• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإمام الحسين بن علي (ع).. إضاءات في كتاب

أسرة

الإمام الحسين بن علي (ع).. إضاءات في كتاب
 الوليد المبارك بعد حول من ميلاد الحسن السبط (ع)، وفي اليوم الثالث من شهر شعبان المبارك ، السنة الرابعة من الهجرة ، زُفَّت البشرى إلى الرسول (ص) بميلاد الحسين (ع) فأسرع إلى دار عليّ والزّهراء (ع) ، فقال لاسماء بنت عميس : « (يا أسماء ! هاتي ابني) ، فحملته إليه ، وقد لُفّ في خرقة بيضاء ، فاستبشر (ص) وضمّهُ إليه وأذّنَ في اُذنه اليمنى وأقامَ في اليسرى ، ثمّ وضعهُ في حِجْرِه وبكى ، فقالت أسماء: فداك أبي واُمِّي مِمَّ بُكاؤك ؟ قال (ص) : (مِنْ ابني هذا) . قالت : إنّه وُلِدَ الساعة . قال (ص) : (يا أسماء ! تقتله الفئة الباغية مِن بعدي ، لا أنالهم الله شفاعتي) ثمّ قال : (يا أسماء ! لا تخبري فاطمة فإنّها حديثةُ عهد بولادته) » (1) . ثمّ أنّ الرسول (ص) قال لعليّ (ع) : (أي شيء سمّيت ابني ؟ ) . فأجابه عليّ (ع) : (ما كنتُ لاسـقبكَ باسمهِ يا رسول الله) . وهنا نزل الوحي المقدّس على حبيب الله محمّد (ص) حاملاً اسم الوليد من الله تعالى ، وإذ تلقّى الرسول (ص) أمر الله بتسمية وليده الميمون ، التفت إلى عليّ (ع) قائلاً : (سمِّه حسيناً) . وفي اليوم السابع أسرع الرسول (ص) إلى بيت الزّهراء (ع) ، فعقَّ عن الحسين كبشاً ، وأمر بحلق رأسه ، والتصدّق بزنة شعره فضّة ، كما أمر بختنه ، وهكذا أجرى للحسين (ع) ما أجرى لاخيه الحسن (ع) من مراسيم إسلامية .   منزلة الحسين (عليه السلام) لابي عبدالله الحسين (ع) ، مكانة عظمى ، لا يرقى إليها سوى جدّه وأبيه واُمّه وأخيه السبط والائمّة من ولده عليهم جميعاً أفضل الصّلاة والسّلام ، ولو بذل المؤرِّخ وُسْعاً ، لتتبّع ما يحظى به الحسين (ع) ، من مقام رفيع ، بلغ القمّة السامقة في دنيا المسلمين ، لخرج بسفر جليل في هذا المضمار ، وبقدر ما تسمح به المحاولة الّتي بين أيدينا سنشير إلى بعض المنطلقات الاساسيّة الّتي تبرز مكانة الحسين (ع) في معيار الشريعة الالهيّة . فالقرآن الكريم ـ الوثيقة الالهيّة العظمى ـ الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، يعرب في العديد من آياته الكريمة عن الشوط البعيد الّذي قطعه الحسين (ع) من درجات الرفعة عند الله تعالى ، فهو واحد من أهل البيت الّذين نزل في حقِّهم قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ ا لْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(الاحزاب/33). ومن الّذين ذكروا في آية المباهلة : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ ا لْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى ا لْكَاذِبِينَ )( آل عمران / 61 )(2). وفي آية المودَّة : (قُلْ لاَ أَسْأَ لُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي ا لْقُرْبَى )( الشّورى / 23 )(3). فمن خلال هذه الايات الكريمة تتجلّى مكانة الحسين(ع)وأهل البيت(ع)ومنزلتهم السّامية عند الله تعالى،إلاّ أ نّه من نافلة القول أنْ نشير إلى بعض النصـوص الّتي وردت عن رسول الله(ص)بشأن الحسين(ع)لابراز المكانة الرفيعة الّتي يمثلها في دنيا الرسالة والاُمّة : 1 ـ في صحيح الترمذي عن يعلى بن مرّة ، قال : قال رسول الله (ص) : «حسينٌ منِّي وأنا من حسين،أحبَّ الله مَنْ أحبَّ حسـيناً،حسينٌ سبطٌ من الاسباط»(4). 2 ـ عن سلمان الفارسي ، قال : سمعت رسول الله (ص) وهو يقول : «الحسنُ والحسينُ إبْنايَ مَنْ أحبَّهما أحبَّني ومَنْ أحبَّني أحبَّه اللهُ ومَنْ أحبَّه اللهُ أدخلَهُ الجنّةَ،ومَنْ أبغَضَهُما أبغَضَني ومَنْ أبغَضَني أبغَضَهُ اللهُ ومَنْ أبغَضَهُ اللهُ أدخلَهُ النارَ على وجهه»(5). 3 ـ عن البرّاء بن عازب قال : « رأيت رسول الله (ص) حاملاً الحسينَ بن عليّ على عاتِقِهِ وهو يقول : (اللّهمّ إنِّي اُحِبُّهُ فَأَحِبَّه) » (6) . 4 ـ وعن عبدالله بن مسعود قال : « إنّ رسول الله قال في الحسن والحسين (ع) : (هذانِ ابناي ، فَمَنْ أحبَّهُما فقد أحبّني، ومَنْ أبغَضَهُما فقد أبْغَضَني) » . 5 ـ وعن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه (ع) : أنّ رسول الله (ص) أخذ بيد الحسن والحسين وقال : « مَنْ أحبَّني وأحبَّ هذينِ وأباهما كان معي في درجتي يومَ القيامة » (7) .   ملامح شخصية الامام الحسين (عليه السلام)   1 ـ علاقته بالله تعالى : بمقدورنا أن نستجلي عمق علاقة الحسين (ع) بربّه الاعلى سبحانه ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار كونه قد تعاهده الرسول (ص) بالانشاء الروحي والفكري جنباً إلى جنب مع عليّ والزّهراء (ع) ، لتحديد إطار شخصيته ومسارها في الحياة . فقد قيلَ له يوماً ما أعظمَ خوفِكَ مِنْ ربِّك ؟ فقال : «لا يأمنُ مِنْ يومِ القيامةِ إلاّ مَنْ خافَ اللهَ في الدُّنيا» . وكان (ع) إذا توضّأ تغيّر لون وجهه ، وارتعدت مفاصله ، فقيل له في ذلك ، فقال : «حقٌّ لِمَنْ وقفَ بين يدي الملكِ الجبّارِ أنْ يَصفَرَّ لونُهُ وتَرْتَعِدَ مَفاصِلُه» (8) . في ليلة العاشر من محرّم الحرام ، طلبَ الامام الحسين (ع) من الجيش الاموي أن يمهله تلك العشيّة قائلاً : «إنّا نُريدُ أنْ نُصلِّيَ لِرَبِّنا اللّيلة ونستغفرَهُ ، فهوَ يعلمُ أنِّي اُحِبُّ الصّلاةَ لهُ وتلاوةَ كتابِهِ وكثرةَ الدُّعاء والاستغفار» . وفي أرهب الساعات وأحرجها ، تحل صلاة الظهر في نهار العاشر مِنَ المحرّم ، فيطلب الحسينُ من المعتدين أن يوقفوا عنهم الزحف حتّى يُصَلُّوا لله تعالى . إنّ هذا السّلوك يعكس لنا عمق العلاقة الّتي تربط الحسين بالله سبحانه، ومدى حُبِّ الحسين لله تبارك وتعالى . وكان يدعو ربّه تعالى بهذا الدُّعاء : «اللّهمّ ارزقني الرّغبةَ في الاخرةِ حتّى أعرفَ صِدْقَ ذلكَ في قلبي بالزّهادةِ منِّي في دنياي،اللّهمّ ارزقني بَصَراً في أمرِ الاخرةِ حتّى أطلبَ الحسناتِ شَوْقاً وأفرَّ مِنَ السيِّئاتِ خَوْفاً يا ربّ»(9). هذه بعض مصاديق العلاقة الروحيّة بين الحسين وربّه سبحانه وتعالى وسوف نتحدّث بشيء من التفصيل عن هذه العلاقة بالذات في مجال ثورة الحسين وتضحيته البطولية الفذّة في سبيل الله تعالى .   2 ـ علاقته بالناس : حين نتطلّع إلى الجانب الخلقي من شـخصية الامام الحسـين (ع) نلمس مدى تفاعله مع الاُمّة بمختلف قطّاعاتها باعتباره قدوتها المثلى ، ولا نقصـد بحال أنّ الحسين (ع) يباين سواه من الائمّة(ع)في طبيعة التفاعل مع الجماهير،فإنّ لون التفاعل مع الاُمّة وطبيعته بالنسبة للائمّة(ع)تحدِّدها رسـالة الله تعالى والّتي يمثِّل الائمّة صورتها التطبيقية في دنيا الواقع. ولكنّنا حين نشير إلى الجانب الاخلاقي من شخصية الامام الحسين (ع)، فانّما نطرح بعض المصاديق لذلك التفاعل السامي المشرق :   أ ـ تواضعه (عليه السلام) : إنّه مرَّ بمساكين وهم يأكلون كِسَراً لهم على كسـاء ، فسلّم عليهم ، فدعوه إلى طعامهم ، فجلس معهم ، وقال : « (لولا أ نّه صدقةٌ لاََكَلْتُ معكم) ثمّ قال (ع) : (قومـوا إلى منزلي)، فأطعـمهم وكساهم وأمرَ لهُم بِدَراهم » (10) . وبمقدرونا أن نكتشف مدى تواضعه وعمقه من خلال هذا المصداق العملي الّذي ذكرناه ، إذا أعدنا إلى الاذهان ما يتمتّع به الحسين (ع) من مستوى قيادي في الاُمّة ، فهو مرجعها الفكري والقيادي ، وإمامها المنصوص عليه من الله ورسوله (ص) . ومكانته الاجتماعية لايرقى إليها رجل في عصره قط، حتّى أنّ ابن عباس الصحابي الجليل ـ وهو أسنّ منه ـ كان يمسك له الركاب حتّى يركب فرسه إجلالاً له وإعظاماً(11). ولعظم منزلته كان الناس إذا التقوا به أثناء مسيره إلى الحج ماشياً ، ينزلون عن ركائبهم إجلالاً طالما هو يسير . أقول إنّ ادراكنا لمكانة الحسين (ع) الاجتماعية في دنيا المسلمين ، يجعلنا ندرك مدى تواضعه ، إذا ألفيناه يتعامل مع أبسط الناس في المجتمع بذلك السلوك الانساني الرفيع . ومن المصاديق العملية على تواضعه (ع) كذلك ، أ نّه مرَّ على مساكين يأكلون في الصفّة ، فدعوه للطعام ، فنزل (ع) وقال : « (إنّ الله لا يحبّ المستكبرين) ثمّ تناول معهم الطعام وقال لهم : (قد أجبتكم فأجيبوني)، قالوا : نعم ، فمضى بهم إلى منزله ، وقال للرباب : (اخرجي ما كنت تدّخِرين) » (12) . وممّا يدل على مدى تفاعله الايجابي مع الناس ، ورعايته لشؤون الاُمّة ما رواه شعيب بن عبدالرّحمان ، قال : « وُجِدَ على ظهرِ الحسين بن عليّ يوم الطف أثر ، فسألوا زين العابدين عن ذلك . فقـال : (هـذا ممّا كان ينقلُ الجرابَ على ظهره إلى منـازل الارامل واليتـامى والمساكين) »(13) . الامر الّذي يشـير إلى تواضع منقطع النظير ، واهتمام بشـؤون الاُمّة ووعي للمسؤولية وشعور عميق بها لا نظير له .   ب ـ عفوه عن المسيء : ارتكب غلام له ما يستوجب التأديب ، فأراد تأديبه ، فقال له الغلام : « يا مولاي : (وَا لْكَاظِمِينَ ا لْغَيْظَ ) ، قال الامـام : (خَلّوا عنه) . قال الغلام : (وَا لْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ، فقال الامام : (قد عفوتُ عنك) . قال : يا مولاي (وَاللهُ يُحِبُّ المحْسِنِينَ ) قال (ع) : (وأنت حرٌّ لوجهِ الله ، لكَ ضعفُ ما كنتُ اُعطيك) » (14) . هذه نتفٌ يسيرة استلهمنا من خلالها الجانب الخلقي في شخصيته (ع) .   3 ـ ملامح من فكر الامام (عليه السلام) : من المناسب أن نذكر طرفاً من نشاطاته الفكرية الرائدة كمصاديق عملية على ما يتمتّع به من علو شاهق في مستواه العقلي الّذي صقله منهج الله وحدّد مساره ومنهاجه:   أ ـ قال له نافع بن الازرق ـ زعيم الازارقة من الخوراج ـ : صِف لي إلهك الّذي تعبده ، فردّ عليه الامام بقوله : « (يا نافعُ ! مَنْ وضعَ دينَهُ على القياسِ لم يَزَلِ الدّهرَ في الالتباسِ ، مائِلاً إذا كبا عن المنهاجِ ، ظاعناً بالاعوجاجِ ، ضالاًّ عن السّـبيلِ ، قائِلاً غير الجمـيلِ ، يا ابنَ الازرق ! أصِفُ إلهي بما وصفَ بهِ نفسَهُ ، لا يُدرَك بالحواسِ ، ولا يُقاسُ بالناسِ ، قريبٌ غيرُ ملتَصِق ، وبعيدٌ غير مستقصىً ، يوحَّدُ ولا يُبَعَّضُ ، معروفٌ بالاياتِ ، موصوفٌ بالعلاماتِ ، لا إلهَ إلاّ هوَ الكبيرُ المـتعال) . فبكى ابن الازرق وقال : ما أحسنَ كلامك » (15) . ب ـ قال عليه السلام عند مسيره إلى كربلاء وهو يقوِّم الموقف العام ، ويحدِّد مَدَى الانحراف الّذي آلت إليه الاوضاع ، ويشير إلى عزمه على كسب الشهادة من أجل الحق : « إنَّ الدُّنيا قد تغيّرتْ وتنكّرتْ ، وأدبَرَ معروفُها ، واستمرّت جدّاً فلم يبق منها إلاّ صُبابةٌ كَصُبابةِ الاناءِ ، وخسيسُ عيش كالمرعى الوبيلِ ، ألا ترون أنّ الحقَّ لا يُعمَلُ بهِ ؟ ! وأنّ الباطِلَ لا يُتناهى عنهُ ، ليرغبُ المؤمنُ في لقاءِ اللهِ مُحِقّاً ، فإنِّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياةَ معَ الظّالمينَ إلاّ بَرَما ، إنّ الناسَ عبيدُ الدُّنيا والدِّينُ لَعِقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معائِشهم ، فإذا مُحِّصوا بالبلاءِ قَلَّ الدَّيّانون » (16) . ج ـ وها هو يحدِّد بوعي صارم درجات العلاقة بالله : « إنّ قوماً عبدوا الله رعبة فتلك عبادة التجّار ، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الاحرار وهي أفضل العبادة » (17) . د ـ وقد خطب (ع) مرّة ، محدِّداً مواصفات الحكم الاموي وما آلت إليه الاوضاع السياسية والادارية من وجهة النظر الاسلامية : «(أ يُّها الناس!إنّ رسول الله(ص)قال:(مَنْ رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرمِ اللهِ ، ناكِثاً لعهدِ اللهِ ، مُخالفاً لسنّةِ رسولِ اللهِ (ص) ، يعملُ في عبادِ اللهِ بالاثمِ والعدوانِ ، فلم يُغيِّرْ عليهِ بفعل ولا قول ، كانَ حقّاً على الله أن يُدخلهُ مدخله) ، ألا وإنّ هؤلاء قد لَزِموا طاعةَ الشّيطانِ ، وتَرَكوا طاعةَ الرّحمانِ ، وأظْهَرُوا الفسادَ ، وعطّلوا الحدودَ ، واستأثروا بالفيءِ ، وأحلُّوا حرامَ الله ، وحرّموا حلالَهُ ، وأنا أحقُّ مِن غيري ، وقد أتتني كتبكم ، وقَدمتْ عليَّ رُسُلُكُم ببيعتِكُم ، أ نّكم لا تُسْلموني ولا تَخْذلوني ، فإن تَمَمْتُم على بيعتكم تُصيبوا رُشدَكُم ، فأنا الحسين بن عليّ وابنُ فاطمة بنتِ رسول الله (ص) ، نفسي معَ أنفسكم ، وأهلي معَ أهليكم ، فلكم فيَّ اُسوة ، وإنْ لم تفعلوا ، ونقضتُم عهدَكُم وخلعتُم بيعتي مِن أعناقِكُم ، فلعمري ما هي لكم بِنُكْر،لقد فعلتُموها بأبي وأخي وابن عمِّي مسلم بن عقيل;والمغرورُ مَنِ اغترَّبِكُم،فَحظَّكم أخطأتُم،ونَصيبَكُم ضَيَّعتُم،ومَنْ نَكَثَ فإنّما يَنْكُثُ على نفسِهِ وسَيُغْني الله عنكم»(18). هذه شذرات يسيرة من عطائه العظيم الّذي يحتل مركزَ الرِّيادة في الفكر الاسلامي الاصيل ، ومَنْ شاء المزيد فليُراجع سيرته العَطِرة ، فإنّ له فيها خير عون على إدراكِ ما للحسينِ (ع) مِنْ بُعْدِ نظر وسعةِ فكر وإيمان (19) .   