د. نبيل ياسين
لعبت الجامعات وأساتذتها في أوربا دوراً كبيراً وعميقاً في ترسيخ مفاهيم الدولة الديمقراطية. أي المفاهيم الفلسفية والحقوقية للدولة ووظيفتها وموقع الإنسان فيها، هيجل في ألمانيا كان يحلل الدولة، سواء علاقتها بالمواطن أو بالمجتمع المدني. هوبز كان يصوغ فكرة الحكومة المدنية. لوك كان يعالج ويصوع فكرة المواطن. الموسوعيون يبحثون في روح القوانين وفي العقد الاجتماعي بين الفرد والمجموع وبين المجموع والدولة. هربرت سبنسر بحث في (الفرد في مواجهة الدولة) و(مبادئ السوسولوجيا والأخلاق) حيث يتحد التطور بالتقدم في جميع المجالات إذ لا تخلو السياسة من الأخلاق.
انطلقت الأفكار التنويرية في أوربا من الجامعات. التجربة جديرة بالدراسة والمتابعة. انّ دراسة تاريخ الأفكار مهمة أساسية لبناء النظام الديمقراطي. فالتعليم صمم النظام السياسي الديمقراطي لأوربا، ثمّ نفذه السياسيون وبنوه مضطرين، لأنّه أخذ يلبي مصالحهم السياسية تجاه الوعي العريض بأهمية التحول من الاستبداد والحكم المطلق إلى الجمهورية ودولة المؤسسات وسيادة القانون.
لم يكن تصميم النظام الديمقراطي عملاً منجزاً في مرحلة، أو من خلال شخص أو جهة، أنّه تصميم عدة أجيال من المفكرين والفلاسفة والأكاديميين في عدة دول مثل بريطانيا وهولندا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة.
انطلق دور التعليم في أوربا من الأفكار التنويرية للفلاسفة والمفكرين (بدءاً باسبينوزا) الذين تحملوا مسؤولية صياغة المفاهيم والأفكار التي تقوم عليها الدولة باعتبارها تمثل مطالب المجتمع وسيادته. كما تحملوا مسؤولية صياغة مفاهيم المواطنة والمجتمع المدني. وهذا يعني أنّ التعليم لم يعد يهتم فقط بالأفكار الدينية كما كان شائعاً في القرون الوسطى، بحيث أصبح التصادم بين العلم والتعليم سمة القرنين السابععشر والثامن عشر، ليصبح القرن التاسع عشر قرن حرية البحث والتعليم بلا منازع، الأمر الذي مهد لقيام الديمقراطية الأوربية كما كرس الثورة الصناعية باعتبارها نتاج الترابط بين العلم والتعليم.
لا ننسى دور الأفكار الاقتصادية الليبرالية والصراع الفكري لدور الاقتصاد وطريقة عمله في الدولة أو في المجتمع حين برزت أفكار ريكاردو وآدم سميث، وآلن وغيرهم، لتسير أيضاً من الجامعات التي انتبه ماركس إلى دورها من خلال فيورباخ وهيغل والنشاط الفلسفي للجامعات الألمانية في القرن التاسع عشر حيث ظهرت وتفاعلت الأفكار الكبرى.
لقد كانت النهضة الصناعية والتكنولوجية لأوربا مرتبطة بنمو رأس المال وعلاقة هذا النمو بتطور العلوم والتعليم. أي أنّ المصالح المشتركة للجامعات والتعليم ارتبطت بمدى استفادة الشركات الصناعية واستفادة الدولة في انشاء المرافق العامة من مواصلات واتصالات وكهرباء ومياه وبريد وغير ذلك. وارتبط انشاء هذاه المرافق بمدى قدرة التعليم على انجاز الحاجات الملحة التي تولت الدولة حمايتها من خلال قوانين تكرس وظيفة الدولة كحارس للمال العام ومشرفة على تبادل المصالح سليما، بعد أن كرس التعليم مفهوم دولة المواطنة ووظيفتها في توفير الرفاهية للمواطنين.
إن كلا من الميادين الإنسانية من سياسة وفلسفة وقانون، والميادين العلمية التطبيقية من فيزياء وكيمياء وبيولوجيا، ساهم في تكوين أهمية التعليم في بناء الدولة والمجتمع وتطورهما على الأساس العلمي القائم على الدراسات والتجارب والاكتشافات والبحث عن مصادر اقتصادية من خلال التعليم والعلم، سواء داخل أوربا أو خارجها، الأمر الذي ساهم في توسع النشاط الاستعماري خارج القارة الأوربية للبحث عن مواد أولية وأسواق في نفس الوقت.
ارسال التعليق