• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإيمان.. المنبع الأوّل للسعادة

السيد هادي المدرسي

الإيمان.. المنبع الأوّل للسعادة

◄لا سعادة بلا اطمئنان، ولا اطمئنان بلا إيمان، وكما يقول القرآن الكريم فإنه: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرّعد/ 28).

وفي الحقيقة فإنّ الإيمان يمنحك السعادة من جهتين:

الأولى: من جهة أنّه يمنعك من الانزلاق في مستنقعات الفجور والجريمة، وهي من أخطر أسباب التعاسة والشقاء، فلا شيء يضمن للمرء أن لا تجرّه شهواته ورغباته إلى الموبقات إذا كان قلبه فارغاً من الإيمان بربه؟.

الثانية: من جهة أنّه يعطيك أهم شرط من شروط السعادة؛ وهو الاطمئنان، ففي بحر المشاكل والأزمات لا مرساة للنجاة سوى الإيمان، فمن دون الإيمان كلّ شيء هو عامل من عوامل الخوف والقلق، أما مع الإيمان فلا شيء يستحق الخوف سوى مقام الله تعالى.

(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس/ 62).

(فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) (الجن/ 13).

يقول الحديث الشريف: "من خاف الله، أخاف الله منه كلّ شيء. ومن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء".

فالقلب المؤمن يستهين بكلِّ الصعاب، لأنّه يتوكل على الله.

والقلب الفارغ من الإيمان كورقة مقطوعة من غصنها، تتلاعب بها الرياح الهوج.

ترى أي شيء يخيف الإنسان أكثر من الموت والرحيل عن هذه الحياة؟!.

إنّه عند المؤمن ليس عامل خوف، بل عامل اطمئنان أيضاً فـ"ما أنفع الموت لمن أشعر الإيمان والتقوى قلبه" ذلك أنّ "المؤمن؛ الموت تحفته والجنة سبقته".

ومع الإيمان فليس الموت إلا عاملاً من عوامل السعادة.

يقول الإمام الحسين (ع) وقد هددوه بالموت:

"ألا وأني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما".

وهكذا فإنّ "سعادة الرجل في إحراز دينه والعمل لآخرته" فـ"ما أعظم سعادة من بوشر قلبه ببرد اليقين".

ويخطئ من يظن أنّ السعادة هي في التخلص من الإيمان، والبحث بدل ذلك وراء الملذات العابرة.

فما قيمة لذة، إذا أعقبتها ساعات من المعاناة؟.

فما خير بخير بعده شر؟.

وما قيمة وردة، إذا كان الوصول إليها يغرقك في مستنقع؟.

حقاً إنّ من يبحث عن اللذة من دون الالتزام بالمسؤولية، ولا مراعاة للحدود والمقاييس، قد يعاني من الشعور بالتعاسة لفترة طويلة.

فالطفل الذي يأكل كمية كبيرة من الحلويات، لأنّ فيها طعم السكر، سيعاني كثيراً من الحرمان من كلّ ما لذّ وطاب عندما يصاب بتآكل أسنانه.

"فكم من أكلة منعت أكلات" كما يقول الإمام عليّ (ع).

وكم من لذّة منعت لذات؟.

ثمّ إنّ الإيمان يعطيك الحب، والأمل، واليقين، والراحة النفسية، والشعور بالقيمة، وهذه اهتزازات عظيمة تجذب مثيلاتها.. يقول الإمام عليّ (ع): "خلو الصدر من الغل والحسد، من سعادة المتعبد".

تقول إحدى النظريات: إنّ لكلِّ شيء في الكون اهتزازه وعليك أن تعرف (كيف) تجذب كلّ ما أنت راغب فيه. وليس من العبث أن يقال عن مثل أعلى وعن عاطفة إنهما (مرتفعان) أو (منخفضان)، فاللغة تعبّر تمام التعبير عن الحقيقة، وفكرة الأمل، والحب المنعتق من كلِّ أنانية، والإعجاب، والسماح، تخلق فينا اهتزازات سامية، سريعة، تنضمّ إلى الاهتزازات المماثلة وتشكل معها ظاهرة قوية. حين نشعر بانحطاط فإنّ اهتزازاتنا تنخفض، وتبطئ، ولا يبقى شيء مما هو سعيد ومنسجم في حقل الجاذبية عندنا. من هنا نعلم كيف نفقد أعظم الآمال. إننا كالحجر المغناطيسي الذي فارقه المغناطيس، ويلزمنا جهد واعٍ لكي نحرك اهتزازاتنا من جديد في سبيل تحقيق آمالنا.