صور من الصِّراع بايع المسلمون بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان بالخلافة للامام عليّ (ع) ، وسلّموا مقاليد الاُمور وإدارة الدولة له . ورفض معاوية بن أبي سفيان البيعة للامام عليّ (ع) وأعلن انفصاله ، ونصب نفسه خليفة على الشام الّتي كان والياً عليها أيّام الخليفتين عمر وعثمان بن عفّان . مَن يدرس التاريخ السياسي لتلك الفترة العصيبة من تاريخ الاسلام ، يلاحظ أنّ الامام عليّاً (ع) واجه ثلاث كتل سياسية هي : 1 ـ الحزب الاموي الّذي قاده معاوية بن أبي سفيان . 2 ـ كتلة الخوارج الّذين انفصلوا عن جيش الامام عليّ (ع) وتمرّدوا عليه . 3 ـ كتلة عائشة وطلحة والزُّبير بن العوّام . وبعد فترة من الحروب والصراعات بين الامام عليّ (ع) وبين هذه الاحزاب والكتل السياسـية اسـتطاع الامام عليّ (ع) أن يقضي على حركة عائشة ((20)) وطلحة والزُّبير في معركة الجمـل الشهيرة الّتي وقعت في البصرة،كما استطاع أن يدحر معاوية في معركة صفّين،وأن ينتهي الامر إلى التحكيم والتفاوض الّذي رفضه الامام عليّ بعد أن علم أ نّه خديعة وفذلكة سياسية مخطّطة،والّذي انتهى لمصلحة معاوية وخروج فئة الخوارج من جيش الامام عليّ(ع)،فاشتبك معهم فيما بعد في معركة طاحنة(معركة النهروان)فدَحَرَهُم فيها وشَتّتَهُم. وفي غمرة هذا التطاحن والحروب الدامية والصراع السياسي المحتدم ، خطّطت فئة الخوارج الّتي أعلنت عداءها وتمرّدها على إمام المسلمين عليّ بن أبي طالب (ع) لاغتيال كلّ مِن معاوية وعمرو بن العاص وعليّ بن أبي طالب (ع) ، ورزئت الانسانية وخسرت الاُمّة أعزّ رجالها ، وقدوة طلائعها ، وحامل اللّواء والرّاية فيها ، رجل العلم والجهاد والعمل الصالح عليّ بن أبي طالب (ع) . فقد نجحت المؤامـرة ضدّه ، ونفّذ عبدالرّحمان بن مُلْجَم الجريمة بحقِّ التـاريخ والانسانية ، واغتال أميرَ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب (ع) فضربه ضربة قاتلة على رأسه الشريف بسيف مسموم ، عند صلاة الفجر في مسجد الكوفة ، في اليوم التاسع عشر من رمضان عام (40 هـ )، واستشهد في اليوم الحادي والعشرين من ذلك الشهر. وباستشهاد عليّ أمير المؤمنين ، رجل الدولة والجهاد والسياسة ، رجلِ المبدأ والعقيدة ، رجلِ العدالة والقيم ، الّذي ما ساوم على حقٍّ ، ولا تنازل عن مبدأ ، ولا جفا قيمة من قيم الحق والعدالة ، أفرزت الاحداث وضعاً سياسياً جديداً ، وظروفاً تاريخيّة جديدة ، انقلبت المعادلة فيها ، واختلّ التوازن السياسي والاجتماعي في حركة المجتمع وتفكيره السياسي بعد غياب هذه الشخصية العظيمة ، كما دبّ باستشهاده الوهن والضعف إلى كيان الخلافة الراشدة ، وأخذ معسكر معاوية بالنموّ والتضخّم . ورغم إيمان المسلمين بعظمة شخصية الامام الحسن السبط (ع)، وقدسـيّته ومكانته السياسية والاجتماعية الفريدة ، وهيبته ، ومقامه المقدّس ، وتعريف رسول الله (ص) بمكانته والنص على تفضيله ، وعلى الرغم من وصيّة أبيه (ع) ومبايعة الاُمّة له بالولاية والخلافة بعد أمير المؤمنين (ع) ، على الرغم من ذلك كلّه ، فما أن استشهد الامام عليّ (ع) حتّى أعلن معاوية نفسه خليفة عاماً للمسلمين ، وكتب إلى الخليفة الرّاشد الامام الحسن بن عليّ بن أبي طالب (ع) ، يطالبه بالتنازل ، ويلوِّح له بالسّيف ويهدِّدهُ بالحرب . وقد حفظ لنا التاريخ كلاًّ من كتاب معاوية وجواب الامام الحسن بن عليّ ، فقد كتب معاوية إلى الحسن بن عليّ (ع) يهدِّده ويطلب منه التنازل . وجاء ذلك بكتابه الّذي قال فيه : « بسم الله الرّحمن الرّحيم : أمّا بعد،فإنّ الله عزّ وجلّ يَفعَلُ في عِبادِهِ ما يشاء لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه وهو سريعُ الحساب، فاحذرْ أنْ تكونَ مَنيَّتُك على يَدِ رِعاع(21)مِنَ الناس وايْأسْ من أن تجدَ فينا غَميزَة (22)،وإنْ أنتَ أعرضتَ عمّا أنتَ فيه،وبايَعْتَنِي،وَفيتُ لكَ بما وَعَدْتُ،وأجَزْتُ لكَ ما شرطتُ، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة : وإنْ أحْدٌ أسْدى إليكَ أمانَة فَأوْفِ بها تُدعى إذا مِتَّ وافيا ولا تَحسَدِ المَولى إذا كان ذا غنىً ولا تَجْفه إنْ كان في المالِ فانِيا ثمّ الخلافة لك من بعدي ، فأنتَ أولى الناس بها ، والسّلام» . فأجابه الحسن بن عليّ (ع) : « أمّا بعد ، وصل إليَّ كتابك تذكر فيه ما ذكرتَ ، فتركتُ جوابَكَ خَشيةَ البغي عليكَ ، وبالله أعوذُ مِن ذلك،فاتّبِعِ الحقَّ تَعلَمْ أنِّي مِن أهله،وعليَّ إثْمٌ أنْ أقولَ فأكذبَ، والسّلام»(23). ولم يكن الامام الحسن ليذعن إلى طلب معاوية ، ولم يفكر بالتنازل عن رضى وقناعة ، بل كان يرى الشرعيّة في موقفه ، والامامة والخلافة والبيعة قد تمّت له ، لذا أعدّ العدّةَ ، وهيّأ الجيوشَ ، واشـتبكَ في معركة ضارية مع معاوية بن أبي سـفيان ، إلاّ أنّ خيانة بعض القادة ، ووسائل الرشوة والتلويح بالمناصب لبعض الشخصيّات ، وعوامل اُخرى جعلت الميزان العسكري والسياسي يميل لمعاوية ، فاضطرّ الامام الحسن إلى حقنِ الدماء ، وإيقاف النزيف ، وحفظ كيان الاسلام من أعدائه الّذين كانوا يهدِّدونه من الخارج (دولة الروم) ، ريثما يصفو الجوّ ، وتتهيّأ الظّروف للتحرّك الفعّال ، فوقّع معاهدة صلح مع معاوية لتتمكّن الاُمّة من استئناف وضع سياسي طبيعي بعد حياة معاوية . وهكذا اضطرّ الامام الحسن(ع)إلى التنازل المؤقّت عن الخلافة وفق شروط واتفاقيات ما زال يحتفظ التأريخ بنصوصها ، ويروي لنا مؤدّاها باختلاف في النصوص والصِّيَغ(24): 1 ـ هذا ما صالحَ عليه الحسن بن عليّ بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة رسول الله وسيرة الخلفاء الراشدين المُهتدين،وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً(25). 2 ـ على أن تكون له(للحسن)الخلافة من بعده(26)،فإن حدث فيه حدث فلاخيه الحسين(27). 3 ـ أنْ لا يُطالب أحداً مِن أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء ممّا كان أيّام أبيه الامام عليّ (28) . 4 ـ أنْ لا يتعرّض عمّاله إلى سَبِّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب على المنابر ، ولا ذكره بسوء ، ولا القنوت ((29)) عليه في الصلاة . فلم يُجِبْهُ إلى الكفِّ عن شَتْمِ عليّ ، فطلب أن لا يُشتَم وهو يَسمعُ ، فأجابه إلى ذلك ثمّ لم يفِ له به أيضاً (30) . 5 ـ أنّ الناس آمِنونَ حيث كانوا مِن أرضِ الله تعالى (31) . 6 ـ لا يحقّ لمعاوية التصرّف في المال الموجود في بيت مال الكـوفة ، وإنّما هو للامام الحسن (ع) . 7 ـ أنْ لا يبغي غائلة للحسن وأخيه الحسين ، ولا يتعرّض لاتباعهم وشيعتهم ولاموالهم ونسائهم وأولادهم بسوء .   كُتِبَت الصحيفة واُقِرَّتْ مِن قِبَلِ الطّرفين ، وما أنِ انتهى أمر الاقـرار بها حتّى وقف معاوية وسط أصحابه ثمّ قال : « ألا وإنِّي كنتُ قد مَنَّيتُ الحسنَ أشياءَ ، وأعطيتُهُ أشياءَ ، وجميعُها تحتَ قدمي ، لا أفِيَ بشيء منها له » (32) . وانتهت الخلافة الراشدة بتنازل الامام السبط الحسن بن عليّ (ع) عن الخلافة ، وعاد إلى المدينة بعد أن تحمّل أعباء الخلافة نحو ستّة أشهر بعد أبيه الامام عليّ (ع) . ثمّ دخل معاوية الكوفة بعد التوقيع على الوثيقة مع الامام الحسن (ع) وأطبق جيشُهُ عليها ، فخاطبَ أهلَ الكوفةِ بخطاب تقدّم ذكرهُ ، وقد كان خطابه ذاك بمثابة إلغاء رسمي لبنود الوثيقة المبرمة مع الامام السبط حسب عبارته السالفة «كلُّ شرط شرطتُهُ فتحتَ قدميّ هاتين» ولم يمضِ على صفاء الجو السياسي لمعاوية غير أيّام حتّى بدأ ينفِّذ مخطّطاً مناقضاً تماماً للوثيقة ، وقد انصبّ مخطّطه العدواني البغيض على ما يلي : 1 ـ إشاعة الارهاب والتصفية الجسدية لكلّ القوى المعارضة للحكم الاموي سيما أتباع الامام عليّ (ع) منهم،ومتابعتهم،وإخراس كل لسان حُرٍّ بكل وسائل التنكيل والاضطهاد. وبمقدور القارئ الكريم أن يدرك أبعاد تلك السياسة الهوجاء من خلال النص الاتي الّذي يوصي به معاوية أحد قادة جيوشه : « فاقتلْ مَن لقيتَهُ ممّن ليسَ هو على مثلِ رأيك ، واخْرِبْ كلَّ ما مررتَ بهِ مِنَ القُرى ، واحْرِب الاموالَ ، فإنّ حَربَ الاموالِ شبيهٌ بالقتلِ وهو أوجع للقلب » (33) . وإذا كان المخطّط الاموي المنحرف الّذي يعكس النصُّ السابقُ طبيعتَهُ وانحرافَهُ ، قد بدأ تنفيذهُ في عهد عليّ (ع) ، فإنّه بعد توقيع الوثيقة قد اتّخذ أبعاداً أشدَّ خطورة ، وأبعدَ أثراً في إراقة الدماء البريئة ، وتصفيةِ المعارضين بشتّى مذاهبهم ، وفي طليعتهم أتباع الامام عليّ وأهل بيته (ع) . فقد كتبَ معاوية إلى ولاته في جميع الامصار : « اُنظروا مَنْ قامَت عليه البيِّنةُ أ نّه يُحبُّ عليّاً وأهلَ بيته ، فامحوه مِنَ الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه » (34) . وكتبَ كتاباً آخر جاء فيه:«مَنْ اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكِّلوا به واهدموا داره»(35). وقد صوّر الامام محمّد الباقر (ع) تلك المأساة الدامية بأقصر عبارة وأدقّها حين قال : « فَقُتِلَتْ شيعتُنا بكلِّ بلدة ، وقُطِّعَت الايدي والارجُل على الظِّنّة ، وكان مَنْ يُذكِّر بحبِّنا والانقطاع إلينا سُجِنَ ، أو نُهِبَ مالُهُ ، أو هُدِمَتْ دارُهُ ، ثمّ لم يزلِ البلاءُ يشتدُّ ويزدادُ إلى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين(ع)»(36). وكان في طليعة ضحايا تلك المجزرة الرهيبة كوكبة من الصحابة الابرار أمثال : حُجْرُ بنُ عَدِي وجماعته ، ورشيدُ الهَجَريّ ، وعَمرُو بنُ الحَمْقِ الخُزاعيّ ، وأوفَى بن حصْن ، وسواهم كثير ، ومَن شاء الاحاطة بمزيد من الارقام الدالّة على مواقف معاوية فدونَهُ الطبريَّ والكاملَ وشرحَ النهج وغيرَها . 2 ـ إغداق الاموال من أجل شراء الضّمائر والذِّمم إمعاناً في إذابة الشخصية الاسلامية وتمكيناً للسياسة المنحرفة من تحقيق أهدافها السّوداء،وقد تمّ فعلاً شراءُ نوعين مِنَ الناس: أ ـ بعض الوعّاظ والمحدِّثين الّذين كان لهم دور مفضوح في العمالة لمعاوية وافتراء الاحاديث الكاذبة ونسبتها إلى الرسول (ص) للنيل من عليّ (ع) وأهل بيته قاطبة ممّا لسنا الان بصدد ذكرها . ب ـ شراء ضمائر الوجوه الاجتماعية الّتي يُخشى مِن تحرّكها ضدّ الحكم الاموي ، وهو أسلوب مارسه معاوية وغيره من ساسة الحكم حتّى صار إحدى متبنّيات السياسة الاموية في جميع مراحلها، وعلى وجه التحقيق وليس أدلّ على ذلك من إرسال معاوية إلى مالك بن هُبَيْرة السّكوني مئة ألف درهم حين بلغه استياؤه من قتل ابن عمّه الصحابي الجليل حجر بن عدي وأصحابه (رض) بأمر معاوية ، فما كان مِنَ السّكوني إلاّ أنْ أخذَ ثمنَ ضميرِهِ وتخلّى عن عزمه على التحرّك بوجه الظلم والفساد!!! 3 ـ المضايقة الاقتصادية وأسلوب التجويع : وهو من أكثر الاساليب الاموية تأثيراً سلبياً في نفسيّة الاُمّة المسـلمة بإذلالها وإشاعة المَسْكَنة في نفوس أبنائها . وبالنظر إلى أنّ السياسة المذكورة تقوم على أساس مُحاربةِ القوى المعارضة في رزقِها وقوتِها اليومي ، فقد سلكَ معاوية أبشع الطرق لمحاصرة شيعة أهل البيت (ع) على وجهِ الخصوصِ ومضايقتهم اقتصادياً كما تشير الوثائق التاريخيّة إلى ذلك ، ومنها بيان معاوية الّذي بلّغه لجميع ولاته بهذا الصدد : « اُنظروا مَنْ قامت عليه البيِّنة أ نّه يحبُّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه » (37) . وعلى المرء أن يقدِّر أبعاد تلك السياسة الهوجاء الّتي درج على انتهاجها البيت الاموي من تخريب للضمائر وإفسـاد للنفوس وهي مسـألة ليست يسيرة وليست طارئة ، وإنّما منحها معاوية صفة الاستمرارية طيلة العشرين سنة الّتي صفا الجو السياسي له فيها ( 41 هـ حتّى 60 هـ ) . 4 ـ العمل على تمزيق أواصر الاُمّة الاسلامية بإثارة الروح القومية والقبلية والاقليميّة بين قطاعاتها المختلفة إمعاناً منه في إلهاء الاُمّة في تناقضات جانبية على حساب تناقضها الاساس مع الحكم الاموي الجائر،وذلك في ممارسة إثارة الضغائن بين القبائل العربية وإشغالها بالصراعات الجانبية فيما بينها ، كالصراع الّذي نشب بين قيس ومضر ، وأهل اليمن والمدينة ، وبين قبائل العراق فيما بينها ! وإثارة العنصرية عند العرب ضدّ المسلمين من غير العرب الّذين يُعرَفون تاريخياً باسم الموالي ، وبمقدور المرء أن يجد آثار تلك السياسة الجاهليّة جلياً في أشعار مسكين الدارمي والفرزدق وجرير والاخطل وسواهم (38) . 5 ـ اغتيال الامام السبط الحسن بن عليّ (ع) باعتباره الممثِّل الشرعي للتيار الاسلامي السّليم في دنيا المسلمين . 