الإنسان خليفة الله في أرضه، وهذه الخلافة تؤهّله لاستثمار جميع طاقات الكون الخيّرة الصالحة، ولهذا فإنّ هذا الإنسان في حاجة إلى روح متبلورة خالصة يعيش بها في رحاب الله ويسبح بصفائها في عظمة ملكوته عزّوجلّ فتصبح أنفاسه تهليلاً ونظراته تكبيراً وخفقاته حمداً وشكراً ولكنّه في حاجة أيضاً إلى جسم صالح يستجيب لما تمليه الروح ويساير ما ترسمه له معطياتها في الحياة ليتمكن من وراء ذلك أن يؤدِّي واجبه ويقوم بدور الخلافة في أرض المادّة بشكل متكامل، ولهذا فقد كان انسجام الروح والجسد في فرائض العبادات الإسلامية هو من خصائص شمول هذا الدِّين وصلاحية تطبيقه في شتّى المجالات.
في بداية الصباح وبعد انقضاء ساعات النوم الطويل وعند انطلاقة نسمات الفجر ينطلق النداء الإلهي ليهيب بالإنسان أن ينفض عن جسمه غبار الخمول (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (الإسراء/ 78)، أمّا من الناحية الروحية فنحن نلاحظ أنّ الانطباعة الأولى من مستهل اليقظة من كلّ يوم لها أعمق الأثر في تأطير ساعات النهار، فالإنسان الذي يستقبل نهاره في روح مشرقة ونفس واثقة متفائلة.. هذا الإنسان سوف يبقى يجتر معطيات الهناء هذه خلال ساعات النهار مع كلّ ما تحمل إليه تلك الساعات من مصاعب ومتاعب وآلام، والصلاة بكلماتها ودعواتها هي المعين الذي لا ينضب من العطاء وحسب الإنسان منها إيمانه بقوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (النمل/ 30)، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5). فالرحمة هي من أهم مقومات العدل والإحسان ولهذا فإنّ اسمها لكفيل ببعث الأمل إلى النفوس.
ثمّ نأتي بعد هذا عند توقيت صلاة الظهر والعصر وأثرها الروحي والجسمي في حياة الإنسان فهو بعد ساعات طوال من الجهد والعمل وخوض غمار الحياة بكلّ ما تزخر به حياته من ألوان وأشكال، إنّه ليصبح في حاجة ماسة إلى عودة نحو مطلع النور ومصدر الهدوء والأمان ويصبح في حاجة أيضاً إلى يقظة جديدة تشده نحو واقع وجوده وتفهمه من جديد بأنّه خليفة الله في الأرض. وتكون له بمثابة فترة استراحة جسمية إجبارية في الوقت نفسه أنّها فترة تذكرة، تذكر الإنسان بعبوديته المطلقة لله بكلّ ما تحمل تلك العبودية من معاني الانقياد الكامل والصهر الحقيقي في بوتقة الإيمان: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) (الإسراء/ 78).
وفي نهاية اليوم.. وعند استقبال الليل بظلمته وسكونه، يركن الإنسان إلى استسلام عميق عند ذلك يصبح في حاجة إلى طاقات جديدة يغالب بها فتور الجسد ويصارع بزخمها عطل الروح والفكر بعد أن خاضا غمار أمواج الحياة طيلة نهار كامل، إنّه في حاجة إلى وقفة جديدة تحدّد له الطريق وترسم له المعالم التي تجنّبه الضياع فهو قد ينسى أو يتناسى، وهو قد يجهل أو يتجاهل، قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45). ثمّ إنّه في حاجة أيضاً إلى شحنة من الاطمئنان النفسي تسلمه إلى نومة هادئة، والصلاة هي من أهم العوامل التي تسبغ على صاحبها الأمان والاطمئنان: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28).
ختاماً، هذه هي بعض ملامح حكمة التوقيت ومراعاتها لمصلحة الروح والجسد، ثمّ إنّ الصلاة بأعمالها وواجباتها تشترك فيها الروح والجسد بشكل متلازم، ولهذا فإنّ الإنسان عندما يتوجه بصلاته نحو الله يشعر أنّ كلّ ذرة في كيانه مندمجة مع عملية الصلاة، مشاعره وأحاسيسه، أعضائه وجوارحه كلّ هذه مجتمعة في نقطة واحدة لتنطلق منها في رحاب الله. (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء/ 78-79).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق