• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التربية والتعليم.. عملية مستمرة

أ. م. د ياسين عبدالصمد

التربية والتعليم.. عملية مستمرة

◄في هذا الصدد يقول الرسول الكريم (ص): "اطلبوا العلمَ مِنَ المَهدِ إلى اللَّحدِ"، ويقول (ص) كذلك: "الدُنيا مَلعونةً مَلعونً ما فيها، إلّا ذِكرُ اللهِ وما ولاه، وعالِمٌ ومتعلّمٌ".

كما جاء في الأدبيات التربوية الإسلاميّة "ليس لصحيح العقل والبدن عذرٌ في طلب العلم مادامت الحياة".

في كلّ ذلك إشارة واضحة إلى هذه التربية المستمرة إذ إنّ إعداد الإنسان يستلزمها، وعصرنا هذا يتطلبها، وذلك لِما يحدث فيه من تغيرات سريعة، ومستمرّة ولن يستطيع تَحمُّل مَشّاق الحياة ومصاعبها وتعقيداتها، وما يعتمل فيها من مُشكلات وصعوبات، إلا الإنسان الذي أُعدَّ إعداداً متكاملاً، عن طريق تربية صحيحة مستمرة، خلال مسيرة حياته، وهذا هو أحد المقاصد الرئيسية للتربية عموماً.. ومن هنا جاءت أهمية التربية المستمرة، المُتمثلة بالاستعداد لطلب العلم على مدى الحياة.

إنّ هذا النوع من التربية، أخذ يتحول إلى نظام مُعقَّد، يرتكز على الأَهتمام بمختلف عناصر الموقف التربوي: كالأَهتمام بسلوك المُتعلّم، وتعديل هذا السّلوك، والعناية بالمُعلّم، أي الحرص على إعادة إعداده باستمرار، وذلك بتوفير مصادر المعرفة المختلفة له، كي يكون على بينة من كلّ ما هو جديد، وكذلك توفير البيئة المناسبة لكل مُتعلّم، بحيث يتمكّن أن يبحث بنفسه عن المعلومات، والمعرفة اللازمة.. ومن هنا جاءت أهمية دراسة وفهم منهج البحث العلمي بخطواته المعروفة، فهو أحد الأدوات المهمة في عملية التعليم المستمر.

إنّ موضوع التربية المستمرة، ليس موضوعاً حديثاً، كما يضن البعض، إذ أنّ الكائن البشري كان يُحاول دائماً: أن يتعلم من أجل أن يتمكن من التكيف مع مُتطلبات البيئة التي يعيش فيها، سواء أكانت بيئة طبيعية، أم بيئة اجتماعية.. غير أنّ الجديد في ذلك، هو تحويل تلك المحاولات العفوية غير المقصودة، إلى مشروع قائم بذاته، ومقصود لذاته، عبر خطوات مدروسة، وموضوعية ومنطقية.

إنّ مفهوم التربية المستمرة، كان يُطلق في بداية الأمر: على عملية تعليم الراشدين، وبعد ذلك على التكوين المهني المستمر.. أما اليوم فالتربية المستمرة، تعني العملية التربوية بكاملها، التي يُشارك فيها الأفراد، كما يُشارك فيها المجتمع بأسره، وأصبحت مهمتها الأساسية فيما يتعلق بالأطفال، لا تنحصر في مساعدتهم كي يعيشوا عيشة راضية تليق بكل طفل.. بل لابدّ زيادةً على ذلك من إعدادهم كي يصبحوا رجالاً يعتمدون على أنفسهم، ويتعلمون بأنفسهم.

ومن الجدير بالذكر: إنّه لم يكن التطور الاقتصادي والتعقيد الاجتماعي في زماننا هذا هما وحدهما اللذان أمليا على العديد من الأُمم:

أن تعتمد التربية المستمرة إسلوباً جديداً في اعداد الإنسان للحياة، فقد أثبت علم النفس الحديث: أنّ الكائن البشري كان يعتريه النقص، ولا يكتمل إلا بعملية تعلّم دائمة ومستمرة، تشمل جميع نواحي العمل التربوي، وتتخلل مُختلف مراحل التعليم والتعلّم، فالعملية التربوية التعليمية، أضحت: سلوكاً يحصل في ذات الإنسان المُتعلّم، عن طريق خبراته المُتعدّدة، والأساليب التي يُعبّر فيها عن ذاته، وتجاربه مع البيئة الطبيعية، والاجتماعية، وتحقيق ذاته بشكل مُستمر.

وبهذا: فهو لا غنى له عن التعلّم في جميع مراحل حياته: طفلاً، ومراهقاً، وشاباً، ورجُلاً مُكتملاً، وكهلاً وشيخاً.. وهكذا فقط تصبح التربية تربية بكل ما في الكلمة من معنى، مُكتسِبة صفتي الشمول والاستمرار، مُحطِمة بذلك جدران البرامج والطرق التعليمية التي فُرضت على الإنسان فرضاً، وعلى مدى قرون طويلة، وتغدو التربية كما نفهمها، ونتمنى أن تكون أداة تحرّر فعّالة، تحرّ من الجهل، ومن الفقر والعَوز، ومن الحدود الضيقة، والأساليب البالية، والتسلط المغرور، ولا ينبغي بعد اليوم أن ننظر إلى التربية كعملية نقل المعرفة، بل علينا أن نعتبرها: عملية تحرير للإنسان، بتكوين شخصيته الأخلاقية الخلّاقة، وإتاحة الفرصة لمؤهلاته وطاقاته، أن تنطلق من معاقلها، وتمكينه من تحقيق ذاته وبلوغ غاياته السامية على أكمل وجه، إذ أن الإنسان لم يُخلق ليرضخ تحت أثقال الحياة الدنيا، بل ليسمو فوق ترهات الحياة، ويرتفع عن صغائرها، ولم يُخلق ليقع في شَرَك المشكلات الحياتية المنوّعة، بل ليُحكم السيطرة عليها، بفهمها ومواجهتها، ولن يتم له ذلك كله إلا عن طريق: تربية مستمرة، ضرورية ضرورة الحياة نفسها، إذ أنها عملية – بيونفسية – تَفيد الإنسان من حيت هو كائن حي، طبيعته الاستمرار، والنمو المطَّرد، ومن حيث هو كائن اجتماعي عقلاني، يستمر استمراراً اجتماعياً، يتميّز بتجديد آرائه وأفكاره، والسعي الدائب إلى تنقية مُثُلِهِ العُليا، وترويض آماله وطموحاته، وتحقيق أهدافه، وزيادة سعادته، والخلاص من شقائه ومتاعبه.►

 

المصدر: كتاب الفلسفة وفلسفة التربية/ سلسلة دراسات وأبحاث 2

ارسال التعليق

Top