6 ـ تتويج معاوية لولده (يزيد) ملكاً على الاُمّة تحت ظلال الكبت والاضطهاد والاغراء والترغيب ، خلافاً للوثيقة الّتي تقضي أن يكون الحسن خليفة للمسلمين بعد موت معاوية ، فإنْ كان الحسن هو الاخر قد رحل إلى ربِّه يومها فالحسينُ وليُّ الامر . وهكذا استكمل معاوية مخطّطه في نقض كل بند من بنود الوثيقة الّتي عقدها مع الامام الحسن (ع) ، وقد ارتكب شططاً آخر تجاوز فيه حدود المفهوم الاسلامي في الحكم ، من خلال اتخاذ «الوراثة» ذات الطابع الدكتاتوري اُطروحةً للحكم في دنيا المسلمين ; الامر الّذي عرّض المبدأ الاسلامي والاُمّة الاسلامية إلى أعنف كارثة في تأريخها ، حيث بدأ مسـار حركتها يأخذ طريقه باتّجـاه مغايِر للخط الاسلامي الاصيل بشكل لا غبار عليه . وقد تبلور واقع الانحراف الّذي خطّطت له السياسة الاموية والّذي رعاه معاوية وتبنّاه بشكله المرعب فور موته بتولِّي ابنهُ يزيد الحكم الموروث . إنّ منح يزيد السلطة ليقود الاُمّة الاسلامية ، ويخطِّط لمستقبلها ، ويحدِّد مسارها ; معناه الانهاء العملي للوجود الاسلامي على الاطلاق ، وردّة واقعية عن مبادئ السّماء ، وعودة للجاهلية ولكن في ثوب جديد . فيزيد هذا ـ كما تؤكّد المصادر التاريخـيّة ـ يغلب عليه طابع الشذوذ في شتّى أفكاره وممارساته ومشاعره . وحين يعدم يزيد الجوّ التربويّ الّذي يوفِّره الاسلام عادةً لابنائهِ،فإنّ الامر لا يدعو إلى العجب بعد ذلك إذْ أطلعنا التاريخ الاسلامي على نشاطات مشبعة بروح الانحراف عن الاسلام ممّا كان ابن معاوية يُمارسهُ على مَسْمَع ومَرْأى مِن كثير مِنَ المسلمين في بلاد الشام،كاللّهو الماجن واللّعب الخليع وشرب الخمر ومنادمة الفتيات والغناء،وكان يُلبِسُ كلابَهُ أساورَ الذّهب(39). قال المؤرِّخ البلاذري : « كان ليزيدَ قردٌ يجعلُهُ بين يديهِ ويكنِّيهِ أبا قيس ويقول : هذا شيخٌ مِن بني إسرائيل أصاب خطيئةً فَمُسِخَ ، وكانَ يسقيه النّبيذَ ويضحكُ ممّا يصنعُ ، وكان يحملُهُ على أتان وخشبة ويُرسِلها مع الخيل » (40) . وقال المؤرّخ ابن كثير : « رُوِيَ أنّ يزيد كان قد اشـتهر بالمعازف وشرب الخمر والغناء والصّيد واتخاذ الغِلمان والقِيان والكِلاب والنِّطاح بينَ الكِباش والدّباب والقرود ، وما من يوم إلاّ يُصبحُ فيهِ مخموراً ، وكان يشدُّ القردَ على فرس مسرّجة بحبال ويَسوقُ بهِ ، ويُلبِسُ القِردَ قلانِسَ الذّهبِ ، وكذلك الغلمان ، وكان يُسابِقُ بين الخيلِ ، وكان إذا مات القردُ حَزنَ عليه ، وقيلَ إنّ سببَ موتِهِ أ نّه حملَ قِردةً وجعل يُنَقِّزها فعضّتْه » (41) . وقال المؤرِّخ المسعودي : « وكان يزيدُ صاحِبَ طَرَب وجَوارِحَ ((42)) وكلاب وقرود وفهود ومُنـادمة على الشّرابِ ، وجلسَ ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابنُ زياد، وذلك بعد قتل الحسين ، فأقبلَ على ساقيه فقال : أسقني شِرْبَةً تُروِّي مُشاشي ((43)) ثُمّ مِلْ فاسقِ مثلَها ابنَ زياد صاحِبَ السِّرِّ والامانَةِ عِنْدي ولتســديدِ مَغْـنَمي وجِهـادي ثمّ أمرَ المغنِّين فغنّوا به » . « وغلبَ على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعلُهُ مِنَ الفسوقِ ، وفي أيّامهِ ظهرَ الغناءُ بمكّة والمدينة ، واستُعْمِلَت الملاهي ، وأظهرَ الناسُ شِرْبَ الشّرابِ ، وكان له قردٌ يُكنّى بأبي قيس يُحْضِرُهُ مجلسَ مُنادَمَتِهِ ، ويطرحُ لهُ مُتَّكأ ، وكان قرداً خبيثاً ، وكان يحملهُ على أتان وخشبة قد رُيِّضت وذُلِّلت لذلكَ بسرج ولجام ، ويُسابقُ بها الخيلَ يومَ الحَلَبَةِ ، فجاءَ في بعضِ الايّامِ سابِقاً ، فتناول القصبة ودخل الحجرة قبل الخيل ، وعلى أبي قيس قباء من الحريرِ الاحمرِ والاصفرِ مشمّر ، وعلى رأسه قلنسوة مِنَ الحرير ذات ألوان بشقائق ، وعلى الاتان سرجٌ مِنَ الحرير الاحمر منقوشٌ ملمّعٌ بأنواع مِنَ الالوان » (44) . ولم ينته الموقف إلى هذا الحد ، ولم تهدأ الحرب والصراع الممتد من بزوغ الدعوة الاسلامية بين الامويين وأهل البيت (ع) ، وجلس الحسنان (الحسن والحسين) بعيدين عن الميدان السياسي بصيغته العملية ، وبدأت الحملة تشتدّ ضدّ أهل البيت وضدّ أتباعهم من قِبَلِ معاوية وجهازه الحاكم ، والصراع يتصاعد ، والمحنة تتفاقم ، حتّى تُوفِّي الحسن (ع) فاتّجه الناس إلى الحسين (ع) ، وقرّروا البيعة له وخلع حكومة معاوية . بينما قرّر معاوية أن ينصب ابنه يزيد خليفة على المسلمين من بعده،ويأخذ له البيعة بنفسه خلافاً للاعراف والاحكام الاسلامية المتّبعة في تعيين الخليفة،فأثار هذا القرار الرأي العام الاسلامي وخصوصاً الشخصيات الاسلامية البارزة كالحسين ابن عليّ(ع)،وعبدالرّحمان بن أبي بكر،وعبدالله بن الزُّبير،وعبدالله بن عمر،وشخصيات مرموقة اُخرى. فقد نقل المؤرِّخون صوراً ومواقف تاريخيّة معبِّرة عن الرّفض والمواجهة ، نذكر بعضاً منها : « وفي سنة خمسين فُتحت قوهستان عَنوةً ، وفيها دعا معاوية أهل الشام إلى البيعة بولاية العهد من بعده لابنه يزيد ، فبايعوه ، وهو أوّل مَنْ عهد بالخلافة لابنه ، وأوّل مَنْ عهد بها في صحّته. ثمّ أ نّه كتب إلى مروان بالمدينة أن يأخذ البيعة ، فخطب مروان فقال : إنّ أمير المؤمنين رأى أن يستخلف عليكم ولده يزيد سُنّةَ أبي بكر وعمر ، فقام عبدالرّحمان بن أبي بكر الصِّديق فقال : بل سنّة كسرى وقيصر ، إنّ أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما ، ولا في أحد مِن أهلِ بيتهما . ثمّ حجّ معاوية سنة إحدى وخمسين ، وأخذ البيعة لابنه ، فبعث إلى ابن عمر فتشهّد وقال : أمّا بعد ، يا ابن عمر ! إنّك كنتَ تُحدِّثني أ نّك لا تحبّ أن تبيت ليلة سـوداء ليس عليك فيها أمير ، وإنِّي اُحذِّرُكَ أنْ تشـقَّ عصا المسلمين أو تسعى في فساد ذات بينهم . فحمد ابن عمر الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّه قد كان قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنُكَ بخير مِنْ أبنائِهِم ، فلم يَرَوْا في أبنائِهِم ما رأيتَ في إبنك ، ولكنّهم اختـاروا المسـلمين حيث علموا الخـيار ، وإنّك تحذِّرني أنْ أشقّ عصـا المسلمين ، ولم أكن لافعل وإنّما أنا رجل من المسلمين ، فإذا اجتمعوا على أمر فإنّما أنا رجل منهم . فقال : يرحمك الله ! فخرج ابن عمر . ثمّ أرسلَ إلى ابن أبي بكر فتشهّد ثمّ أخذ في الكلام فقطع عليه كلامه ، وقال : إنّكَ لو وَدَدْتَ أ نّا وكّلناك في أمر ابنك إلى الله ، وإنّا والله لا نفعل ، والله لَتَرُدَّنَّ هذا الامر شورى في المسلمين ، أو لَنُعِدنَّها عليك جذعة ، ثمّ وثب ومضى ، فقال معاوية : اللّهمّ اكفنيه بما شئتَ ، ثمّ قال : على رِسلكَ أ يُّها الرّجل ، لا تشرفنَّ على أهل الشّام فإنِّي أخافُ أن يسبقوني بنفسكَ حتّى اُخْبَرَ العشيّةَ أ نّك قد بايعتَنا ، ثمّ كُنْ بعد على ما بدا لكَ مِن أمرِك . ثمّ أرسلَ إلى ابن الزُّبير ، فقال : يا ابن الزُّبير ! إنّما أنتَ ثعلبٌ روّاغٌ ، كلّما خرجَ من جُحْر دخلَ في آخر، وإنّك عمدتَ إلى هذينِ الرّجلينِ فنفختَ في مناخرِهما، وحملتهما على غير رأيهما . فقال ابن الزُّبير : إن كُنتَ قد مَلَلْتَ الامارةَ فاعتزِلْها ، وَهَلُمّ ابنَكَ فلنبايِعْهُ ، أرأيتَ إذا بايَعنا ابنَكَ معكَ لايّكما نسمعُ ونطيعُ ؟ لا تجتمعُ البيعةُ لكما أبداً . ثمّ راح ، فصعد معاوية المنبر فحمدَ الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّا وجدنا أحاديث الناس ذات عَوار ، زعموا أنّ ابن عمر وابن أبي بكر وابن الزُّبير لن يبايعوا يزيد ، وقد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له ، فقال أهل الشّام : والله لا نَرضى حتّى يُبايِعوا له على رؤوسِ الاشهادِ ، وإلاّ ضربنا أعناقهم . فقال : سبحانَ الله ! ما أسرعَ الناس إلى قريش بالشّرِّ ، لا أسمع هذه المقالة مِن أحد منكم بعد اليوم ، ثمّ نزل . فقال الناس : بايع ابن عمر ، وابن أبي بكر ، وابن الزُّبير ، وهم يقـولون : لا والله ما بايعنا ، فيقول الناس : بلى ، وارتحلَ معاوية فلحق بالشّام » (45) . وهكذا وقفت الاُمّة على عتبة تاريخ جديد من حياتها ، وأصبحت أمام خيارين : إمّا أن تتبنّى سياسة الرفض القاطع للواقع الّذي فُرِضَ عليها مهما كان الثمن . أو القبول بسياسة الامر الواقع ، حيث عليها أن تتنازل عن رسالتها وسرّ عظمتها وعنوان عزّتها في الحياة ، فكيف كان الامر ؟   وفاء الحسين (عليه السلام) نظّمت الشريعةُ الاسلاميةُ السلوكَ السياسي ، وأقامتهُ على اُسّس عقائدية وأخلاقية وقانونية مُتْقَنَة ، وجعلت للمواثيق والمعاهدات حُرمةً ومَكانةً خاصّة . قال تعالى : (يَا أَ يُّهَا ا لَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) . ( المائدة / 1 ) وقال : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ ا لْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) . ( الاسراء / 34 ) ولقد كان أئمّة أهل البيت (ع) يمثِّلون القُدوةَ والطّليعةَ في الالتزام الاخلاقي والقانوني ، وكان سـلوكهم السياسي ممارسةً تطبيقيةً للفقهِ السـياسي في الشريعة الاسلامية ، ولم تكن سياسة (الغايةُ تُبرِّرُ الواسطة) هي مبدأهم بالتعامل السياسي ، سواء مع الجماهير والقواعد الشعبية ، أو مع الخصم وقُوَى المعارضة ، فكانوا لا يفصلونَ بينَ الاخلاق والسياسة . فالسلوكُ السياسي في نظر الاسـلام يقومُ على اُسُس عبادية وأخلاقية ، لذلك فإنّ جماهير العراق الموالية لاهلِ البيت والّتي عانت من سلوك السلطة الامويّة وتعاملها القاسي حينما تحرّكت بعد استشهاد الامام الحسن (ع) عام (50) هـ ، واتّجهت إلى الامام الحسين (ع) وبعـثوا بالكتب والرسائل إليه يطلبون منه خَلْعَ معاوية والبيعةَ له ، رفضَ (ع) الاستجابة وردّ عليهم أ نّه لا يوافق على هذا الاتّجاه ، لانّ بينه وبين معاوية عهداً ، يعني العهدَ الّذي وقّعه الحسن (ع) مع معاوية ولا يجوز نقضه . سجّل الشيخ المفيد هذا الموقف الاخلاقي ، والسلوك الشرعي للامام الحسين ونقل : « ما رواه الكَلْبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السِّيَر قالوا : لمّا ماتَ الحسنُ (ع) تحرّكت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين (ع) في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم ، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة ، فإذا مات معاوية نظر في ذلك » (46) . وجاء دور الحسين (عليه السلام) ذلّل معاويةُ الصِّعابَ وأحكمَ القبضةَ بكلِّ ما اُوتيَ من وسائل المال والدّهاء والارهاب ، ونقل السّلطة ورئاسة الدولة إلى ولده يزيد ، ومع كل هذا التمهيد فأنّ الحزب الاموي لمّا يطمئنْ على سلطته بعد ، والحاكم الجديد ليس بوسعه أن يتحدّى قِيَمَ الاُمّة ومبادئها ، فقد رَبّاها رسول الله على حبّ أهل بيته ونفخَ فيها القرآنَ روحاً حضارياً خاصّاً ، وقيماً سياسية معيّنة ، فهذه الاُمّة تعرف صفات الامام ، وتميِّز شخصيّة القائد ، وتعرف حقوقها السياسية ، وتشخِّص بوضوح دورها التأريخي ، وترفض هذا الاستبداد والنظام الوراثي الّذي فُرِضَ عليها . لقد كانت العشرون عاماً الماضية مِن تسلّط الحزب الاموي وسيطرته وأَثَرَتِهِ وتحكّمه وانفراديته بالمال والسلطة والادارة ، كافية لان تحفِّز الاُمّة للثورة وتجعلها تتهيّأ لخلع يزيد بن معاوية الحاكم المفروض عليها ، وطبيعي عندما تشتدّ المحنُ وتتوالى الشدائد ، ويطوِّق الاُمّةَ طوقُ الارهاب والتسلّط السياسي تتّجه الانظار إلى رجال المعارضة ، وقادة الرأي ، وأقطاب الحركة الّتي تحمل روح الثورة ، وتعيش من أجل المبادئ ، وتتصدّى بعبقرية وجدارة لمهام المواجهة والقيادة ، ولم يكن في الاُمّة يومها من رجل كالحسين بن علي بن أبي طالب (ع) ، فهو سيِّد قريش ، وسبط رسول الله ، وابن أمير المؤمنين ، وخيرة رجال الاُمّة علماً وورعاً وكفاءة وخُلُقاً ، وليس في المسلمين مَن يجهل مقامه ، أو لا يعرف شخصيته ، وقد عرفوا موقفه ورفضه لولاية يزيد وتنصيب معاوية له ، بل ولقد كان معاوية يخافه ، ويعلم موقفه وقدرته على قيادة الاُمّة وتحريك ضميرها وتعبئتها للتحرّك والقتال . ويزيد يعرفُ تعلّق الاُمّة بالحسين ، ويعرف شدّة الحسين وعنفه ، وروح الوثبة والثورة فيه، ويعلم موقفه من معاوية، ورفضه الشديد لفرض معاوية ليزيد وتسليطه على المسلمين . لذلك تركّز همّه ، وتركّزت مخاوفه في شخص الحسين ، فكتب في الايّام الاُولى من تولِّيه السّلطة إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة كتاباً جاء فيه : « أمّا بعد ، فَخُذْ حُسيناً وعبدالله بن عمر وابن الزُّبير بالبيعة أخذاً شديداً ليس فيه رخصة حتّى يُبايِعوا » (47) . تسلّم الوليد رسالة يزيد وقرأ فيها نعي معاوية ((48)) ، وإعلان البيعة ليزيد وتكليفه بمهمّة سياسية شاقّة ، ومسؤولية كبرى ، كتم سِرّ الكتاب وفكّر مليّاً ، ثمّ استدعى مروان لِيُبْلِغهُ النّبأ ويستشيره في كيفية مواجهة الحسين وتنفيذ قرار يزيد ، قبل أن يستفحل الامر ويفلت الموقف، فلم يكن لدى مروان من رأي غير المباغتة والارهاب، فطرح رأيه ومشورته عليه : «أرى أن تدعوهم السّاعة وتأمرهم بالبَيعة فإنْ فعلوا قَبِلتَ منهم، وكَفَفْتَ عنهم ، وإن أبوا ضَرَبْتَ أعناقهم قبلَ أنْ يعلموا بموت معاوية ، فإنّهم إنْ علموا بموتِهِ وثبَ كلُّ رجل منهم بناحيـة ، وأظهرَ الخلاف ، ودعا إلى نفسه ، أمّا ابن عمر فلا يرى القتال ، ولا يُحبّ أنْ يلي على الناس إلاّ أن يُدفعَ إليهِ هذا الامرُ عفواً» (49) . تمّت المشورة وتبلور الرأي، وتحدّد الموقف، وتسارعت الخطى للاحاطة بالحسين، وتطويقه ، ومباغتته ، لئلاّ ينتشر خبر موت معاوية ، ويتحرّك الرأي العام ، ويتّجـه الناس إلى الامام الحسين السبط فيبايعوه . «فأرسلَ الوليد عبدالله بن عمر بن عثمان ، وهو غلام حدث إلى الحسين وابن الزُّبير يدعوهما ، فوجدهما في المسجد وهما جالسان ، فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس ، فقال : أجيبا الامير ، فقالا : انصرف الان نأتيه» (50) . لم يكن هذا الاستدعاء اعتيادياً ، ولم يكن الحسين (ع) ليغفل عنه ، فما عسى أن يكون الحدث ؟ وماذا يريد الوليد ؟ . أحسّ الامام الحسين (ع) وابن الزُّبير بخطورة الموقف ، وأدركا أنّ أمراً جديداً قد حدث ، وأنّ وضعاً سياسياً غير اعتيادي قد طرأ ، وإلاّ لِمَ هذا الاستدعاء ؟ ولِمَ في هذا الوقت الّذي لم يكن من عادة الوليد استقبال أحد من الناس فيه ؟ فتساءل ابن الزُّبير قائلاً للامام الحسين (ع) : «ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة الّتي لم يكن يجلس فيها ؟ فقال الحسين (ع) : أظن أنّ طاغيتهم قد هلك ، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبيل أن يفشو في الناس الخبر ، فقال : وأنا ما أظن غيره ، فما تريد أن تصنع ؟ قال الحسين (ع) : أجمع فتياني السّاعة ثمّ أمشي إليه وأجلسهم على الباب وأدخل عليه ، قال : فإنّي أخافه عليك إذا دخلت ، قال : لا آتيه إلاّ وأنا قادر على الامتناع» (51) . وهكذا استقبل الحسين الخطّة الامويّة ، وتهيّأ للمواجهة ، وأدرك المباغتة ، وعرف لغةَ التعامل مع هذا الحزب : «لا آتيه إلاّ وأنا قادر على الامتناع» . بهذه الرّوح وبتلك العزيمة ، بالموقف الشجاع ، وبالتحدِّي والرّفض ، ومن الوهلة الاولى قرّر الحسين (ع) أن يُجابِهَ تسلّطَ يزيد ، ويردَّ على الموقف السياسي الخطير الّذي سينشأ من تولّيه شؤون الاُمّة واستلامه إدارة الحكم ، فهو يعرف يزيد ، ويدرك بعمق قيمته السياسية والاخلاقية والروحية ، ويعلم أن لا بدّ من السيف والدم والثورة والجهاد وسحب صفة الشرعية من هذا المتسلِّط الطّاغية بأي ثمن كان . بعث الحسين الشهيد (ع) إلى أخوته وأهل بيته وحاشيته فاجتمع من حوله ثلاثون رجلاً ، فكانوا كوكبة أبطال ، ورجال ثورة ، وهكذا سار إلى الوليد ومعه حرسه ورجاله ، مستعدّاً للدفاع ، متأهِّباً للمواجهة ، فليس في نفس الثائر الشهيد رضىً ولا مهادنة ، وليس في لغته ضعف ولا وهن ، فبين جنبيه قلب عليّ بن أبي طالب ، وفي يده سيف الحقّ، وفي نفسه نفحة النبوّة ، وعزّة الامامة، وشرف الرجولة ، جاء الحسين ليحدِّد الموقف ، ويعلن القرار ، ويحسم النزاع ، ويقول كلمة الرّفض وهو يمثِّل إرادة الاُمّة ، وينطق بلسان الشريعة ، ومن حوله حاشيته وأهل بيته ، موحياً بالمواجهة ، وملوِّحاً بالموقف الصّعب ، ومهدِّداً بالعُنف والثّورة . سارَ موكب الحسين (ع) حتّى وصل ديوان الوليد ، وقد حضر مروان بن الحكم ، فاقتحم الموكب مجلس الوليد وروح الرّفض والتحدِّي ظاهرة على الحسين الشهيد ، ثمّ أجلسَ حرسه ورجاله في موضع يمكنهم من مراقبة الاجتماع، ومواجهة الطوارئ ، أجلسهم بحيث يرون مكانه ويسمعون قوله ، لئلاّ يُؤخذ غدراً ، أو يهاجم على حين غرّة ، ثمّ احتاط للامر وأعدّ رجاله وحرسه للوثبة والهجوم ، ووضع كلمة سرّ بينه وبينهم . قال لهم : «إن دعوتُكم أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا عليَّ بأجمعكم ، وإلاّ فلا تبرحوا حتّى أخرج إليكم» (52) . إجتاز الحسين الثائر (ع) مجلس الوليد فسلّم وجلس ، ووجد إلى جوار الوليد مروانَ بن الحكم ، بدأ الحوار ، ودارت الاحاديث ، وأخبر الوليدُ الحسينَ بموت معاوية ، ثمّ : « عرضَ عليه البيعةَ ليزيد فقال : أ يُّها الامير ! إنّ البيعة لا تكون سرّاً ، ولكن إذا دعوتَ الناسَ غداً فادعُنا معهم ، فقال مروان : لا تَقبَل أ يُّها الامير عُذْرَهُ حتّى يُبايع وإلاّ فاضرِبْ عُنُقَهُ ، فغضبَ الحسين (ع) ثمّ قال : وَيلٌ لكَ يا ابن الزّرقاء أنتَ تَضْرِبُ عنقي ، كَذِبتَ واللهِ وَلؤمتَ ، ثمّ أقبلَ على الوليد فقال : أ يُّها الامير ! إنّا أهلُ بيتِ النبوّةِ ، ومعدنُ الرِّسالةِ ، ومُخْتَلَفُ الملائكةِ ، وبِنا فَتَحَ الله وبِنا خَتَمَ ، ويزيدُ رجلٌ فاسِقٌ ، شارِبٌ الخمر ، قاتِلُ النّفس المُحَرَّمة ، مُعْلِنٌ بالفسق ، ومِثْلي لا يُبايِعُ مِثْلَهُ ، ولكن نُصْبِحُ وتُصْبِحونَ ، ونَنْظُرُ وتَنْظُرونَ أيّنا أحقُّ بالخلافَةِ والبيعةِ ، ثمّ خرج (ع) فقالَ مروان للوليد : عَصَيْتَني ، فقال : ويْحَكَ ، إنّكَ أشَرْتَ بذهابِ ديني ودُنياي ، واللهِ ما اُحِبُّ أنَّ مُلْكَ الدُّنيا بأسرِها لي وأ نّني قَتَلْتُ حُسيناً ، واللهِ ما أظنُّ أحداً يلقى الله بدم الحسين وهو خفيف الميزان ، لا يَنظرُ الله إليه ، ولا يُزَكِّيهِ ، ولهُ عذابٌ أليم » (53) . انفضّ المجلس ، وانصرف الحسين عائداً إلى أهله وقد عزم على الجهاد ، وتأهّب للمواجهة ، واستعدّ للكفاح ، ثمّ قرّر التحرّك وإعلان الثورة ، وأن يتّخذ مكّة المكرّمة مقرّاً للانطلاق ، وميداناً للتحرّك .   أسباب الثورة؟ ويتحدّث الحسين (ع) عن سبب خروجه من المدينة ورفضه للسلطة اليزيديّة وإعلانه للثورة على يزيد ، ويُجيبُ على تساؤلاتِ الكثيرين ، ويحدِّد هويّةَ الحركة ، ومعالم الانطلاقة ، واُسس المواجهة مع النظام الاموي الجـديد ، ويعلنها للملا من الناس في رسالة وجّهها لاخيه محمّد بن الحنفيّة . ويؤكِّد فيها أن تردِّي الاوضاع السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية للاُمّة ، والاحساس بمسؤولية الاصلاح هي الّتي دفعته للتحرّك والخروج من المدينة لقيادة المقاومة ومجابهة الحاكم الاموي الجديد . فقد جاء في نص الرسالة : « لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً ، ولا مُفْسِداً ولا ظالِماً ، وإنّما خرجتُ لطلبِ الاصلاحِ في اُمّةِ جدِّي رسول الله (ص) ، أريدُ أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأسيرَ بسيرةِ جدِّي وأبي » (54) . فالاسلام يشترط في القائد الّذي يقود الاُمّة، ويمسك بزمام الاُمور أن يلتزم بقواعد القسط والعدل، ويحترم قوانين الشريعة وإرادة الاُمّة، ويلتزم بسيادة القانون، ويتجرّد عن حبّ التسلّط واستغلال المنصب وجعله طريقاً للاثراء والمتع واللّذات والاستئثار. ويزيد كما يعرفه الحسين (ع) وتعرفه طبقات الاُمّة ليس له أهليّة القيادة ولا أخلاقية الامامة ، فهو شخصية خليعة ماجنة ، جلّ اهتمامه اللهو واللعب ، وجلّ اشتغاله بالنِّساء والخمور وملاعبة الكلاب والقردة وإنشاد الشعر وسباق الخيل وصيد البراري . إنّ الاُمّة الاسلامية تعرف أنّ الامامة والقيادة لا تكون إلاّ لرجل قدوة في عمله وخلقه واستيعابه لاحكام الشريعة وقوانيها ، وإلاّ لمن توفّرت فيه الحكمة والحنكة السياسية ، فكيف يسلم الحسين (ع) ابن بنت رسول الله (ص) وزعيم الاُمّة الّذي تعقد عليه آمالها ، وترى في شخصيته القدوة والقيادة لها ؟ لذلك رفض الحسين (ع) مبايعة يزيد وأعلن الثورة والمواجهة المسلّحة ، وشرح في كتبه ومراسلاته مع الاقطار والانصار سبب تحرّكه ، ووضّح مبرّرات ثورته ، ليفقههم بنظرته السياسية ، وتحليله للاوضاع والظروف الّتي صنعتها أجواء التسلّط والانحراف والاستبداد . فقد جاء في رسالته لاهل الكوفة يعرِّفهم بالمواصفات الّتي يجب أن يتصف بها الامام لينِّمي وعيهم السياسي ، ويعرِّف بشخصية القائد الّذي تجب له البيعة والطاعة : «فَلَعَمْري ما الامامُ إلاّ الحاكِمُ بالكتابِ ، القائمُ بالقسطِ ، الدائنُ بدينِ الحقِّ ، الحابِسُ نفسه على ذاتِ الله» (55) . وكتب كتاباً إلى زعماء البصرة وقادة الرأي والمعارضة فيها (رؤساء الاخماس) وهم : مالكُ بن مسمع البكري ، والاحنفُ بن قيس ، والمُنذِرُ بن الجارود ، ومَسعودُ ابن عمرو ، وقيسُ بن الهيثم ، وعمرُو بن عبيد بن معمر ، وأرسله مع أحد رجاله (سليمان ، أبي رزين) ، وجاء في هذه الرِّسالة : «وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيِّه (ص) ، فإنّ السنّةَ قد اُميتَتْ ، والبِدْعَةَ قد اُحْيِيَتْ ، فإنْ تسمعوا قولي أهدِكُم إلى سبيل الرّشاد» (56) . وهكذا يثبِّت الامام الحسـين (ع) الاُسسَ والاُصولَ السياسية لنظرية الحكم ، ويثبِّت قواعدها واُصولها القانونية في شريعة القرآن . لقد كان الحسين (ع) ينظر لشؤون الدولة والسياسة وقضايا الاُمّة والقيادة والامامة بمنظار القرآن ، وكان يزيد ينظر إليها بمنظار الحاكم المتسلِّط ، فقد كان الحسين (ع) يرى القـيادة أداة ووسيلة لوضع الاُمّة على طريق الهدى والصلاح ، والعمل على تربية الانسان ، وبناء شخصيّته ، وتنظيم الحياة وتطويرها نحو الخير والكمال . فهو يرى الدولة الاسلامية دولة تقوم على أساس الاسلام ، وتستمدُّ منه قوانينَها وتشريعاتها وقيمها الحضارية ، ويرى أنّ أجهزة السلطة هي القوّة الحامية للمبادئ ، والحارسة لاهداف الاُمّة ، والموكّلة نيابة عنها بتطبيق القانون وإقامة العدل وتقديم الخدمات ، وهي مسؤولة عن كل ذلك أمام الاُمّة وأمام الله سبحانه . ومن خلال استقراء الكتب والحوار والخطب والمراسلات ودراسة الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمرحلة الّتي عاشها الحسين (ع) نجد : 1 ـ الاستبداد والاستئثار بالسلطة ، فقد نشأت طبقةٌ سياسية متميِّزة وحزبٌ عشائري متفرِّد ، هو الحزب الاموي فاستأثر بالسلطة والمال والادارة وحرم بقيّة أبناء الاُمّة ، حتّى غدت الدولة حَكْراً للامويين ، وملكاً خاصّاً لهم . 2 ـ القتل والارهاب وسفك الدماء . 3 ـ العبث بأموال الاُمّة والدولة ونشوء طبقة رأسمالية إلى جانب الفقر والحاجة في ذلك المجتمع، وعدم أهليّة كثير من المتحكِّمين لاشغال المناصب وتولّي المسؤوليات. 4 ـ الانحراف السلوكي، فقد بدأ الانحراف يدبّ في الحياة العامّة ، ومظاهر الفساد الاجتماعي تظهر في سلوك الافراد والجماعة . 5 ـ غياب القانون وتحكّم المزاج والمصلحة الشخصية للحاكم والولاة بدل الشريعة والقانون في مواقع خطرة ومهمّة من حياة الاُمّة . 6 ـ نشوء طبقة من وضّاع الحديث والمحرِّفين لسنّة رسول الله (ص) والدّاسِّين عليها،ونشوء فرق كلامية،كالجبرية وغيرها،لتبرير السلوك السياسي للسلطة والدفاع عنها. وقد حفظ لنا التاريخ أرقاماً ووقائع تشهد بانحدار المجتمع وتباعده عن كثير من قيم الاسلام وقوانينه ، ومن يقرأ تلك الفترة بإمعان يجد أنّ ثورة الحسين (ع) كانت ضرورة تأريخيّة ، وأنّ الظّروف والاوضاع المتردِّية هي الّتي أفرزت عوامل الثورة وأسبابها ، وأنّ الحسين (ع) لم يجد مَناصاً مِنَ التحرّك والثورة ، فلنأخذ مثلاً على ذلك الوضع الامني ، والامن الاجتماعي الّذي ثبّتَهُ الاسلامُ بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا ا لْبَيْتِ * ا لَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفِ ) .( قريش / 3 ، 4 ) (مَن قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي ا لاَْرْضِ فَكَأَ نَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَ نَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُم بَعْدَ ذلِكَ فِي ا لاَْرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) . ( المائدة / 32 ) وقد تدهور وانحطّ الوضع الامني إلى درجة الابادة والارهاب . فقد سلّط الحزُب الحاكم سيفَهُ وسوطَهُ وسجونَهُ ودعايتَهُ على الاُمّة رقاب وخصوصاً أتباعَ أهل البيت ، وزعماء المعارضة من أنصار الامام عليّ والحسن والحسين (ع) . فقد وصف أحدهم تلك الظّروف الارهابيّة ، مخاطباً أصحابَهُ ومذكِّراً لهم بالمحنة : « إنّكم كنتم تُقْتَلُونَ وتُقْطَّعُ أيديكُم وأرجلُكُم ، وتُسْملُ أعينُكُم ، وتُرفعونَ على جذوع النّخلِ في حُبِّ أهلِ بيت نبيِّكم، وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعةِ عدوّكم»(57). وقرّر معاوية بن أبي سفيان استئصال زعماء المعارضة وقادة الرأي من أتباع أهل البيت وأعوانهم ، فقتل منهم جماعات لم يُحصِها التأريخُ بشكل دقيق وواضح إلاّ انّنا نذكر بعضاً منهم أمثال : حُجر بن عَدِي ، وهو صحابي جليل : «وصفه الحاكم في المستدرك أ نّه راهب أصحاب محمّد (ص) » (58) . واستنكر الامام الحسين بن عليّ (ع) قَتْلَ هذا الصحابي الجليل ، وَقَتْلَ أصحابه ، وجاء ذلك الاستنكار ، في إحدى الرسائل الّتي كتبها الحسين (ع) إلى معاوية بن أبي سفيان ، كما جاء فيها تعريف ووصف لتلك الشخصيات السياسية الصالحة : قال الامام الحسين في رسالته : « أ لَستَ القاتِلَ حُجراً أخا كندة ، والمصلِّين العابدين ، الّذين كانوا يُنكرون الظّلمَ ، ويَستعظمون البِدَعَ ، ولا يخافونَ في اللهِ لومةَ لائم ؟ قتلتَهُم ظُلْماً وعُدواناً من بعد ما كنتَ أعطيـتَهُمُ الايمـانَ المغلّظة ، والمواثيق المؤكّـدة (يشير إلى المادّة الخامسة من معاهدة الصّلح) أنْ لا تأخذَهُم بِحَدَث كانَ بينكَ وبينهم ، ولا بِإحْنَة تجدها في نفسك عليهم »(59) . وكان معاوية قد قتل مع حجر بن عدي جماعة من أصحابه لاعلانهم المعارضة لحكومة معاوية ، والولاء للامام عليّ وبنيه (ع) ، وهم :   1 ـ شريك بن شدّاد الحضرمي . 2 ـ صيفي بن فضيل الشيباني . 3 ـ عبدالرّحمان بن حسان العنزي . 4 ـ قبيصة بن ضُبيعة العبسي . 5 ـ كدام بن حيان العنزي . 6 ـ محرز بن شهاب بن بجير بن سفيان بن خالد بن منقر التميمي . وبالاضافة إلى هذه الطليعة من رجال المعارضة ممّن تحرّكوا مع حجر بن عدي وسيقوا معه إلى القتل ، فقد قتل معاوية بن أبي سفيان شخصيات سياسية ورجالاً من المعارضة ممّن يوالون الامامَ عليّاً (ع) وأبناءه وهم : 1 ـ عَمرُو بن الحَمْقِ الخُزاعي : وهو صحابيّ ومهاجر جليل القدر والمكانة عند رسول الله (ص) ، قُتِلَ في الموصل وقُطِعَ رأسه ، وحُمِلَ إلى دمشق ، وكان رأسُهُ أوّلَ رأس في الاسـلام ، يُنقلُ من بلد إلى بلد ، ثمّ حمل رأسُهُ إلى زوجته الّتي كانت في سجن معاوية فقالت لرجال معاوية حين نظرت إلى الرأس ، وقد اُلقي في حجرها ، إمعاناً في إرهابها وتعذيبها بعد أن وضعت كفّها على جبينه وقبّلت فمه : «غيّبتُموه عنِّي طويلاً،ثمّ أهدَيْتُموه إليَّ قتيلاً،فأهلاً به من هديّة غير قالِيَة ولا مَقلية»(60). 2 ـ عبدالله بن يحيى الحضرمي وأصحابه . 3 ـ رشيد الهَجَري ، وقد قُطِعَت يداه ورجلاه وهو حي . 4 ـ جويرية بن مسهر العبدي . 5 ـ أوفى بن حُصن ، وهو أوّل قتيل قتله زياد بالكوفة أثر حوار وقع بينهما ، وكان قد سأله عن عثمان ومعاوية فأجاب أجوبةً مَرضيّةً عند زياد ، ثمّ سأله فما تقول فيَّ ؟ قال : « بلغني ، أ نّك قلتَ بالبصرة : والله لاخذنّ البريءَ بالسقيم ، والمُقبلَ بالمُدبِرَ ، قال : قد قلتُ ذاك : قال : خَبَطْتُها عشواءَ ، فقال زياد : ليس النفاخ بشرِّ الزّمرة فَقُتِل » (61) . ونقل إلينا ابن الاثير صوراً تاريخيّة دامية عن أحداث ووقائع وقعت في البصرة بعد الصلح بين الحسن (ع) ومعاوية قال : « فلمّا استخلف زياد سمرة على البصرة أكثر القتل فيها ، فقال ابن سيرين : قتلَ سمرةُ في غيبةِ زياد هذه ثمانية آلاف ، فقال له زياد : أتخافُ أنْ تكونَ قتلتَ بريئاً ؟ فقال : لو قتلتُ معهم مثلهم ما خشيتُ . وقال أبو السواري العدوي : قتل سمرةُ مِن قومي غداةً واحدةً سبعةً وأربعين كلّهم قد جَمَعَ القرآن » (62) . هذه صور دامية من صور تلك الفترة التاريخية ، تحكي لنا عن طبيعة السلطة وأسلوبها في التعامل مع أبناء الاُمّة ، ومع قوى المعارضة سواء الّتي كانت توالي أهل البيت أو الّتي تتحرّك بشكل مستقل ضدّ السلطة الحاكمة . ونقل المؤرِّخون صوراً دعائية مضادة ومعادية للمعارضة الّتي كان يقودها الحسن والحسين (ع) سبطا رسول الله محمّد (ص) ، وخطباً استفزازية كانت السلطة المركزية قد تبنّتها ، فقد تبنّى الحزب الاموي تشويه شخصية الامام عليّ بن أبي طالب (ع) وشنّ حملة تضليلية ضدّه ، وإعلان سبّه والنّيل منه على منابر الجمعة والجماعة ، فأثارَ هذا العمل مشاعر الاُمّة بشكل عام ، والحسن والحسين وأنصارهم والصّحابة التابعين الّذين عرفوا فضل الامام عليّ ومقامه وجهاده وعدله وعلمه وأدبه ، بشكل خاص . فقد نقل المسعودي حادثة جرت بين معاوية وسعد بن أبي وقاص تصوِّر تبنِّي معاوية لهذه الخطّة الدعائية ، ورفض طلائع الاُمّة وأخيار الصحابة لها . قال : « وحدّث أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري ، عن محمّد بن حميد الرّازي ، عن أبي مجاهد ، عن محمّد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، قال : لمّا حجَّ معاوية طافَ بالبيت ومعهُ سعد ، فلمّا فرغَ انصرف معاوية إلى دار النـدوة ، فأجلسه معه على سريره ، ووقع معـاوية في عليّ وشرع في سبِّه ، فزحف سـعد ثمّ قال : أجلستني معـك على سريرك ثمّ شرعت في سبِّ عليّ (ع) ، والله لان يكون فيَّ خصلة واحدة مِن خصال كانت لعليّ أحبّ إليَّ مِن أن يكون لي ما طلعتْ عليه الشمس ، والله لان أكونَ صهراً لرسول الله (ص) وأنّ لي من الولد ما لعليّ أحبّ إليَّ مِن أنْ يكونَ لي ما طلعتْ عليه الشمس ، والله لان يكون رسول الله (ص) قال لي ما قاله يوم خيبر : (لاعطينّ الرّاية غداً رجلاً يُحِبُّهُ اللهُ ورسولُهُ ، ويُحِبُّ اللهَ ورسولَهُ ، ليسَ بِفَرّار ، يفتحُ اللهُ على يديه) أحبّ إليَّ مِن أنْ يكون لي ما طلعتْ عليه الشمس ، والله لان يكون رسول الله (ص) قال لي ما قال له في غزوة تبوك: (ألا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أ نّه لا نبيّ بعدي) أحبّ إليَّ مِن أن يكون لي ما طلعتْ عليه الشمس ، وايمُ اللهِ لا دَخلتُ لك داراً ما بقيتُ ، ثمّ نهض » (63) . ونقل ابن الاثير : «وكان بُسْر بن أبي أرطاة عند معاوية فنال من عليّ ، وزيد بن عمر بن الخطّاب حاضر ، واُمّه اُمّ كلثوم بنت عليّ ، فَعَلاهُ بالعصا وشَجَّه» (64) . وذكر أيضاً : «ولمّا وُلِّيَ المغيرةُ الكوفةَ استعمل كثيرَ بن شهاب على الرَّي ، وكان يُكْثِرُ سَبَّ عليّ على منبر الرَّي ، وبقي عليها إلى أن وُلِّيَ زياد الكوفة فأقرّه عليها» (65) . «وكان زياد قد جمع الناس بالكوفةِ ببابِ قصرِهِ يُحرِّضهم على لعنِ عليّ ، فمن بيَ ذلك عرضَهُ على السيف» . وبقيت هذه الحملة ضدّ عليّ بن أبي طالب (ع) حتّى جاء عمر بن عبدالعزيز فأمر بتركها وقام بتطهير الجهاز الحكومي القائم قبله . ونقل المسعودي : « وكان عمر في نهاية النُّسك والتواضع ، فصرف عمّال مَنْ كانَ قبله من بني اُميّة ، واستعمل أصلَحَ مَن قَدِرَ عليه ، فسلك عمّالُهُ طريقتَهُ ، وتركَ لعنَ عليّ (ع) على المنابر ، وجعلَ مكانه ، (رَبَّنا اغفِر لَنا ولاخواننا الّذينَ سَبَقونا بالايمانِ ولا تَجْعَل في قُلوبنا غلاًّ للّذينَ آمَنوا ، رَبَّنا إنَّكَ رَؤوفٌ رَحيم ) . وقيل بل جعل مكان ذلك : (إنّ اللهَ يأمُرُ بالعَدْلِ والاحْسانِ وإيتاءِ ذي القُرْبى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْي ) . وقيل بل جعلهما جميعاً ، فاستعمل الناس ذلك في الخطبة إلى هذه الغاية » (66) . وإذا تركنا هذه الاسباب والعوامل الّتي أجّجت نار الثورة وحرّكت قوى المعارضة، والّتي كانت تدعو إلى تطبيق أحكام العدل والمساواة الّتي نادى بها الاسلام ، واحترام إرادة الاُمّة ، والالتزام الكامل بقيم الاسلام ومبادئه في الحكم والسياسة والتعامل مع الاُمّة . إذا تركنا ذلك ودرسنا الاوضاع الاقتصادية ، وكيف كان الجهاز الحاكم يعطِّل قوانين التوزيع الاقتصادي الّتي نادى بها الاسلام ؟ وهي قوانين تنصُّ على المساواة في العطاء وتحريم الاحتكار ووجوب الكفالة والضّمان الاجتماعي للطبقات الفقيرة ومكافحة الفقر ، سنجد حافزاً ومحرّكاً قويّاً للثورة والتحرّك ، حرّك جماهير الاُمّة وحفّزها للاستنجاد بالحسين (ع) والتوجّه نحوه وهو الحافز الاقتصادي بالاضافة إلى الحافز الامني والسياسي والحوافز الاُخرى . فقد شعرت الطبقات الضعيفة بضياع حقوقها وانتشار الفقر بين صفوفها ، في حين تتكدّس الثروة بيد فئة وطبقة معيّنة ، والقرآن ينادي : (وَا لَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَا لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم). (التّوبة/34) (مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ا لْقُرَى فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ا لْقُرْبَى وَا لْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ا لاَْغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ ا لْعِقَابِ ) . ( الحشر / 7 ) لقد وصفَ لنا التاريخ التركيب الاقتصادي لتلك الفترة من حياة المجتمع واضطراب موازين التوزيع الاقتصـادي فيه ، فذكر أرقـاماً لثروة أفراد كانت تعتبر في تلك المرحلة ثروات طائلة . ذكر مثلاً أسماء أشخاص استفادوا على امتداد الظروف السياسية الّتي خلقها توغّل الحزب الاموي في السلطة في فترة من عهد الراشدين وحتّى عهد يزيد . فقد ذكر المؤرِّخون مثلاً : «أنّ عَمْرَو بن العاص والي مصر في عهد معاوية بلغت ثروته من العَين ثلاثمائة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار ، ومن الوَرق ألف درهم ، وغلة مائتي ألف دينار بمصر ، وضيعته المعروفة بمصر بالوهط قيمتها عشرة آلاف ألف درهم» . «وأنّ عبدالرّحمان بن عوف قُسِّمَ ميراثه على ستّة عشر سهماً فبلغ نصيب كلّ امرأة له ثمانين ألف درهم» (67) . «وحصل مروان بن الحكم على خمسمائة ألف دينار من موارد أفريقيّة» (68) . «وحصل ابن العاص على هديّة مقدارها مائة ألف درهم» (69) . «كما حصل عبدالله بن خالد بن أسيد على هديّة مقدارها أربعمائة ألف درهم» (70) . «وقُدِّرت ثروة يَعلى بن منية بخمسائة ألف دينار وديوناً على الناس وعقارات غير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار» (71) . «وسعد بن أبي وقّاص ترك يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم» (72) . «وذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات خَلّفَ مِنَ الذهبِ والفضّةِ ما كان يُكسَر بالفؤوس غير ما خَلّفَ مِنَ الاموالِ والضِّياعِ بقيمة مئة ألف دينار» (73) . إنّ هذه الارقام والاحصائيّات الّتي نقلها إلينا المؤرِّخـون كوّنت طبقة مُترَفة متميِّزة ، وهي ليست هذا النفر وحسب ، بل هذه نماذج من الوضع الاقتصادي الّذي بدأ يفرزُ طبقتين في المجتمع الاسلامي ، طبقة فقيرة محرومة ، وطبقة غنيّة ثريّة تملك الاموال والاراضي والعقار ، فنمت هذه الثروةُ ووُرّثت ، فأثار هذا الوضع الرأي العام الاسـلامي الّذي ألِفَ المسـاواة في التوزيع ، وآمن بحركة المال وتحريم الكنز والاحتكار والطّبقية . فكانت هذه الاوضاع الاقتصادية هي أحد الاسباب الّتي أجّجت نار الثورة ، وجعلت الطبقات المحرومة ومَن ينادون بالمساواة يتّجهون إلى الحسين (ع) ، باعتباره القائد الّذي يستطيع أن يطبِّق أحكام الاسلام وقوانينه كما ألفوها أيّام رسول الله (ص) .   لماذا الثورة ؟ ! للاجابة على هذا السؤال الكبير ينبغي أن نضع نصب أعيننا الحقائق الاتية : أوّلاً : تولّى يزيد بن معـاوية تدبير شؤون الاُمّة وهو غِرٌّ منحرف له خطورته على مستقبل الاُمّة ، ونَزِقٌ لم يحظ بأي نصيب من التربية الاسلامية السليمة ، فقد نشأ في بيت لم تُشرِقْ شمس الهداية الاسلامية في آفـاقه قطُّ ، ومن هنا فليس مِنَ الغرابة بمكان أن تؤكِّد النصوص التاريخيّة تعاطي يزيدُ الخمر ، والقمار ، وسائر أنواع السلوك المغاير للسلوك الاسلامي (74) . يزيد هذا ـ بشذوذه وتردِّيه ـ فضلاً عن جهله بالخبرات العملية للمهام الّتي اُنيطت به تولّى زعامة شؤون المسلمين !!! وهذا ما أعطى كلّ الفرص لتكريس كلّ ألوان الانحراف عن الرسالة الغرّاء ، ومقوّماتها الاساسية ، بَيْدَ أنّ القوى المخلصة للرسـالة ـ والحسين إمامها ـ قد استفادت كثيراً من نقاط الضعف ، بل ومن التردّي المفضوح في شخصية هذا الحاكم، بالنظر إلى أنّ قطاعات واسعة في الاُمّة بدأت تعي إلى حدّ الوضوح منطلقات هذه الشخصية المغايرة للشخصية الاسلامية ، ممّا منح الرافضين للتحريف فرصة تبديد الجمود الّذي انتاب الذهنيّة العامّة بممارسة نوع من الايقاظ والتحريك لقطاعات الاُمّة باتّجاه المصلحة الاسلامية العليا ، الّتي باتت تفرض اللجوء إلى العنف على أعلى المستويات ، فها هو الحسين بطل الاسلام المخلّد يخطب في الجيش الاموي بقيادة الحرّ بن يزيد الرِّياحي(75) ، حين التقى معه في أرض العراق موضِّحاً أخطر جوانب الانحراف في الحكم الاموي : « أ يُّها الناس ! إنّ رسول الله (ص) قال : مَن رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاًّ لحرام الله ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله (ص) ، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان ، فلم يغيِّر ما عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ; ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعةَ الشّيطان ، وتركوا طاعة الرّحمن ، وأظهروا الفسادَ ، وعطّلوا الحدودَ ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرامَ الله ، وحرّموا حلالَه » . وبهذه التصريحات والخطب وسواها يلقي الامام (ع) أضواء كاشفة على حقيقة الحكم الاموي ، ويستحث العواطف ويشحذ الهمم لنفض غبار الجهل بالواقع عن كاهل الاُمّة ، ورفض كل صيغ الاستسلام غير المشروع لحكمهم . ثانياً : إنّ المستوى العام للاُمّة كمجموع ، دون المستوى المطلوب في مواجهة تيار الانحراف العاتي، وهذه حالة مَرَضية برزت بشكلها المؤلم بالميل إلى الراحة والسكون والاتّجاه نحو المصلحة الخاصّة وغياب الروح الجهادية عن المسرح الاجتماعي ، وقد تبلورت تلك الظاهرة الخطيرة ، بتكديس الاموال الطائلة لدى القيادات العليا في المجتمع الاسلامي ، بشكل يثير الدهشة (76) . ولئن كان أصحاب النفوذ في الاُمّة قد استغلّوا نفوذهم لجمع المال ، ومضاعفة الارباح، فإن قطاعات الاُمّة عامّة ، قد ظهر لديها هذا الميل الدنيوي بشكل مفضوح، فعبّر عن نفسه بالاخلاد إلى الرّاحة والطّمأنينة ، كبديل للرّوح الجهادية الّتي تتطلّب ركوب كلّ مشقّة ، وهي حالة تمخّضت عن ربع قرن من الزمان ـ على أقل تقدير ـ تغلّب فيها أصحاب التيّار النّفعي في الاُمّة ، واستحوذوا على مراكز التوجيه فيها . وقد لا يبدو غريباً أن يقف كثير من رجالات المسلمين لابداء نصيحتهم للامام الحسين (ع) إبّان إعلان ثورته ، بعدم مواجهة الحكم الاموي ، خوفاً منهم عليه من الاستشهاد مع إدراكهم الحقيقي للانحراف الاموي من جهة وأحقيّة الامام الشهيد (ع) في التصدِّي للانحراف من جهة اُخرى ، فقد خاطبه (عمر الاطرف) بقوله : «حدّثني أبو محمّد الحسن عن أبيه أمير المؤمنين ، أ نّك مقتول فلو بايعت لكان خيراً لك» . وفاتحه عبدالله بن عمر بن الخطّاب بضرورة عدم التصدِّي لبني اُميّة. كذلك فاتحه عبدالله بن الزُّبير ، هذا فضلاً عن جماعة من أهل بيته (77) . هذه بعض مظاهر غياب الروح النضالية لدى الغالبية العظمى من رجالات المسلمين، أمّا جماهير الاُمّة فقد سرت فيها هذه الروح السلبية بشكل مرعب،فأهل الكوفة مثلاً على ما بذلوه من مواثيق،وأيمان مُغلّظة في وعودهم المتكرِّرة بنصرة الحسين(ع)إنْ هو قَدِمَ إلى مِصْرَهم ـ كما عبّروا في رسائلهم الّتي بعـثوها إليه ـ .أهل الكوفة اُولئك قد تناسوا كل الّذي قطعوه على أنفسهم من تعهّدات ومواثيق أمام موجة الارهاب الّتي مارستها الطغمة المحلية الحاكمة الّتي يتزعّمها ابن زياد،إلى جانب الاموال الّتي بذلها الحكم والوعود والاغراءات العريضة. ولعلّ في كلمة الفرزدق للحسين (ع) حين سأله عن أوضاع الناس في العراق : «قلوبهم معك ، وسيوفهم مع بني اُميّة» أدقّ وصف لغياب الشعور بالمسؤوليّة أمام الله والرسـالة لدى السّـواد الاعـظم ، والّتي كانت مظهراً جليّاً من مظاهر النِّفـاق الاجتماعي الّذي اجتاح الناس كنتيجة طبيعية لسياسة التخريب الامويّة للضمائر ـ كما أسلفنا ـ مما كان عاملاً أساسياً في نقض الناس لبيعة الحسين (ع) . لقد كانت هذه الظواهر سبباً أساسياً من أسباب إعلان الثورة المباركة ، لكي يهزّ الضمائر الميتة الّتي لفّها ضباب التهالك على الحياة الدُّنيا ، لا نّه (ع) كان مُدْرِكاً بشكل قاطع أنّ حالـة الخنـوع الّتي تعيشها الاُمّـة وقتئذ ليس لها أي مبرِّر شرعي على الاطلاق ، بل إنّ الشريعة ذاتها تطرح ابتداءً مفاهيمَ وتصوّرات تُلزِمُ أتباعها بشكل لا غبار عليه برفض الواقع الّذي تغيب فيه شمس العدالة والهداية ، الواقع الّذي يتّخذ التهالك على الحياة الدُّنيا مقياساً وهدفاً ، والركون إلى المتع المادّية والشهوات غايةً ومأرباً ، وهي حقائق ناصعة عبّرت عنها الشريعة المقدّسة في مواضع عديدة من كتاب الله تعالى . فمرّة تشجب الرّكون للحياة الدُّنيا إذا تعارضت مع روح التضحية من أجل الرسالة: (يَا أَ يُّهَا ا لَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاَْرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَـا مِنَ الاخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ا لْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الاخِـرَةِ إِلاَّ قَلِيـلٌ * إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) . ( التّوبة / 38 ، 39 ) ومرّة تجعل الرّكون للظالمين أمراً محظوراً : (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى ا لَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ ) . ( هود / 113 ) ورسالة اُخرى تعلن أنّ المؤمنين هم طوع إرادتها ، معبّأون لمصالحها ، وهم لا يدّخرون وسعاً في الذّود عنها : (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ا لْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ) . ( التّوبة / 111 ) فبناء على هذا الفهم المعمّق لرسالة الله تعالى من قِبَل الحسين (ع) ـ وهو الصورة التطبيقية لدين الله ـ أعلن رفضه الصـارم للواقع المُعاش دون أدنى التفـات إلى ما أبداه القوم من تحفّظات ومخاوف . وبالنظر لوعي الحسـين (ع) لمسؤولياته ، ومدى سلامة خطّه ومنهجه في رفض الواقع ، فليس غريباً بعد ذلك أن يناشد ناصحيه والقلقين عليه ويدعوهم للوقوف إلى جنبه ، والاندماج بخطِّه الّذي هو خط الاسلام الّذي ارتضاه الله لعبادة الصادقين ، كما فعل مع عبدالله بن عمر حين طالبه بالعدول عن رأيه في إعـلان الثـورة بوجه الانحراف الاموي حيث خاطبه بقوله: «إتّق الله يا أبا عبدالرّحمان ولاتَدَعنَّ نصرتي». وهكذا يندفع الحسين (ع) بحرارة وعنف لتبديد ضباب الهجعة الّذي حجب الرّؤية الرسالية وأمات الضمائر زمناً طويلاً ، فعطّل روح الجهاد في الاُمّة لصالح الطّغاة المتسلِّطين على رقابها ، ولغسل الذهنيّة العامّة ممّا علق بها من غبار السياسة الطاغية المتسلِّطة على العقول ، ولاحداث هزّة عنيفة في ضمير الاُمّة لتعي واقعها وما آلَ إليه من إنهيار وتفسّخ وانحراف وضلال . ثالثاً : اطّلاع الاُمّة على المفهوم الاسلامي للامامة الشرعيّة وأبعادها ومنطلقاتها : فإنّ خطورة الدّور الّذي لعبته السياسة الامويّة في المفاهيم الاسلامية لم يأت من القاعدة أبداً ، وانّما انحدر من القيادات العليا الّتي استحوذت على وسائل التوجيه الاجتماعي في الاُمّة ، وهذه مسألة جديرة بالدرس والاستيعاب . لقد كان الحسين (ع) يدرك ذلك أ يّما إدراك ، فبدأ عمله لارشاد الاُمّة إلى مواضع الخطر في الحكم الاموي باعتباره حكماً مغايراً لمفهوم الامامة في مؤسّسـاته ، وأشخاصه ، وهذه مسألة تمثّلها أطروحة الحكم الوراثي الدكتاتوري الّتي وضعها معاوية موضع التنفيذ عند عقده البيعة لابنه يزيد . وبذلك وضع الحجر الاساس لاخطر انعطاف في مسار الحكم الاسلامي امتدّت آثاره السيّئة حتّى يومنا الحاضر وخدمت أعداء الاسلام بما يفوق حدَّ التصوّر . وتمشِّياً مع متطلّبات الرسالة الاسلامية والشروط الموضوعية الّتي يشترط توفّرها في الحاكم المسلم ، انطلق الحسين (ع) لبلورة هذه المسألة في ذهنيّة الجماهير المسلمة عن طريق الخطب والبيانات في كل فرصة يجدها مناسبة للبيان ، منها : «أ يُّها الناس ! إنّكم إنْ تتقوا اللهَ وتعرفوا الحقَّ يكنْ أرضى لكم ، ونحن أهل بيت محمّد (ص) أولى بولاية هذا الامر من هؤلاء المدّعـين ما ليس لهم ، والسـائرين بالجور والعدوان» (78) . ومنها قوله : «أمّا بعد ، فإنّ الله اصطفى محمّداً (ص) على خلقه وأكرمَهُ بنبوّتِهِ واختارَهُ لرسالتِهِ ، ثمّ قبضَهُ إليه ، وقد نصحَ لعباده وبلَّغَ ما اُرسلَ به (ص) ، وكُنّا أهلَهُ وأولياءَهُ وأوصياءَهُ وورثتَهُ وأحقَّ الناس بمقامهِ في الناس ، فاستأثرَ علينا قومُنا بذلك ، فرضينا ، وكرهنا الفرقةَ ، وأصبنا العافيةَ ، ونحنُ نعلم أ نّا أحقُّ بذلك الحقّ المستَحِقّ علينا ممّن تولاّه ، وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب ، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيِّه ، فإنّ السنّةَ قد اُميتَتْ والبِدْعَةَ قد اُحْيِيَتْ ، فإن تسمعوا قولي أهدِكُم إلى سبيل الرشاد» (79) . بهذه الكلمات المدوِّية ، وسواها كشف الامام الحسين (ع) النقاب عن أنّ بني اُميّة لا يصلحون للحكم ، نظراً لمخالفتهم للخطّ الاسلامي المرسوم ، كما أطْلَعَ الاُمّة على النهج الّذي يجب أن يلتزم به الحاكم الاسلامي ، والصفات الاسلامية ممّا هو متوفِّر في شخصيّته هو (ع) باعتباره غرس النبوّة ، ووليد الرسالة وتلميذ الوحي المقدّس . وهكذا كان إبراز المفهوم الاسلامي للامامة في الاغراض الاساسيّة لنهضة الحسين (ع) يصحبه فضح الخلافة الاموية المتبنّاة . رابعاً : الانسان في الرسالة الاسلامية لا تُبرِّر له الرسالة ـ بحال ـ النكوص عن واجبه كإنسان رسالي ، فهو في رحال الرسالة ليس فرداً مستقلاًّ بذاته ، وإنّما هو فرد مندمج في رسالة يستجيب لمطالبها ، ويفي بالتزاماته نحوها ، ويضحّي إذا حزب الامر من أجلها ; وما فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وغيرها إلاّ ترجمة صادقة لهذه الروح الّتي يفيضها الاسلام الحنيف على أتباعه ، بيد أنّ هذه المسألة تتناسب تناسباً تصاعدياً مع ارتقاء المرء في الخط المثالي للرسالة الالهيّة . والحسين باعتباره شبل عليّ وحفيد محمّد (ص) ، ووليد الرسالة ، كان صفحة نقيّة من صفحات الرسالة ، وترجمة حيّة لكل منطلقاتها وتصوّراتها ; الامر الّذي جعله أوّل ملبٍّ لنداء الرسالة في عصره ، ليفي بذلك بالتزاماته نحوها ، وهكذا كان . على أنّ وفاءه بالتزاماته نحو شريعة الله تعالى كان يفرض سلوك منهج الثورة ، ولا سبيل سواه ، لا نّه بدون الثورة لا يُرتجى أيّ إصلاح ، وبيان ثورته (ع) الاوّل يُجسِّد هذه الحقيقة بكل مدلولاتها الايحابيّة : «إنِّي لم أخْرِجْ أشِراً ، ولا بَطِراً ، ولا مُفْسِداً ، ولا ظالِماً ، وإنّما خرجتُ لطلبِ الاصلاحِ في اُمّةِ جدّي (ص) ، اُريدُ أنْ آمرَ بالمعروفِ ، وأنهى عَنِ المُنْكَرِ ، وأسيرَ بسيرةِ جدِّي وأبي عليّ بن أبي طالب» . وهكذا يكون قد أدّى فريضةً يرى نفسه مُلزَماً بإتيانها باعتباره أطيبَ غرس للرسالة في عصره ، وأحرصَ شخص على الحفاظ عليها . هذه هي المبرِّرات الاساسيّة الّتي منحت الحسين (ع) وأصحابه حقّ إعلان الثورة الظافرة ، مدوِّيةً في دنيا الناس ، مخلِّدةً الاسلام ، ملهمةً الثوّار عبر الاجيال للذّود عن الاسلام والصّمود في معارك الجهاد المقدّس . في المدينة المنوّرة أدرك الحسين (ع) خطّة الحزب الاموي ، وعلم أنّ محنة سياسية مروّعة ستحل بالاُمّة ، وانّ واجبه الشرعي ، يستنهضه كقائد وإمام ، وأنّ الاُمّة لا تتّجه في محنتها إلى غيره ، لقد أصبح المُقامُ في المدينة المنوّرة غيرَ مُجْد ، والوضع السياسي متوتِّراً ، والرّأي العام يعاني من اضطراب وبلبلة ، والعهد الّذي بين معاوية والحسن (ع) قد ضُرِبَ به عرض الحائط ، ولم يَفِ معاوية بن أبي سفيان بشيء منه ، والوليد ومروان يلحّان بالبيعة عليه ، فأرسلا إليه مرّة ثانية رجالاً يدعونه للحضور فقال لهم : «أصبحوا ثمّ ترون ونرى» (80) . لذا قرّر الحسين (ع) الحركة السريعة ، والمبادرة لاتّخاذ الاجراء المناسب للوضع السياسي الخطير الّذي نشأ من تسلّم يزيد شؤون السلطة ومقدّرات الاُمّة ; خلافاً للعهد الّذي وقع بين الامام الحسن (ع) السبط وبين معاوية أوّلاً ; وخلافاً للاسلوب والطريقة الّتي ألفها المسلمون ثانياً ; وعدم لياقة يزيد لقيادة الاُمّة ثالثاً ; ولتسلّط الحزب والاُسرة الامويّة على السلطة رابعاً ; وللانحراف عن مبادئ الاسلام وقيم العدل والمساواة وحلول التسلّط الشخصي بدلاً من سيادة القانون خامساً . لهذه الاسباب وأمثالها قرّر الحسين (ع) الحركة السريعة ، والتوجّه إلى مكّة المكرّمة ليعدّ للامر عدّته ، ويهيِّئ للاحداث الجديدة الاستعدادات المناسبة ، لذلك جمع الحسين (ع) أهله وحاشيته وأصحابه وانطلق إلى مكّة المكرّمة في اللّيلة الثانية من اجتماعه بالوليد والي المدينة ومروان بن الحكم أحد أعمدة السلطة الامويّة في المدينة وأبرز مخطِّطي سياستها العامّة . من هنا بدأت الانطلاقة الكبرى ، وبدأ نهر الدم الخالد يجري في أَبَدِ التاريخ ، انطلقت مسيرة الحسين (ع) وهو يعلم أنّ الاُمّة قد دخلت مرحلة حضارية وسياسية صعبة، لانّ الحزب الاموي قد أحكم قبضته على الاُمور، وأنّها بحاجة إلى هزّة وجدانية عنيفة وإيقاظ سياسي فاعل . إنّ الاحداث الكبرى ، والهزّات الوجدانية العظيمة ، والتحوّلات الاجتماعية المُغيِّرة ، لا يمكن أن يُحْدِثَها إلاّ رجالٌ عظماء وإلاّ شخصيّات حدِّيّة تعيش في وجدان الاُمّة وتتفاعل مع ضميرها ، وتؤثر في حسّها ووعيها ، ولم يكن في تلك المرحلة من شخصية تملك هذه المؤهّلات إلاّ الحسين (ع) ، فهو يعلم أ نّه القادر على هزّ الحكم الاموي وتفجير البركان تحت عرش يزيد ، وأ نّه القادر على كلتا الحُسنين ، النصر أو الشهادة ، وأنْ يُحْدِثَ النّقلةَ والهزّةَ والحركةَ ، وأنْ يختطّ للاُمّة درب الجهاد والثورة على الحاكم الظالم ، فإنِ انتصر سيقيم عدل الاسلام ، ويُطبِّق أحكام الشريعة وقيم الحق الّتي نادت بها ، وإنِ استشهد فسيبقى شلاّل الدم المقدّس يجري عبر وديان الحياة ، يخصب الثورات ، ويسقي أغراس الشهادة . كان الموكب القليلُ العددِ ، العظيمُ الارادة ، العبقريُّ التصميم ، الّذي زحف به الحسين من مدينة جدِّه الرسول الخالد محمّد (ص) إلى مكّة ليقرِّر هناك مستقبل المسيرة ، وثيقةً خالدةً من وثائق الرسالة الاسلامية المقدّسة ، وأساساً من اُسس التشريع والفكر السياسي ، لقد قرّر مبدأً سياسياً ، وأعلن أصلاً عقائدياً وقانونياً من اُصول الاسلام السياسية ، وكيف ينبغي أن يكون الموقف واُسلوب التعامل مع الحاكم المستبد ، والظالم المتسلِّط . لقد ثبّت مبدأَ الانتفاضة والثورة ، وأسبغَ صفةَ الشرعية الكاملة لاوّل مرّة في تاريخ الاسلام على مثل هذا الموقف وتلك المواجهة للسلطة الجائرة ، لقد اجتمعت الكوكبة من آل البيت النبوي (ع) حول الحسين (ع) ، وشدّت الرِّحالَ ، وسلكت (81)درب الكفاح الطويل ، فقد اصطحب الحسين (ع) معه إخوته وأبنـاءه وبني أخيه وجلّ أهل بيته ، إلاّ محمّد بن الحنفية ، وقد عَظُمَ الامرُ عليه ، واسـتولى عليه حبّ الحسين (ع) ، فوقف بين يديه ينصحه : « تَنَحَّ ببيعتِكَ عن يزيد ، وعن الامصار ما استطعتَ ، وابعثْ رُسلَكَ إلى الناس ، وادعُهُم إلى نفسك ، فإن بايعوا لكَ حمدتَ الله على ذلك ، وإنْ أجمعَ الناسُ على غيرِك لم يُنْقِصِ اللهُ بذلك دينَكَ ولا عقلَكَ ، ولا تذهب به مروءتُكَ ولا فضلُكَ ، إنِّي أخاف أن تأتي مصراً وجماعة من الناس فيختلفوا عليك ، فمنهم طائفة معك واُخرى عليك فيقتتلون فتكون لاوّل الاسنة ، فإذا خيرُ هذه الاُمّةِ كلّها نفساً أباً واُمّاً أضيعُها دماً وأذلّها أهلاً . قال الحسين (ع) : فأين أذهبُ يا أخي ؟ قال : انزل مكّةَ فإنِ اطمأنّتْ بكَ الدار فبسبيل ذلك ، وإنْ نأتْ بكَ لحقتَ بالرِّمالِ وشعف الجبالِ ، وخرجتَ من بلد إلى بلد حتّى تنظر إلى ما يصير أمر الناس ، ويفرق لك الرأي(82) ، فإنّك أصوب ما يكون رأياً ، وأحزمه عملاً حين تستقبل الاُمور استقبالاً ، ولا تكون الاُمورُ عليك أبداً أشكلَ منها حينَ تستَدْبِرُها ، قال : يا أخي ! قد نصحتَ وأشفقتَ وأرجو أن يكونَ رأيُكَ سديداً ، وموفّقاً إن شاء الله ، ثمّ دخل المسجد وهو يتمثّل بقول يزيد بن مفرّغ : لا ذَعرتُ السّوامَ في شفقِ الصُّبـ ـحِ مغيراً ولا دُعيتُ يزيدا يوم اُعطى مِنَ المَهانَةِ ضِيما والمنايا يَرصُدنَني أنْ أحيدا » (83) وتحدّث عمر بن عليّ بن أبي طالب (أخو الحسين) معه ونعاه إلى نفسه ، فقد نقل السيِّد ابن طاووس ; قال : «وحدّثني جماعة منهم أشرت إليه بإسنادهم إلى عمر النسّابة رضوان الله عليه فيما ذكره في آخر كتاب الشافي في النّسب بإسناده إلى جدِّه محمّد بن عمر قال: سمعتُ أبي ، عمر بن عليّ بن أبي طالب (ع) يحدِّث أخوالي آل عقيل قال : لمّا امتنع أخي الحسين (ع) عن البيعة ليزيد بالمدينة دخلتُ عليه فوجدتُهُ خالياً ، فقلت له : جُعِلتُ فِداكَ يا أبا عبدالله حدّثني أخوك أبو محمّد الحسن عن أبيه (ع) ثمّ سبقتني الدمعة ، وعلا شهيقي ، فضمّني إليه ، وقال : حدّثك أنِّي مقتول ، فقلت : حوشيت يا ابن رسول الله ، فقال : سألتُكَ بحقِّ أبيكَ بِقَتلي أخبرَكَ ؟ فقلت : نعم ، فلولا ناوَأتَ وبايعتَ ، فقال : حدّثني أبي ، أنّ رسول الله (ص) أخبره بقتله وقتلي وأنّ تربتي تكونُ بقربِ تُربتِهِ ، فتظنُّ أ نّك علمتَ ما لم أعلمْهُ ، وأ نّه لا اُعطي الدّنِيّةَ مِن نفسي أبداً ، ولَتَلْقَيَنَّ فاطمةُ أباها شاكية ما لَقِيَتْ ذرّيتُها مِن اُمّته ، ولا يدخل الجنّة أحد آذاها في ذرِّيّتها» (84) . لم يجد الحسين (ع) مفرّاً من الخروج من المدينة والتحرّك في الافاق ، والاحتكاك بالرأي العام ، واستطلاع الاتّجاه السياسي للاُمّة ، ولم يُثْنِ عزيمتَهُ ، ولم يوقِفْ زحفَهُ كلّ الّذين أشفقوا عليه ، وتخوّفوا عليه من القتل ، فقد كان موقفه عزيمة لاتلين ، وإرادته جبلاً لا ينهدّ ، فقد تشبّثت به اُمّ سَلَمَة زوجة رسـول الله وناشـدتهُ أن لا يخـرج ، وأخبرته عن جدِّه رسول الله (ص) أ نّه يُقتَل ، فاعتذر لها وقال : «يا اُمّاه وأنا أعلم أنِّي مقتول» . ووفد عليه عبدالله بن عمر بن الخطّاب ، وطلب منه العـدول عن رأيه والبيعة ليزيد ، فأبى الحسين (ع) ورفض إلاّ الخروج والمواجهة ، فلم يكن الامر الّذي آلت إليه الاُمّة ليسمحَ للحسين بالسّكوت ، لذلك ردّ على عبدالله بن عمر : «يا أبا عبدالرّحمان ! أما علمتَ أنّ مِنْ هوان الدُّنيا على الله أنّ رأس يحـيى بن زكريّا اُهدي إلى بَغِيّ من بغايا بني إسرائيل ، وأنّ الله أمهلَ بني إسرائيل ولم يعاجِلْهُم بالعقوبة» (85) .   وَداعاً يا رسول الله ولم يغادر الحسين (ع) المدينة المنوّرة حتّى زار قبر جدّه رسول الله (ص) زيارة المودِّع الّذي لا يعود ، فقد كان يعلم أن لا لقاء له مع مدينة جدّه ولن يزور قبره بعد اليوم، وأنّ اللّقاء سيكون في مستقر رحمة الله، وأ نّه لن يلقى جدّه إلاّ وهو يحمل وسام الشهادة، وشكوى الفاجعة. وقف الحسين (ع) إلى جوار القبر الشريف فصلّى ركعتين ثمّ وقف بين يدي جدّه العظيم محمّد (ص) يناجي ربّه : «اللّهمّ ! هذا قبر نبيِّك محمّد (ص) ، وأنا ابن بنت نبيِّك ، وقد حضرني من الامر ما قد علمتَ، اللّهمّ! إنِّي اُحِبُّ المعروفَ، واُنكِرُ المُنكرَ، وأنا أسأ لُكَ يا ذا الجلال والاكرام بحقِّ القبرِ ومَنْ فيه إلاّ ما اخترتَ لي ما هو لك رِضىً ولرسولك رِضى»(86). وهكذا كانت عزيمة الحسين(ع)إصراراً ومضاءً، قرارَ الرِّجال،وحَزْمَ القائد الّذي لا يلين،وكيف يلينُ وقد أصبحَ مفزَع الاُمّـة،وملاذَ الرِّسالة؟والعلامةَ الفارقة،ومُفترَق المسير؟ إذن نحو مكّة ، إلى الحرم الامن ، ليبدأ التحرّك وتبدأ الانطلاقة من هناك . اتّجه ركبُ الحسين (ع) نحو مكّة(87) ، وسارت الكوكبة الرائدة في طريق الجهـاد والشهادة تَغُذُّ السّيرَ ، وتقطعُ الفيافيَ والقِفارَ ، سار الحسين (ع) ومعه نفر من أهل بيته وأصحابه وبرفقتِهِ نساؤه وأبناؤه واُخته زينب الكبرى وهو يقرأ قول الله تعالى : (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ ا لْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) . (88) وفي أثناء المسير ، وفي الطريق الموصل إلى مكّة المكرّمة ، لقيه عبدالله بن مطيع فأشفق على الحسين (ع) ، وتملّكه الخوفُ من غيابِ شخص الحسين (ع) ، وخُلوِّ الميدان من إمام وقائد رسالي ليس له في عصره من مثيل . لقد كانت الامال تُعقد على الحسـين (ع) ، والقلوب تتعلّق به ، والاُمّة ترجو حركته وثورته ، فهو الامل والمفزع لهذه الاُمّة في عصره ، والقوّة الّتي تستطيع أن تجابه السلطة اليزيدية الغاشمة ، لذلك كان عبدالله بن مطيع يخاطبه : «فَوَالله لئن هلكتَ لَنُسْتَرَقَنَّ ((89)) بعدَك» . لقد كان عبدالله بن مطيع يعـبِّر برأيه وكلمته عن الاتّجاه السائد للرأي العام الاسلامي ، فقد كان تعبيره ورأيه شريحة معبِّرة عن وضع اجتماعي عام ، كان يشعر بالاستعباد والذلّة والاستبداد الاموي ، ويرى في شخص الحسين السبط (ع) ، المنقذ والمحرِّر والرّائد ; لذلك يؤكِّد رأيه بالقسم : «فَوَالله لئن هلكت لَنُسْتَرَقَنَّ بعدَك» . إنّ هذا الرّجل يسأل الحسين (ع) ، ويريد أن يستطلع رأيه ، ويعرف موقفَهُ ، فقد أصبح موقف الامام الحسين (ع) موقف اُمّة . يسأل : « جُعلت فِداك ، أين تريد ؟ ـ أمّا الان فمكّة ، وأمّا بعد فإنِّي أستخيرُ اللهَ ، قال : خارَ اللهُ لك ، وجَعَلَنا فِداكَ ، فإذا أتيتَ مكّةَ فإيّاك أن تقربَ الكوفةَ ، فإنّها بلدةٌ مَشؤومةٌ ، بها قُتِلَ أبوكَ وخُذِلَ أخوكَ واغتيلَ بطعنة كادت تأتي على نفسه ، إلزَمِ الحَرَمَ ، فإنّكَ سيِّدُ العربِ ، لا يَعْدِلُ بكَ أهلُ الحجاز أحداً ، ويتداعى إليكَ الناسُ مِن كلِّ جانب ، لا تُفارِقِ الحَرَمَ ، فِداكَ عمِّي وخالي ، فوَالله لئن هَلَكْتَ لَنُسْتَرَقَنَّ بعدَك » (90) . المسافة شاسعة ، والارض مديدة ((91)) ، ورمال الصّحراء توقدُها حرارةُ الشمس اللاّفحة ، وقطار الحسين (ع) يخترقُ قلبَ الصّحراء ، ويجتازُ كثبانَ الرِّمال ، ولوافِحَ الحَصى . وهكذا سارت كواكب الفداء وطلائع الجهـاد تيمِّم وجهها شطر البيت الحرام ، لتنتهي إلى أرض الطّفوف ، إلى كربلاء ، إلى مثوى الخالدين ، ومنار الاحرار يقودها الحسينُ سالكاً الدّربَ الّذي اعتادَ الناس سلوكَهُ ، متحدِّياً السلطةَ والقوّةَ والمطاردةَ، مذكِّراً بهجرةِ أبيه عليّ بن أبي طالب من مكّة إلى المدينة يوم خرج ضُحىً بركبِ الفواطم ، متحدِّياً كبرياء قريش وصلفها ، خلافاً لما اعتاده المهاجرون من التستّر بظلامِ اللّيلِ ، وسلوكِ المنعطفاتِ ، والطّرقِ الغريبة على المارّة . إنّ روح عليّ ما زالت تسبحُ بين جنبيه، وقلبُ ذاك البطل الشُّجاع يربض كالجبل في أعماق . لقد استشعر أهل بيته وأحباؤه الخطرَ، وخافوا عليه من الملاحقة ومضايقة السّلطة ، كما فعلت قبل يومين مع ابن الزُّبير فطاردتْهُ حينَ خرجَ فلم تلحقْ به لا نّه سلكَ طريقاً غيرَ الطريق المألوف، فأشاروا عليه أنْ يهجُرَ الطّريق السّالكة إلى طريق آخر ، ويبتعد عن العيون ، فرفض الحسين (ع) ، وأصرّ على أن تكون الرّحلة عملاً إعلاميّاً، وحركة مضادّة، واحتجاجاً واضحاً، ومحفزاً مثيراً لضمير الاُمّة وإحساسها، يلتقي به الرّكبانُ ، ويشاهِدُهُ المسافرون ، ويعلم بهجرته الناس ، ليتساءلوا وليعرفوا ، لماذا هجر الحسين مدينة جدّه رسول الله (ص) وهو سيِّدها وابنها وأعزّ أهلها ؟ ليتحدّث الناس وليكثر الحديث حول الرِّحلة، ولِتَتَحوَّلَ الهجرة وعملية التغريب هذه إلى عمل إعلامي مضاد للسّلطة ، ليزرعَ الثِّقةَ في نفوسِ الناس ، ويمزِّقَ حاجب الخوف ، ويربِّي روح الصّلابة والتحدِّي الجريء . إنّه قادم على المقاومة ، وعازم على المواجهة ، فلا تردّد ، ولا ضعف ، ولا نكـوص ، لذلك تراهُ يردُّ بإصرار على الّذين قالوا له من أهل بيته : «لو تَنَكَّبتَ الطريقَ الاعظم كما فعل ابن الزُّبير كيلا يلحقَـكَ الطّلبُ ، فقال : لا والله ، لا اُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض» (92) . فسارَ موكبه عَلَماً ينتصبُ على قارعة الطريق ، وصوتاً يُدوِّي في آفاق البيد ، وثورةً تخترقُ قلب الجزيرة ; إنّه الحسين ، وليس في الافاق مَن لا يعرف هذا القائد العظيم . احتشدت محافل المدينة،مجالس أبناء المهاجرين والانصار،وفيهم الصحابة والتابعون، يتحدّثون ويتناجون،لقد رحل ابن رسول الله(ص)،وهجر مدينة جدّه(ص)،إنّه قادم على أمر عظيم،لقد أبى البيعة،ورفض الخنوع لسلطة يزيد،وما عسى الاُمّة أن تنتظر؟ ها هي ديار عليّ والحسين والزّهراء قد أمسى عليها ليل الفراق ، وأحاطتها وحشة البُعْد والغُرْبة ، لقد نأى الحسين (ع) ، وأمستِ المدينةُ موحشة تبكي سيِّدَها الرّاحلَ ، والقلوبُ يعتصرُها الاسى ، والنفوسُ يفترسُها الالمُ ، ويحوطُها الخوفُ والوجل . إنّها تخشى الخذلانَ ، وتتخوّف العاقبةَ ، سيُخذَلُ الحسين (ع) ، وسيُقتَل ، سيغيب عن سماء المدينة نجم ليس بوسع السّماء أن تلمع بمثله . ها هي داره مطفأة الانوار ، وها هو بيته الرفيع أمسى خربة مهجورة ، وها هي شُرُفات الدّار المظلمة عيونٌ حيرى ترقبُ دربَ الحسـين (ع) . لقد كانت بالامس تعمرُها الصّلاةُ ، وتتعالى في أرجائها أصواتُ المتهجِّدين ، ويرى الناس فيها وديعة رسول الله (ص) ، وبضعة الزّهراء ، وبقيّة أهل الكساء ، وقد أمستِ اليومَ صوتَ ناع يبكي الرّاحلين ، وقلبَ آس يَنعَى المغتربين . ها هنا كان الحسين (ع) ، وفي هذه الدّار كان يجتمع أهل البيت (ع) ، ها هنا كان يناجي سُكينةَ ابنتَهُ والرّباب زوجَهُ ويردِّد في حبِّهما : لعَمْرُك إنَّني لاَُحِبُّ داراً تكونُ بها سكينةُ والرّبابُ اُحِبُّهُما وَأَبْذِلُ جُلَّ مالِي وليسَ لِعاتِب عِندي عِتابُ (93) لقد بقيت الدّار هي الاُخرى مَعْلَماً مِن معالم الاحتجاج ، وقلعةً مِن قلاع الصّمود والثّبات ، ولِساناً مِن ألسنةِ الاعلام والتعريف بالقضيّة من يوم هجرها الحسين (ع) ، وحتّى آخر عهدها ، يندبها الشّعراء ، ويناجيها الاُدباء . لقد أصبحت الطّلول تشكو غياب الحسين (ع) ، وتندب الراحلين ، وتحتجب في ظلمة اللّيل البهيم بصمتها الناطق ، وسـكوتها المعـبِّر ، وربوعها الخـالية وشموخها المهيب . وراح ركب الحسين (ع) يطوي الفلاة ، ويُغِذُّ السّير ، حتّى بلغ مكّة المكّرمة ، ودخل أرض البلد الحرام : «ليلة الجمعة لثلاث مَضَيْنَ من شعبان ، دخلها وهو يقرأ قوله تعالى : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلَ ) »(94) .   