◄سُئل رسول الله (ص) عن أكثر ما يُدخل الناس الجنّة فقال (ص): "التقوى وحُسن الخلق".
في هذه السطور لست معنياً بالوقوف عند كلمة التقوى بمعناها اللغوي أو الفقهي أو الاصطلاحي لأنّ هذا شأن أهل الاختصاص، لكني سأقطف بعض الاشراقات الإيمانية والتعبدية للتقوى. فالمؤمن حينما يسمع كلمة "اتق الله" يكون لها وقع مختلف على نفسه وجرس مميّز في أذنيه. فهي تجعله يستحضر عظمة الله وجلاله ورقابته والخوف والخشية من حسابه وعقابه. لذا فقد درج أهل العلم والخطباء والوعاظ على التذكير بها باعتبارها مفتاحاً لدخول قلب المؤمن والغاية المرجوة الوصول إليها من وراء كل قول أو عمل، والسر الخفي لفهم نوازع الإنسان وتهذيب خلقه وسلوكه، كما عنوا بتمحيصها في نفسه.
وقد استرسل القرآن في التذكير بالتقوى حتى لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن منها وذلك تعقيباً على كل طلب أو تكليف أو قبلهما أو قبل كل أمر أو نهي أو بعدهما باعتبار انّ التقوى هي الحارس الأمين لسلامة العمل أو قبوله أو تركه.. يقول الحق في سورة الأنعام (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام/ 153).
في هذه الآية يجعل الحق تبارك وتعالى كل عمل أو قول أمر به أو نهي عنه لتحقيق مرضاته والبعد عن كل ما يبغضه على أمل الوصول بالمؤمن لمنزلة التقوى.
وهكذا كان عرض القرآن للتقوى في أحوال وصور وغايات شتى فقد عبّر عنها باعتبارها غاية للعبادة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 21).
- واعتبرها محفّزة لعمل الخير والاكثار منه (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 115).
- ويعتبرها حداً للوقوف عند حدود الله وحرماته: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة/ 187).
- ويعتبرها دعوة للإيمان والتوحيد (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ) (النحل/ 2).
- واعتبرها سبباً لقبول الحق واتّباعه (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) (النحل/ 30).
- واعتبرها سبباً لقبول العمل (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27).
- واعتبرها موضوع الرسل والرسالات (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء/ 108).
- وجعلها سبباً لترك العمل والوقوف عند حرمات الله (قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ) (الحجر/ 68-69).
- وآخرى وصفها بانّها سبب لفهم آيات الله والاعتبار بها (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (يونس/ 6).
- واعتبرها حافزاً للمفاصلة مع أهل الكفر والشرك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة/ 123).
- ووصفها بانّها دليل على تعظيم الله وشعائره (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج/ 32).
- واعتبرها دليلاً على وفاء بالعهود (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 76).
- واعتبرها مشجّعة على التسامح والعفو بين الناس (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة/ 237).
- واعتبرها فاصلاً لإقامة العدل بين الناس (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 179).
وأخرى سبباً لتشريع العبادة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).
وهكذا عرض لنا القرآن التقوى في صور لامكانيات متعددة بهدف بعث حالة من الشفافية الإيمانية بين العبد وربه تجعله في كل أحواله وكل اعماله يستحضر عظمة الله ويخشاه. وفي مقابل ذلك فقد عرض لنا القرآن بشارات عدة من ثمار التقوى على العبد المؤمن في حياة الدنيا والآخرة منها:
- التيسير عليه في الأمور كلها (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق/ 4).
- كشف الغمة (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (الطلاق/ 2).
- نزع الخوف وابداله بشعور الأمن والطمأنينة (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأعراف/ 35).
- التوسعة في الرزق والنعم (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/ 3).
- العون والنصرة في الأمور كلها (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) (النحل/ 128).
- كرم المنزلة ورفعتها عند الله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).
- النجاة من العذاب والعقاب (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) (مريم/ 72).
- محبّة الله لهم (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 76).
- حسن الجزاء والثواب (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف/ 90).
- استيفاء حق العبودية لله (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (آل عمران/ 102).
هذه بعض البشارات والكرامات التي ينعم الله بها على عباده المتقين الذين يسعون لله بالقصد والعمل والقول في خشية منه وحسن مراقبة له.
هكذا تفعل التقوى بأهلها فهي تحفظهم من الزلل وتعينهم على الطاقة وتحصّنهم من الوقوع في الفواحش أو اقتراف المعاصي وترفع من ذكرهم عند الخلق وتجعلهم محل قدوة واتباع.
فالتقوى ليست حالة خاصة تتبع العبادة والطاعة لله، بل هي حالة تسبق ذلك وذلك باخلاص القصد في التوجه لله. حيث عبّر عنها القرآن في أكثر من موضع (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 138)، هنا اعتبر القرآن التقوى سبباً لقبول الحق وقبول الموعظة. وهي إشارة لنا بحسن التجرد لله في البحث عن الحق واتّباعه والوقوف عند حدوده.►
ارسال التعليق