• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المقاييس الإلهية في حياة الإنسان

د. محيي الدين الأنصاري

المقاييس الإلهية في حياة الإنسان
ما كان الله سبحانه ليَذَرَ الناس هَمَلاً دون هدف في حياتهم على هذه الأرض، وما كان ليذرهم دون أن يحدّد لهم سبُلَ الوصول إلى هذا الهدف، "العبودية" له، والطاعة له وحده، وكانت السبل رسلاً وكتباً مُوحى بها من لدنه. وقد اتضحت على ألسنة هؤلاء الرسل، وعلى صفحات الكتب السماوية كلٌّ مقاييس التعامل في الحياة، وكل الخطوط العريضة التي تنظم حياة الأفراد والجماعات والدول، وربما تركت بعض الجزئيات للإنسان نفسه يملأها بما يستجدّ في حياته، ولكنه – في الأحوال كلها – لا يتجاوز تلك المقاييس السماوية، ولا تلك الخطوط العريضة التي تنظّم حياته. ولقد كان الكتاب الرباني الأخير – القرآن العظيم – أوضح هذه الكتب في إبراز المقاييس وثباتها، لأنّه الكتاب الإلهي الوحيد الذي سَلِم من عبث الإنسان، وأغراضه، ورغبته في الخروج على "مقاييس" الله وحدوده، لأنّه هو الكائن الوحيد في الكون الذي يملك حرية الإرادة في الاستجابة لهذه المقاييس أو رفضها أو "التحرّر" منها على زعمه!! وهنا تأتي قيمة الثواب والعقاب على موقفه هذا. وهنا يتجسّد المظهر العملي لتكوينه الخلقي والروحي، إنساناً منسجماً مع حركة الكون، أو خارجاً عن نواميسها، كما يَشذ كوكبٌ عن مساره فيتلاشى في آفاق السماوات... ولن يشذّ كوكبٌ... لأنّه ليس حراً ولا مختاراً!! لقد أبان هذا الكتاب رؤى الحق والاستقامة، وأهداف الصلاح ودوافع الإنسان بشكل لا يدعُ مجالاً للّبس والغموض، ليسير الإنسان على هدىً وبيّنة، ولكي يكون مساره في الليل كمساره في النهار! وتلك هي المحجة البيضاء التي عناها خاتم الأنبياء (ص) في حديثه الشريف. هذه المقاييس يُجسّدها الحكم القرآني المتمثل بعدة آيات قرآنية كريمة، كقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء/ 59)، وقوله: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (النساء/ 65).. وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) (الكافرون/ 1-3). وقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة/ 6). وجاءت السُّنّة المطهرة لتزيد هذه المقاييس وضوحاً بشرحها، أو إضافة مقاييس أخرى عليها، كقوله (ص): "لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكون هواهُ تَبَعاً لما جئتُ به"، وقوله: "من قاتلَ لتكون كلمةُ الله هي العليا، فهو في سبيل الله". وبهذا تكون المعالم والمقاييس واضحة للإنسان في مسيرته الحياتية، يحاول ويجدّ ويكدح مستنيراً بهدي تلك المقاييس، سائلاً الله أن يعينه على بلوغ الهدف (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) دعاءً خالصاً في أن تكون مسيرة الجماعة (لاحظ صيغة الدعاء بالجمع، اهدنا)، وبضمنها الفرد، ضمن المقياس الإلهي، الصراط المستقيم، إذ ان الاستقامة بالمعنى الذي يحدّده الله وشرعه وليس بالمعنى الذي يتعارف عليه البشر وتحدده مصالحهم وغرائزهم وأهدافهم. وحين تتحدّد المقاييس تصبحُ قيمة الإنسان – في المنطق الإسلامي – في جدّه لتحقيقها في حياته بدقة ونباهة واجتهاد، إذ ان قيمة هذا الإنسان تتضح من خلال أهدافه ودوافعه وسبله ومناهجه في الوصول إلى هذه الأهداف، كما تتضح من خلال اهتماماته منظوراً إليها من خلال المقاييس التي آمن بها وجعلها شعاراً لحياته. ولكننا حين نطّلع على السجل البشري في التاريخ نرى التباين الواسع في أهداف الناس والوساط التي يتبعونها من أجل تحقيق تلك الأهداف، وهو أمرٌ طبيعي بعدما عرفنا الطبيعة البشرية وخبرناها واستنرنا بالإيضاح القرآني عن طبيعة الإنسان وتكوينه وميوله. وهكذا ترى الناس (كلٌّ يعملُ على شاكلته). فكافر ومؤمن، وشقي وسعيد، ومَن همّه الدنيا، ومَن همّه الآخرة، ومَن يركب الدنيا للدين، ومن يركب الدين للدنيا، ومنافق ذو وجهين، ورباني مخلص صادق... و... أنماط شتى، وسبل متفرقة، وطاقات مستثمَرة لله، وجهود أخرى في ركاب الشيطان... وأعمال هادفة، وأخرى لاهية لاعبة!! هذا السجل البشري حافلٌ بالأمثلة من كلا الجانبيين، وهي عِبَرٌ لمن ألقى السمع وهو شهيد. مدارس واتجاهات، وقيم، ولا قيم، وإنسانية وحيوانية، ودنيا وآخرة، والله والطاغوت.. كل ذلك يتصارع في ذهن بني البشر وبين أيديهم ومن خلال أعمالهم.. حدثتنا بذلك كتُب الله.. وحثتنا كتب البشر، ورأينا بأعيننا، وسيرى الناس الآتون بعدما ما رأينا!!. فلقد كان أناس يعيشون مع الرسول الكريم، ويستمعون إلى آيات الله تُتلى على مسامعهم صباح مساء، ولكن قلوبَهم غُلْف، لا تتأثر لا بسيرة الرسول، القرآن الناطق ولا بالوحي الذي يهبط من السماء، فمنهم من يكفر علناً، ومنهم من يدخلُ الإسلام نفاقاً فتتضح حقيقته من خلال محك الجهاد والبذل المالي ساعة العسرة. ومنهم من ينظر إلى الدين بمنظار المصالح ومقاييس النفع، فإن كان خيراً فرحُوا، وإن كان امتحاناً وابتلاءً قنطوا وأظهروا الكفر، أو تعلّلوا بالعلل!! فكان القواعدُ منهم والمخلّفون، وكان ناقضو العهود... وكان... وكان.. وليس أدلّ على تصوير تلك المواقف البشرية التي اضطربت المقاييس في ذاتها، أو قلْ اتخذت شاكلةً أخرى غير شاكلة المقياس الإلهي، ليس أدلّ على ذلك من قوله تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) (التوبة/ 42). فلو كان ما دعوتهم إليه من جهاد في سبيل الله متاعاً من الدنيا سهل المأخذ، وسفراً هيّناً غير متعب لاتبعوك طلباً للغنيمة، ولكن بعدت المسافة، وبان الجهد والتضحية من ملامح السفر قبل البدء به، فتركوك!! ذلك أنّ المقياس كان الدنيا... ومن يكن مقياسه الدنيا... يَعْشُ عن ذكر الرحمن، ولا ينظر أبعد من قدميه!!   *كانو – نيجيريا

ارسال التعليق

Top