• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن الكريم ومعالجة الإلتباس في حقوق الإنسان

مهيوب خضر محمود*

القرآن الكريم ومعالجة الإلتباس في حقوق الإنسان
◄إحتل جانب التعامل مع الآخرين في الإسلام منزلة عظيمة لا تعلوها منزلة، وعلت حقوق الإنسان في القرآن إلى درجة لا تضاهيها درجة، فلا القانون الدولي، ولا دستور الأمم المتحدة يستطيع أن يصون هذه الحقوق كما هو الحال في قوانين الإسلام، وتعاليمه. ومن المؤسف أنّه غالباً ما يلتبس الأمر على بعض المسلمين، فلا يزن قضية التعامل مع الآخرين، وحقوقهم بميزان الإسلام، فكل يضعها في محور إجتهاده الخاص حسب ظروف الزمان، والمكان، ومن هنا يبدأ الهبوط في مستوى التعامل عن المنزلة المطلوبة في الإسلام، ويكفينا زيارة واحدة إلى محكمة الأحوال الشخصية في أي بلد عربي أو بلد إسلامي لنقيس مقدار مستوى الضعف الذي وصلنا إليه في مسائل التعامل والحقوق!. ولو تتبعنا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة لوجدنا المبادئ التي نتحدث عنها متجلية تسطع بنورها الأخاذ لتسير بالبشرية في طريق الإرتقاء والسمو حتى إن الله سبحانه وتعالى ربط هذه القضايا بالثواب والعقاب الأخروي، بل وأنزل عذاب الإستئصال لبعض الأمم السابقة حينما تخلت عن هذه المبادئ. وإبتداءً أبرز الله سبحانه وتعالى مكانة الإنسان الحقيقية في دين الإسلام بغض النظر عن لونه أو جنسه، أو لغته. فيقول سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء/ 70)، فالتكريم هنا جاء للإنسانية جمعاء دون إستثناء. كما يقول الله تعالى أيضاً: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا) (البقرة/ 34)، وأي تكريم من الله للإنسان بعد هذا، وأي إحترام، وتقدير، أراد الله سبحانه وتعالى أن يظهر به الإنسان، فإذا كان تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان على هذا المستوى، فما الذي يجب أن يكون عليه الحال بين الناس أنفسهم؟. وحتى نبرز هذا الأمر أكثر فلنا عبرة عظيمة في قصة سيدنا شعيب مع قومه كما يرويها القرآن الكريم، يقول الله سبحانه وتعالى على لسانه: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود/ 85). ففي هذه الآية يخاطب سيدنا شعيب عليه السلام قومه: (قوم سيدنا شعيب هم أهل مدين وكانت بلادهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام) مطالباً إياهم بأن يلتزموا القسط والعدل في مكاييلهم، وموازينهم عندما يتعاملون في تجارتهم مع الآخرين وهم كانوا على غير ذلك. وإدراكاً من النبي المرسل لعظم هذا الأمر الذي يعد ظلماً فاحشاً في حق الإنسانية، وهذا ما تؤكده كلمة الناس في الآية الكريمة: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) (هود/ 65)، لذلك صاح في وجههم أن يكفوا عن ذلك وأن يعودوا للالتزام بتعاليم الله القاضية باحترام حقوق الإنسانية، وعدم انتقاصها، والتلاعب فيها. إنّ بخس الناس أشياءهم في نظر الإسلام لا يتمثل في الحقوق المادية فقط بل ويتعداها إلى الحقوق المعنوية وهذه عين الكرامة التي أرادها الله سبحانه وتعالى للإنسان، وهذا ما يذكره الكثير من تفاسير القرآن الكريم. فماذا كان جواب القوم: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) (هود/ 91). لقد أنكر القوم على رسول الله ما يقول وعادوا إلى بخس الناس أشياءهم، وإلى انتقاص حقوق الإنسان التي أراد الله سبحانه وتعالى لها أن تكون في ميزانها الصحيح، وهم غير آبهين بعذاب الله فماذا كان مصيرهم؟ قال تعالى: (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) (هود/ 94)، هكذا كانت النهاية المأساوية لمن يستحقها، بل وكان عذاب الله عليهم نوعاً من الذل والمهانة، وهذا ما تشير إليه كلمة "جاثمين" في الآية الكريمة أي: منكبين على وجوههم صاغرين. يلخص سيد قطب – رحمه الله – في ظلال القرآن الحقيقة التي أراد القرآن الكريم إبرازها إذ يقول: "وبخس الناس أشياءهم فوق أنّه ظلم يشيع في نفوس الناس مشاعر سيئة من الألم أو الحقد أو اليأس من العدل، والخير، وحسن التقدير، وكلها مشاعر تفسد جو الحياة، والتعامل، والروابط الاجتماعية، والنفوس، والضمائر، ولا تبقي على شيء صالح في الحياة". إنّ المتأمل في أوضاع الناس اليوم ليسهل عليه أن يدرك أن قضية التطفيف في الميزان والتلاعب فيه قد أصبحت من الأمور العادية البسيطة المتعارف عليها، أما ما عداها فهو أمر وأعظم، فاليوم تباد شعوب وتزهق أرواح في مختلف بقاع الأرض لمجرد مطامع شخصية أو مطامع دولة وكل ذلك تحت مظلة ما يسمى: "الشرعية الدولية". إنّ لمعاني حقوق الآخرين، والتعامل معهم في الإسلام شفافية تدل على عظمة الرسالة الربانية التي أراد الله سبحانه وتعالى أن تصل معانيها، واضحة جلية إلى البشر جميعاً. فكيف لا تقوم بعد ذلك، في ظل تطبيق سليم لمثل هذه المعاني، حضارة إسلامية شامخة تكون منارة هداية للناس أجمعين كما قامت في عصر الرسول (ص) وصحابته الكرام، والتابعين، ومن تليهم بإحسان وكيف لا تزول هذه المنارة، وتتحطم لبناتها لبنة في عصرنا الحالي، وقد تخلينا عن الإمتثال، لأوامر الله وتعاليم الرسول (ص). إنّ هذه التعاليم والومضات السلوكية ما هي إلا كجدول يسير ماؤه في أراض متشعبة ليصب في النهاية في حقل الدعوة إلى الله لا ينبت إلا خيراً، فهل نكون على قدر المسؤولية؟► ·       إسلام أباد - باكستان

ارسال التعليق

Top