• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن.. كتاب الإسلام المقدس

السيد حسين نصر/ ترجمة: داخل الحمداني

القرآن.. كتاب الإسلام المقدس

القرآن.. هو كتاب الإسلام المقدَّس، المعروف بأسماء كثيرة في اللغة العربية، أشهرها القرآن، إنّ كل المسلمين يعتقدون – بغضِّ النظر عن مذاهبهم الفكرية ومشاربهم العقائدية – بأنّه كلام الله المُنزل على قلب النبيّ (ص) عن طريق الوحي عبر المَلك المقرَّب، ويَرون كذلك قداسة كلماته ومعانيه وكلِّ شيء يرتبط به من فنِّ الترتيل وغيره.

ذلك الكتاب الذي ترنُّ آياته في أسماع المسلمين منذ اللحظة الأولى التي يفِدون فيها على الدنيا، ويظلون يسمعونها طوال حياتهم ويقرأونها في صلاتهم ومراسم زواجهم، وحتى عندما يرحلون عن هذه الدنيا حيث يسمعون ترنُّمه عند مضاجعهم في القبور. هذا القرآن مبدأ لِمَا بعد الطبيعة، ولعلم الكلام، والفقه، والأخلاق، والتاريخ، وهو الكتاب الذي خامرَ قلوب وعقول المسلمين؛ إذ إنَّ حياتهم مملوءة بصيَغٍ وجمل قرآنية تتكرر على ألسنتهم يومياً، من جملة تلك الصيغ قولهم عند ابتداء الأعمال الشرعية (بسم الله الرحمن الرحيم)، وتعبيرهم بـ(الحمد لله) عند نهاية العمل شكراً للأتمام، و(إنْ شاء الله) عند التحدث عن المستقبل لأنّ المستقبل بيد الله، ولا يمكن لأيِّ شيء أن يتحقق إلّا بإرادته، ولا تسقط ورقة إلّا بإذنه، وحتى سلامهم وتحيَّتهم اليومية (السلام عليكم) التي علَّمها رسول الله (ص) لأصحابه على اعتبار تحية أهل الجنة، فإنّها مأخوذة من القرآن: (.. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ...) (يونس/ 10).

وهكذا يعتقد البعض من الباحثين الغربيين بأنّه ليس هناك كتاب في الأديان أكثر تأثيراً في تابِعيه من القرآن، وحتى يفهم الإنسان الغربي – مع وجود المسبوقات الذهنية للدين المسيحي لديه – أهمية القرآن بصورة كاملة، فإنّ قياسه للقرآن مع كتب العهدين وإن كان صحيحاً غير أنّ القياس الأصح هو أنّ القرآن في الإسلام يقابل المسيح في المسيحية، إن روح وجسم المسيح مقدَّسان، وهو كلمة الله عند المسيحيين، والقرآن كذلك عند المسلمين فإنّ له روحاً وجسماً وباطناً وظاهراً، والظاهر يشمل المتن المُنزل من الله على صدر النبيّ (ص)، فهو مقدَّس بتلك الاعتبارات. واللغة العربية لغة الإسلام مقدَّسةٌ، وتحظى لغةُ القرآن في الإسلام بنفس المنزلة، التي يحظى بها جسد المسيح في المسيحية.

إنّ المسلمين سُنّةً وشيعةً يعتقدون أنّ متن القرآن واحد، يشتمل على مئة وأربع عشرة سورة، وأكثر من ستة آلاف آية، نزل على الرسول (ص) في مدة ثلاث وعشرين سنة، في مكّة والمدينة.

ويعتقد المسلمون أنّ الله أعطى لكلّ نبيٍّ معجزة تتناسب ومتطلّبات المرحلة التي يعيش فيها، فرواجُ السِّحر في مصرَ ظاهرة حتّمت على موسى (ع) أن يأتي بمعجزة من سنخِها، فأعطاه الله قدرة على تبديل العصا إلى ثعبان.

وكذلك اقتضى التطور النوعي على مستوى العلوم الطبية بأن تكون معجزة عيسى (ع) إحياءَ الموتى وإبراء الأكمَه والأبرص. ثمّ نجد الأمر نفسه على مستوى الرسالة الإسلامية، فإنّ المستوى الأدبي الرفيع الذي بلغَه المجتمع آنذاك في حقول الخطابة والفصاحة والبلاغة والشعر أدى إلى تجسد معجزة النبي (ص) في القرآن، والذي عجز كبار الفصحاء والبلغاء عن معارضته، تلك الفصاحة التي لم تزلزل قلوب وأرواح أعراب القرن السابع الميلادي فحسب، بل أثّرت على المؤمنين من المسلمين في هذا الزمان، الأمر الذي حصل للمسلمين غير العرب، فإنّهم وإن كانوا لا يدركون المعاني الدقيقة للبلاغة والفصاحة في القرآن، لكنهم لا يقلّون شأناً عن العرب المسلمين في تأثرهم به، وسرُّ هذا راجع إلى خصوصية ذلك الكتاب كرسالة سماوية تهوي إليها الأرواح فتبعثها إلى ساحة القدس الإلهية، الأمر الذي نشهده في الغرب أيضاً، فإنّ سماع نشيد (Gregoria chant) باللغة اللاتينية ظل مؤثّراً قروناً عديدة حتى في أولئك الذين لا يعرفون اللغة اللاتينية، وهذا الكلام جارٍ أيضاً في مراسم العشاء الرباني باللغة اللاتينية، فإنّ الأداء الجميل لطقوس العبادة والابتهال والمناجاة لتلك المراسم جعلت منها طقوساً مؤثرة حتى على ذوي الأعمار الصغيرة، والكاثوليك الذين لا يعرفون اللغة اللاتينية.

