• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحب بين الناس والله

عفيف عبدالفتّاح طبّارة

الحب بين الناس والله
  ◄من المطاعن التي وُجهت إلى الإسلام انّه دين جاف يخلو من الحب بين الله والناس. جاء في كتاب "فلسفة الدين" الذي ألفه بالانجليزية (ادوار روس): "إنّ كلمة الإسلام معناها الإذعان لإرادة الله، وأخلق بذلك أن يفضي إلى اعتبار لله قضاء متحكماً غير مفهوم، من العبث التمرد عليه، وليس من صفاته القداسة ولا الحب، ومع ذلك فقد ظهر مسلمون لا يرتاحون إلى هذا الدين الجاف، وانّ في ظهور الفرق الصوفية التي انتشرت في الإسلام لشهادة بوجود الشوق إلى اتصال يكون أوثق بإله حي يفيض بالحب".

والغريب انّ سوء النية والجهل هما شعار هذا الكاتب، وليس أسهل من الرد عليه في أمر هو أجهل الناس فيه لأنّ الحب بين الله والناس كثير التكرار في القرآن، فقد جاء في أساليب شتّى إثباتاً ونفياً، وهو يقسم إلى قسمين: حب الإنسان لله، وحب الله للإنسان.

حب الإنسان لله: المؤمن الحقّ هو الذي أدرك جمال الله وجلاله، واستشعر لطفه وإحسانه وعلم علِمْمَ اليقين انّه هو المنعم عليه. ثمّ تأثر بهذا الإدراك فأحبه، فأصبح قلبه مشغولاً به وعمله موجهاً إليه، ولذته وارتياحه في طاعته وعدم مخالفة أمره، يتحمل في ذلك ما يتحمل راضياً مغتبطاً، قرير العين مطمئن القلب.

فحب الإنسان لله هو الإيمان الحقّ، وليس هو مجرد المعرفة وإذعان النفس. بل الإيمان الحقّ هو إيمانه المحب لله الذي يؤثره على النفس، وتبدو آثار حبه إياه في جميع أقواله وأفعاله. أما الإيمان التقليدي الذي لا يعدو الإذعان النفسي ولا تظهر آثاره في مظهر من المظاهر العملية الإيجابية، فليس هو الإيمان الذي يريده الله من عباده، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة/ 24).

جمع الله في هذه الآية جميع رغائب الإنسان وحاجاته ووضعها في كفة، ووضع في الكفة الأخرى حبّ الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله، فالنفس التي تتحرر من تلك الرغائب جميعها وتؤثر عليها الله ورسوله هي النفس التي يتطلبها الإسلام.

ويصف الله صفات المؤمنين الصادقين الذين أحبهم كما أحبوه فيقول مخاطباً المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة/ 54).

وحبّ الله هو علامة المؤمنين الحقيقية الذين تذوقوا حلاوتها فما رغبوا عنها بديلاً، ولهذا يقول الرسول (ع): "ثلاث من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلّا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار".

"فحبّ الله من أهم القواعد في بناء الأخلاق، وهو يحوّلنا إلى أرواح لطيفة لا يصدر عنها شرّ ولا عدوان، وقد يصل بنا إلى حب كلّ شيء في الوجود حين نتمثل العالم كلّه من صنع المحبوب، وهذا بالطبع لا يتيسر إلّا حين يغلب علينا الصفاء فننسى البغض والحقد والانتقام والحسد وسائر الدسائس الصغيرة التي تفسد جمال الحياة وتصيّر الأحياء أشقياء".

حب الله للإنسان: وأما حب الله للإنسان فلم يمنحه القرآن إلّا لذوي الأعمال العظيمة التي تشمل الخير للإنسان وللمجتمع الإنساني ولم ينفه الله إلّا عن ذوي الصفات السيئة الموغلة في السوء التي من شأنها أن تشيع الضرر والفساد.

والآيات القرآنية التي أثبتت حبّ الله لعباده، تصف هؤلاء العباد المحبوبين بأوصاف هي أُمّهات الأخلاق ومنابع الفضائل النفسية:

(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة/ 42).

(بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 76).

(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159).

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة/ 13).

(وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران/ 146).

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).

ونفى الله حبه عن الذين يتصفون بصفات هي مصدر شقاء للجنس البشري كقوله تعالى في الآيات التالية:

(وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77).

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران/ 57).

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (الرّوم/ 45).

(لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (النحل/ 23).

(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا) (النساء/ 36).

(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال/ 58).

(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة/ 190).

فمحبة الله لإنسان ما هي مصدر سعادته، لأنّها تتبعها ولاية الله له ونصرته ودفاعه عنه وبالعكس، فإن بغض الله لإنسان سبب في شقائه، هذا ما بيّنه الرسول (ص) بقوله: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل فيقول إني أحب فلاناً فأحبّه. فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: انّ الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبّه أهل السماء، ثمّ يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فابغضه، فيبغضه جبريل، ثمّ ينادي في أهل السماء، انّ الله يبغض فلاناً فابغضوه، ثمّ توضع له البغضاء في الأرض".►

 

المصدر: كتاب روح الدِّين الإسلامي

ارسال التعليق

Top