكُتب له الخلود.

فهي تقف أمام طاغية زمانها لتقول له: «ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك اني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى والصدور حرّى». الطاغية المتفرعن أمامها لا يستحق حتى التقريع والتوبيخ، فهي أكبر من أن تخاطبه بأي شيء حتى بالتقريع والتوبيخ.. أيّة شجاعة هذه؟!! برزت شجاعتها ورباطة جأشها في دفاعها عن آل بيت النبوة أمام كلّ تهديد، فتنقّلها بين الخيام المشتعلة، راكضة لتجمع الأطفال وتقيهم من النار والتشرد، موقف لا يصدر الّا عن امرأة لم تفقد السيطرة على نفسها حتى في ذلك الموقف الرهيب الذي يزلزل أعاظم الرجال.

وهكذا وقوفها مدافعة عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) حين أمر ابن زياد أن تضرب عنقه. اذ تعلّقت به عمّته وقالت: يا ابن زياد حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: «والله لا أفارقه فان قتلته فاقتلني». وموقفها من الرجل الذي طلب من يزيد أن يهب له فاطمة بنت الحسين باعتبارها جارية.

نهضت زينب وقالت: «كذبت والله ولؤمت ما ذاك لك ولا له (أي ولا ليزيد)». فغضب يزيد وقال: كذبت انّ ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت. فأجابته العقيلة: «كلّا والله ما جعل الله لك ذلك الّا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها». فاستشاط الطاغية غضباً وقال: «اياي تستقبلين بهذا انما خرج من الدين أبوك وأخوك». فقالت له دون أن تؤثر فيها حدّة الخصم: «بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك لو كنت مسلماً». فقد يزيد صوابه وصرخ: كذبت يا عدوة الله. فأجابته بما ينهي هذا التصعيد بعد أن سجلت موقفها الشجاع وقالت: «أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك». وتقول الرواية: فكأنّه استحيا وسكت. وتنتقل أخبار هذه المواقف الى العالم الاسلامي وتتناقلها الأفواه التي أُلجمت والألسن التي بُكمت باعتبارها ملاحم آل بيت رسول الله فتفعل فعلها في النفوس.

-مفهوم النصر والهزيمة: من العوامل الهامة التي تستطيع أن تحوّل الهزيمة الى نصر والذلّ الى عزّة ما يحمله الانسان من مفهوم عن معنى النصر والهزيمة. والاسلام ربّى أبناءه كي لا يعرفوا للهزيمة معنى، فهم ينالون على أي حال احدى الحسنيين، وانحسار الحقّ لا يعني فشله وضعفه بل يعني تمحيص المؤمنين الصادقين، وانتفاش الباطل لا يعني انتصاره لأنّه هو استدراج أهل الباطل كي يزدادوا اثماً. هذه المفاهيم كانت زينب (عليها السلام) تبثها في المجتمع محاولة تصوير يزيد المنتصر بأنّه هو المنهزم وبأنّهم هم المنتصرون.. المنتصرون بما نالوا من فوز الشهادة.. والمنتصرون على المدى البعيد حين تهدم دماؤهم عروش الطواغيت. تقول (عليها السلام) مخاطبة يزيد: «أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ عليها أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الاماء أنّ بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة؟! وأنّ ذلك لعِظَم خَطَرك عنده؟! فشَمَختَ بأنفك، ونظرت في عطفلك جذلان مسروراً، حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحيث صفا لك ملكنا وسلطاننا؟!! فمهلاً مهلا، لا تطش جهلا. أنسيت قول الله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ اِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا اِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (آل عمران/ 178). وتقول مخاطبة ابن زياد حين قال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.

تقول له: «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمّد (ص)، وطهّرنا من الرجس تطهيراً. انما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله». يعاود ابن زياد الطعن فيقول: كيف رأيتِ فعلَ الله بأهل بيتك؟ تجيبه بنفس تلك المفاهيم فتقول: «كتب الله عليهم القتلَ فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتتحاجّون وتتخاصمون عنده». وفي رواية أخرى أنّها قالت: «ما رأيت الّا جميلا.. وسيجمع الله بينك وبينهم..».

نعم.. ما رأيت الّا جميلا.. في هذه العبارة تتلخّص كلّ شخصية زينب بنت عليّ (عليهما السلام).. وكلّ نظرتها العرفانية الى الأمور. أي جمال هذا الذي ينجلي لسليلة بيت النبوة ولا تراه العيون المحجوبة عن رؤية الجمال الحقيقي في هذا الكون!! وأي جمال تستشعره هذه العارفة بالله ولا تحسّه القلوب القابعة في أكنّة الآثام والرذائل!! وفي عبارة أخرى تخاطب يزيد مؤكدة أنّه أباد نفسه بنفسه حين فعل فعلته تقول له: «فوالله ما فريت الّا جلدك، ولا جززت الّا لحمك... (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران/ 169). هذه المفاهيم بثتها زينب في المجتمع، وانتشرت وذاعت بفضل الدماء التي سُفكت في كربلاء، وكانت الشرارة التي أيقظت الناس من سباتهم العميق.

-التبكيت: حينما تكون الضمائر هامدة والنفوس رخوة والارادة مهتزّة لابدّ من التبكيت الشديد لتكون صعقة لاستثارة بقايا الحياة في هذا الجسد واستنهاض بقايا الهمّة فيه. القرآن مارس هذا التبكيت مع المهزومين والضعفاء والمترددين. وزينب انطلاقاً من هذه المدرسة القرآنية خاطبت أهل الكوفة الذين التفوا حول موكب الأسرى يبكون لهول الجريمة.. يبكون ولكن بكاء من فقد ارادته واستسلم للواقع السيِّئ.. ولا قيمة لهذا البكاء.. تخاطب زينب هؤلاء فتقول: «يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا قطعت الرنة، انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً. أتبكون وتنتحبون؟! أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً.. ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم، وأيّ كريمة له أبرزتم، وأيّ حرمة له انتهكتم؟».

ولا تقريع أكثر من أن يسمعوا بأنّهم فَرَوا كبد رسول الله، وأبرزوا كرائمه وانتهكوا حرمه. وتخاطب يزيدَ لتخاطب من خلاله كلّ المسلمين، فتستعرض ما نزل بآل بيت النبوة بصورة مؤثرة جدّاً تستفزّ حتى الضمائر الميتة فتقول: «أمِنَ العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك واماءك وسوقُك بنات رسول الله سبايا، وقد هُتكت ستورهنّ وأبديت وجوهُهنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد الى بلد، ويتشرفهنّ أهل المناهل والمناقل، ويتفحّص وجوههنّ القريب والبعيد والدنيء والشريف، ليس معهنّ من حماتهنّ حميّ، ولا من رجالهنّ وليّ؟!! وكيف تُرجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه بدماء الشهداء؟».

بهذا النهج نهضت زينب (عليها السلام) بدورها التأريخي، فقد استنهضت الهمم وأيقظت العزائم، فانتفضت الأُمّة تطالب بكرامتها وتستعيد عزتها، وبذلك تواصلت حركة التأريخ الاسلامي التي أوشكت أن تقف وتنتكس، وقدمت عطاءها على مرّ الزمن، ولا يزال هذا العطاء متواصلاً الى يومنا هذا يؤتي أكله كلّ حين. غير أنّ المسيرة يعتريها دائماً وبشكل طبيعي الضعف بسبب العوامل المضادة، بل قد يعتريها الركود والخمود، لذلك فانّها بحاجة دائماً الى نهج زينب وصوت زينب ليدفع بالمسيرة الى أهدافها المنشودة. «فكد كيدك واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض (تغسل) عنك عارها، وهل رأيك الّا فَنَد، وأيامك اّلا عَدَد، وجمعك الّا بَدَد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، انّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل».

ارسال التعليق

Top