وللمؤمنين طريقة قوية في تحريك الاهتزازات الواهنة؛ هي الصلاة، والدعاء إلى الله، والاستسلام لمشيئته. إنّ الصلاة التي يتلوها المؤمن عدّة مرات باليوم تمنحه من التألّق الروحي ما يمنحه خبزه اليومي لحاجاته الجسدية، أما الخالون من الإيمان فلا ينفعهم شيء في هذه الحياة بدونه.

إنّ الخور في قواك لا يفسر إلا ببطء في حيويتك، وليس أمامك سوى الإيمان فهو ينتشلك مما أنت فيه، ويزيد من قوتك، فتعلق به وستشعر بارتفاع معنوياتك، إنك بذلك تجتذب السعادة كما يجتذب المغناطيس الحديد.

يقول الحديث الشريف: "عظم السعداء بالإيمان، وخذل الأشقياء بالعصيان من بعد إتمام الحجة عليهم بالبيان، إذ وضع لهم منار الحقّ وسبيل الهدى".

إنّ هناك جانباً آخر في الإيمان لا يقل أهمية مما سبق، وإن كان ذلك مما يختص به بعض المؤمنين وليس كلهم.

وأعني به ما يلمسه المؤمن من سعادة القرب إلى الله تعالى، والشعور برضاه.

يقول العلامة السيد محمد تقي المدرسي:

"حين تسأل المؤمنين لم تصلون؟ ولماذا تزكون؟ وما هي غايتكم من التقوى.. والالتزام بسائر شرائع الدِّين؟ فإنّ أغلبهم يقولون لكي نسعد في الحياة، ونبلغ الفلاح في الآخرة. أوليست الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتبعث في النفس السكينة. وفي المجتمع الحب والأمل والحيوية؟ أوليست الزكاة تردم الفجوة بين الطبقات، وتنمي الثروة، وتعالج مشكلة الفقر، وتخلق المجتمع الفاضل؟.

وهكذا شرائع الله تهدف إلى إنشاء مملكة العدل والحرية والرخاء والسعادة في هذه الدنيا، وفي الآخرة حيث اعد الله للمتقين جنات تجري من تحتها الأنهار، فيها كل ما تشتهي النفس ويتنعم البدن وتلتذ الروح".

ولكم من المؤمنين رجال بلغوا درجة سامية من المعرفة، لذلك تختلف إجاباتهم كلياً.

إنّهم لا يهدفون من وراء الصلاة حياة سعيدة أو جنة خلد ونعيم فيها مقيم. إنما يبتغون بها رضوان الله وذلك عندهم أكبر وأسمى. إنهم يتلون عليك آية من القرآن الكريم تبين أهداف الصلاة بما يلي:

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) (العنكبوت/ 45).

بلى ذكر الله، والتقرب إليه سبحانه وتعالى هو الأكبر.

وإذا سألتهم عن الإنفاق في سبيل الله يقرأون عليك الآية الكريمة:

(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (التوبة/ 103).

فالزكاة تزكية النفس؛ وتزكية النفس قربة إلى الله تعالى، وصلاة الرسول إنها هي الغاية.

وكذلك سائر العبادات ليست وسيلة إلى السعادة في الدنيا وفي الآخرة وحسب، وإنما هي قبل ذلك زلفى من الله وابتغاء رضوانه.

وأخيراً، فإنّ هنالك حقيقة هامة وهي أنّ لا سعادة لأحد بدون تقدير من الله تعالى، سواء آمن أحدنا بذلك أم لم يؤمن، فليست السعادة ممكنة، إلا إذا أراد الله لنا ذلك.

وهذا ما يفسّر لماذا يسعد البعض في الحياة بأسباب معينة، بينما يشقي آخرون بالرغم من توفير تلك الأسباب لهم. وربما بسبب نفس الأسباب أيضاً.

ودور الإيمان هنا هو في أن نطلب من رب العزة والجلال أن يجعلنا سعداء، ويوفر لنا أسباب النجاح، ويرشدنا إلى سبل خير الدنيا والآخرة.. فمن دون إرادته لن ينفع كل ما في الحياة في توفير ذرة من السعادة.

وهكذا فإنّ السعادة هبة من الله تعالى يمنحها لمن يشاء، ساعة يشاء، وكما يشاء. ويسلبها ممن يشاء، ساعة يشاء، وكيف يشاء. ولله في خلقه شؤون.. ولا يُسأل عما يفعل، وهم يسألون.

غير أنّ ذلك لا يعني أنّ السعي وراء السعادة باطل، بل يعني أنها كالرزق وكالنجاح، بحاجة إلى توفيق الله تعالى، بالإضافة إلى السعي، والعمل والنشاط.►

 

المصدر: كتاب كيف تتمتع بحياتك وتعيش سعيداً؟

ارسال التعليق

Top