وللقرآن أسماء كثيرة يمثّل كلُّ واحد منها بُعداً من أبعاد الحقيقة، وزاويةً من زواياه، فالقرآن اسم بمعنى الجمع والتأليف، والفرقان اسم بمعنى الميزان والمعيار الذي يميّز بين الحق والباطل، والخير والشر، والحسن والقبيح، وقد سُمّي أيضاً (أم الكتاب) لأنّه المنشأ والأصل في العلوم كلها، وسمي (الهدى) لأنّه دليل الجميع إلى الله، وهو حسب اعتقاد المسلمين الأساس لجميع العلوم الظاهرية والباطنية، وأساس القانون، والطريق النهائي للأخلاق، وشبكة تلتقط فيه السماء أرواحَ الناس وتنتشلها من الكثرة وتُرجعها إلى الوحدة.

إنّ للقرآن مضامين ومقاصدَ مختلفة، وقبل كل شيء فإنّ لمسألة ماهية الحقيقة الإلهية الحظَّ الأوفر من بين تلك المقاصد، وتأتي مسألة العالم المادي بالدرجة الثانية في اهتمامات القرآن، إذ يمكن القول: إنّ العالم شريك في الوحي، وأيضاً يولي القرآن اهتماماً خاصاً بالتاريخ المقدَّس ويخصص له قسماً ليس بالقليل من صفحاته، وهذا النقل التاريخي القرآني ليس المراد منه تدوين وتقرير بعض الوقائع التاريخية، وإنما هو لأجل رفد وإغناء الحياة المعنوية والروحية للإنسان، والحاصل هو أنّ التاريخ القرآني المقدّس يشتمل على دروس أخلاقية ومعنوية لحياتنا اليومية، وهو يؤسس لأحكام تخصُّ الفردَ والمجتمع، وإضافة إلى أنّه المصدر الأهم للفقه والشريعة الإسلامية فإنّه يؤكد كثيراً على مسألة الأخلاق والحُسن والقبح في الأفعال، وعلى أهمية الحياة المُشتملة على الفضيلة. وفي الختام يتحدث القرآن بلسانٍ تحذيريّ وخصوصاً في السُّوَر الأخيرة عن وقائع المعاد ويوم الآخرة عن الجنة والبرزخ والنار. إنّ لغة القرآن في تناول الحقائق المرتبطة بالمعاد لغة رمزية صامتة وليست انتزاعية أو وصفية بالمعنى الساذج للكلمة؛ لذا فإنّ الإحاطة بتلك اللغة لا يمكن في مورد المسائل التي يصعب تصوُّرها في العالم المادي الترابي، وقد أدّت هذه الخصوصية إلى انتقاد البعض للقرآن بوصفه كتاباً يهتم بعرض اللذائذ والشهوات، على غرار ما هو موجود في الحياة الدنيا على مستوى أعلى؛ لكن، في الحقيقة، إنّ كل لذّة وشهوة دنيويتين وخصوصاً اللذائذ والمتع الجنسية، هي مقدّسة في إطار الشرع الإسلامي، وهي انعكاس عن النماذج المثالية للجَنّة وليس العكس. القرآن ووفقاً لما جاء عن النبيّ (ص) وأكثر الأولياء كالإمام عليٍّ والإمام الصادق (ع) ينطوي على مراتبَ وبطونٍ في المعنى تختص معرفة أعلاها وأسماها بالله وحده، وكما أن لله ظاهراً وباطناً فإن لكتابه بُعداً باطنياً وظاهرياً أو في الواقع له مراتب معنوية متعددة. وعلى ضوء هذين البُعدين (الظاهري والباطني) كُتبت الشروح القرآنية على امتداد التاريخ الإسلامي، بحيث إنّ ما ارتبط منها بالبعد الظاهري سُمي تفسيراً، بينما يُصطلح على ما اختص بالبعد الباطني تأويلاً. ويحظى كل من القسمين بأهمية كبرى في فهم متون القرآن، إنّ كل كلمة من القرآن الكريم تمثل موجوداً حيّاً تزدحم فيه المعاني والرموز والإشارات؛ وعلم الجفر (الحروف) واحد من تلك العلوم التي تبحث في هذا السياق، وهو ما يعادل الـ(قبالة) عند اليهود والمسيحيين. إنّ السُّورَ والآيات القرآنية طريق ودليل في سفر المسلمين الدنيوي؛ إذ إنّ كل ما له صفة إسلامية من علوم ما بعد الطبيعة والكلام والشريعة والأخلاق والعلوم والفنون الأخرى، فإنّ له أساساً وأصلاً في القرآن الكريم، وكل حركة دينية أو عقلية اجتماعية أو سياسية فإنّ مشروعيتها قد استُنبطت من القرآن وحتى حركة حياة المسلمين التقليدية التي كانت بعيدة عن مثل تلك الحركات، فإنّها كانت مندمجة بعمق بالتعاليم والمفاهيم القرآنية، إنّ القرآن عين ثرّة لا تنضب ومائدة يأكل منها الجميع. واليوم كما هو الحال في صدر الإسلام يُعدُّ القرآن الحقيقة الإسلامية المحورية والعاملَ الأساس في حياة المسلمين على المستويين الفردي والاجتماعي.

المصدر: كتاب قلب الإسلام/ قيم خالدة من أجل الإنسانية

ارسال التعليق

Top