في الحرم الامن حلّ الحسـين (ع) في مهبط الوحي ومدينة السّلام مكّة المكرّمة ، فنزل في دار العباس بن عبدالمطلـب واستقرّ فيها ليمارس مهامه السـياسية في ظلال الحصانة الشرعية لبيت الله الحرام . كان دخوله مكّة مثيراً مدهشاً ، فقد استقبله المكِّيّون والمعتمرون من الوافدين لبيت الله الحرام وتوافدوا عليه فَرِحينَ به مُرَحِّبين ، سرى نبأ قدوم الحسين (ع) إلى مكّة ، وانتشر خبر خروجه من المدينة ورفضه لبيعة يزيد ، وبدأت الوفود والرسائل تَفِدُ عليه من أرجاء شتّى ، وبدأ يبعث بالكتب والرسل ، ويدعو للثورة وإسقاط سلطة يزيد وخلعِ بيعتِهِ الّتي اُخِذَتْ بالقهر والارهاب والرشاوي والتحايل ، خلافاً لاحكام الشريعة ومنهجها في تعيين الحاكم ، وبدأ التكتّل ، وعُقِدَتِ الاجتماعات في أماكن مختلفة من العالم الاسلامي ، واستبشرت جماهير الاُمّة بتحرّك الحسين (ع) ، وراحتْ تُعقدُ الندوات السياسيّة ، وتُشرحُ فيها الاوضاعُ ، وتُلقَى الخُطبُ ، فقد كان اختيار الحسين (ع) لمكّة المكرّمة ، وانتقاله من المدينة يستهدف : إلفات نظر الرأي العام وإيقاظه وتحريكه ومراقبته واختياره ورصده عن كثب . البدء في التعبئة والاعداد وشرح أبعاد القضيّة السياسيّة على ضوء مبادئ الحكم والسياسة والادارة في الاسلام . التخطيط لقيادة الجماهير وتحديد منطلقات المواجهة من النواحي الزمانيّة والمكانيّة والحدثيّة . البدء بالمواجهة وإعلان إسقاط حكومة يزيد وإقامة الدولة الراشدة تحت قيادة الحسين (ع) ; إقامة الدولة الّتي تقوم على أساس مبادئ القرآن والسنّة النبويّة الشريفة . ونحن نقـرأ هذا كلّه في كتبه ومراسـلاته وحواره وإجـابته على الاسـئلة الّتي طُرحت عليه. وكان من آثار هذا التحرّك ، أن دبّت روح الثورة في العراق ، مركز الحركة السياسية الموالية لاهل البيت آنذاك ، ودعوة الحسين (ع) لقيادته ، فقد اجتمع زعماء المعارضة من أنصار الامام الحسين بن عليّ (ع) في الكوفة في بيت سُليمان بنِ صُرَدِ الخُزاعيّ، واستعرضوا الاوضاع السياسية والاجتماعية وموت معاوية وانتقال السلطة إلى يزيد ، وتباحثوا في مشروع الحسين (ع) وتحرّكه وانتقاله إلى مكّة ورفضه لخلافة يزيد ، وقرّروا نصرة الحسين (ع) والانضواء تحت قيادته وإمامته ، وإعلان الولاء له ومكاتبته بذلك ، فقام سليمان بن صرد الخزاعي ، فألقى خطاباً في الحاضرين قال فيه : « إنّ معاوية قد هلكَ ، وإنّ حسيناً قد تَقبَّضَ على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكّة ، وأنتم شيعتُهُ ، وشيعةُ أبيه ، فإنْ كنتم تعلمون أ نّكم ناصروه ومجاهدو عدوِّهِ ، ونقتل أنفسـنا دونه ، فاكتبوا إليه وأعلِمـوه ، وإنْ خِفتُمُ الفَشَلَ والوَهَنَ فلا تغرّوا الرّجلَ في نفسه ، قالوا : لا ، بل نقاتِلُ عدوَّهُ ، ونقتلُ أنفسَنا دونه ، قال : فاكتبوا إليه ، فكتبوا إليه : (بسم الله الرّحمن الرّحيم . سلام عليك . فانّنا نحمد إليكَ الله الّذي لا إلهَ إلاّ هو . أمّا بعد ، فالحمد لله الّذي قصم عدوّك الجبّـار العنيد الّذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرَها ، وغَصبَها فَيْئَها ، وتأمّرَ عليها بغير رِضىً منها ، ثمّ قتلَ خيارَها ، واستبقى شرارَها ، وأ نّه ليس علينا إمـام ، فأقبل لعلّ الله أن يجمـعنا بكَ على الحقِّ ، والنعمانُ بن بشير في قصرِ الامارةِ لَسنا نجتمعُ معه في جمعة ولا عيد ، ولو بَلَغَنا إقبالَكَ إلينا أخرجناهُ حتّى نُلْحِقَهُ بالشّامِ إن شاء الله تعالى ، والسّلام عليكَ ورحمة الله وبركاته) . وسيّروا الكتابَ مع عبدالله بن سبع الهمداني وعبدالله بن وال ، ثمّ كتبوا إليه كتاباً آخر وسيّروه بعد ليلتين، فكتب الناس معه نحواً من مائة وخمسين صحيفة، ثمّ أرسلوا إليه رسولاً ثالثاً يحثّونه على المسير إليهم ، ثمّ كتب إليهِ شِبَثُ بن ربعي وحَجّـارُ بن أَبْجُر ويزيدُ بن الحـارث ويزيدُ بن رويم وعروةُ بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ومحمّد بن عمير التميمي بذلك » (95) . واستمرّت الكتب والرّسائل تتوارد على الحسين (ع) وصيحات الاستغاثة تنطلق: «ليس علينا إمام ، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ والهُدى» . وفي رسائل اُخرى : «إنّ الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم غيرك ، فالعجلَ العجلَ ، ثمّ العجل العجل» . فكتب الامام الحسين (ع) إلى أهل الكـوفة كتاباً يطالبهم فيه باجـتماع الكلمة ووحدة الصف والوفاء بالعهد ، فلاهل البيت النبوي تجربة مُرّة قاسية عاشوها أيّام الامام عليّ (ع) وولده الحسن في قيادتهم لجماهير العراق ، لذلك كتب إليهم كتاباً ضمنه جواب رسـائلهم ، واعتماد ممثل عنه ، وهو ابن عمّه مسلم بن عقيل ليقيِّم الموقف ويستجلي الحقيقة ، ويمهِّد للبيعة والقيادة . وجاء في الكتاب : «بسم الله الرّحمن الرّحيم.من الحسين بن عليّ(ع)إلى الملا من المؤمنين والمسلمين. أمّا بعد،فإنّ هانياً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم،وكانا آخر مَن قدم عليَّ مِن رسلكم،وقد فَهِمتُ كلّ الّذي اقْتَصَصْتُم وذكرتم ومقالة جُلِّكُم أنّه ليسَ علينا إمام،فأقبِل لعلّ الله أن يجتمعنا بِكَ على الحقِّ والهُدى.وإنِّي باعِثٌ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيـل،فإن كتب إليَّ أنّه قد اجتمع رأي مَلَئِكم،وذوي الحِجى والفضل منكم على مثل ما قَدِمَتْ بهِ رُسلُكُم، وقرأتُ في كتبكم،فإنِّي أقدِم إليكم وشيكاً إن شاء الله،فلعمري ما الامـام إلاّ الحاكمُ بالكتاب،القائمُ بالقسط،الدائنُ بدينِ الحقّ،الحابسُ نفسهُ على ذات الله، والسّلام»(96). ووجّه الحسين (ع) عنايته إلى البصرة، واهتمامه بتعبئة جماهيرها ومخاطبة زعمائها وقادة الرأي والمعارضة فيها ، فكتب إليهم كتاباً جاء فيه : «بسم الله الرّحمن الرّحيم . أمّا بعد ، فإنّ الله اصطفى محمّداً (ص) على خلقه ، وأكرمه بنبوّته ، واختاره لرسالته ، ثمّ قبضه الله إليه ، وقد نصحَ لعباده ، وبلّغَ ما اُرسِلَ بهِ ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، وكنّا أهلَهُ ، وأولياءَهُ ، وأوصياءَهُ ، وورثتَهُ ، وأحقَّ الناس بمقامِـهِ في الناسِ ، فاسـتأثرَ علينا قومُنا بذلك ، فرضـينا ، وكرهنا الفرقة ، وأحببنا العافيـة ، ونحنُ نعلمُ أ نّا أحقّ بذلك الحقِّ المسـتحقّ علينا ممنّ تولاّه . وقد بعـثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب ، وأنا أدعوكم إلى كتابِ اللهِ وسنّةِ نبيِّهِ (ص) ، فإنّ السنّةَ قد اُميتَتْ ، والبِدْعَةَ قد اُحْيِيَتْ ، فإن تسمعوا قولي أهدِكُم إلى سبيلِ الرّشاد» (97) . وهكذا بلغت أخبـار الحـركة الحسـينية البصرة ، وهي معقل من معاقل العمل والتحرّك السياسي ، والحاضرة الاسلامية الكبرى بعد الكوفة آنذاك ، وفيها زعماء للمعارضة ، ورأي عام مواجه للحكم الاموي ، وقد عانت من الولاة أيّام معاوية معاناة شديدة قاسية ، فعُقِدَ اجتماعٌ في بيتِ إحدى النِّساء العاملات في حقل السياسة ، وهي (مارية) والّتي كانت توالي أهلَ البيت ، وقرّروا نصرةَ الحسين (ع) والبيعةَ له ، ومكاتبته بذلك ، فقد ذكر ابن الاثير هذا الاجتماع وسجّله في كتابه الكامل في التاريخ: «واجتمعَ ناس من الشيعة بالبصرة في منزلِ امرأة مِن عبد القيس يُقال لها مارية بنت سعدة وكانت تتشيّع،وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه،فعزم يزيد بن بنيط على الخروج إلى الحسين(ع)،وهو من عبدالقيس،وكان له بنون عشرة،فقال لهم:أيّكم يخرج معي؟ فخرج معه ابنان له:عبدالله وعبيدالله،فساروا فَقَدِموا عليه بمكّة ثمّ ساروا معه فقُتِلوا معه»(98). وحينَ قدم كتاب الامام الحسين (ع) إلى أهل البصرة ، أجاب فريق منهم أمثال يزيد بن مسعود الّذي جمع بني حنظلة وبني سعد وبني تميم ، وخطبهم وحثّهم على نصرة الحسين (ع) وحذّرهم من الخذلان ، ومن جملة ما ورد في خطابه : «وقد قام يزيدُ شاربُ الخمور ورأسُ الفجور يَدّعي الخلافةَ على المسلمين ويتأمّرُ عليهم بغير رضى منهم ، مع قصر حلم وقلّة علم ، لا يَعرِفُ مِنَ الحقِّ موطِئَ قدميه ، فَاُقسِمُ باللهِ قَسَماً مَبروراً لَجِهادُهُ على الدِّين أفضلُ مِن جهاد المشركين، وهذا الحسين ابن عليّ وابن رسول الله (ص) ذو الشرف الاصيل والرّأي الاثيل ، له فضل لايوصف وعلم لاينزف ، وهو أولى بهذا الامر لسابقته وسِنِّه وقِدَمِه وقرابته، يعطفُ على الصّغير ويُحسنُ إلى الكبير ، فَأَكْرِمْ به راعيَ رعيّة ، وإمامَ قوم وجبتْ لله به الحجّةُ ، وبلغتْ به الموعظة ، فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكعوا في وَهدِ الباطل ، فقد كان صَخرُ بن قيس انخذلَ بكم يومَ الجمل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (ص) ونصرته ، والله لايقصِّرُ أحدُكُم عن نصرتِهِ إلاّ أورثه الله تعالى الذلّ في ولده والقلّة في عشيرته، وها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها وادّرعتُ لها بِدرْعها ، مَنْ لَمْ يُقتل يَمُت ، ومَنْ يهربْ لم يَفتْ ، فَأَحسِنوا رحمكم الله ردّ الجواب . فتكلّمت بنو حنظلة فقالوا : يا أبا خالد ! نحنُ نَبْلُ كنانَتِكَ وفُرسانُ عشيرتِكَ ، إنْ رميتَ بنا أصبْتَ ، وإنْ غزوتَ بنا فَتحتَ ، لا تخوض والله غمرةً إلاّ خُضناها ، ولا تَلقى والله شدّةً إلاّ لقيناها ، ننصرُكَ واللهِ بأسيافِنا ، ونَقيكَ بأبداننا ، إذا شئتَ فافعل . وتكلّمت بنو سعد بن يزيد فقالوا : يا أبا خالد ! إنّ أبغض الاشياء إلينا خلافُكَ والخروجُ مِن رأيك ، وقد كان صخرُ بنُ قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا ، وبقي عزّنا ، فأمهلنا نراجع المشورة ، ونأتيك برأينا . وتكلّمت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد ! نحن بنو عامر بنو أبيك . وحلفاؤك لا نرضى إن غَضِبتَ ، ولا نوطن إنْ ظعنتَ ، والامرُ إليك ، فادعنا نُجِبكَ ، وَأْمُرنا نُطِعْكَ ، والامرُ لكَ إذا شِئتَ . فقال : والله يا بني سعد ! لئن فعلتموها لا رفع الله السّيف عنكم أبداً، ولا زال سيفُكُم فيكم، ثمّ كتب إلى الحسين (ع): (بسم الله الرّحمن الرّحيم. أمّا بعد ، فقد وصل كتابك ، وفهمتُ ما نَدَبتَني إليه ، ودعوتَني له من الاخذ بحظِّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك ، وإنّ الله لا يُخلِ الارضَ قطُّ مِن عامل عليها بخير أو دليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجّة الله على خلقه ، ووديعته في أرضه ، تفرّعتم من زيتونة أحمدية ، هو أصلُها وأنتم فرعُها ، فأقدِمْ سعدتَ بأسعدِ طائر ، فقد ذلّلتُ أعناقَ بني تميم ، وتركتُهُم أشدَّ تتابعاً في طاعَتِكَ من الابل الظماء لورود الماء يوم خَمْسها وكظّها ، وقد ذلّلتُ لكَ بني سعد ، وغسلتُ درنَ صدورها بماءِ سحابةِ مُزْن حينَ استهلَّ بَرقُها فَلَمَع) . فلمّا قرأ الحسين (ع) الكتاب قال : «ما لكَ آمنَكَ اُلله يومَ الخوف ، وأعزّكَ وأرواكَ يومَ العطشِ الاكبر» . فلمّا تجهّز المُشار إليه للخروج إلى الحسين (ع) بلغه قتله قبل أن يسير فخرج من انقطاعه عنه ، وأمّا المنذرُ بن الجارود ، فإنّه جاء بالكتاب والرسول إلى عبيدالله بن زياد ، لانّ المنذرَ خافَ أن يكون الكتابُ دسيساً من عبيدالله بن زياد وكانت بحرية بنت المنذر زوجة لعبيدالله بن زياد ، فأخذ عبيدالله بن زياد الرسول فصلبه ، ثمّ صعد المنبر فخطب وتوعّد أهل البصرة على الخلاف وإثارة الارجاف ، ثمّ بات تلك اللّيلة، فلمّا أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد وأسرع هو إلى قصر الكوفة » (99) . وهكذا اتّضح الموقف،وتحدّدت معالِم الحركة الحسـينيّة،وتحرّك الرأي العام، واستقطب الحسين العواطف والمشاعر،وهو يدير الحركة من مكّة المكرّمة خلال شهر شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة وأيّام من ذي الحجّة،حتّى أنّ مسلم بن عقيل رسول الحسين(ع)، حين قرأ رسالة الحسين(ع)على أهل الكوفة أجهشوا بالبكاء،وتعالت أصواتهم بالاستغاثة، والاستبشار،لذا تحدّدت وجهة الحسين(ع)،وحدّد منطلق الثورة،فاختيار المكان والزّمان والظرف السياسي المناسب شرط من الشروط الاساسيّة في نجاح الحركة الثورية. وبعد كلّ المعلومات الّتي توفّرت لدى الحسين (ع) أصبح العراق هو البلد المرشّح للانطلاق وإعلان الثورة وقيام دولة الاسلام الراشدة .   الطّليعة والرِّيادة «بسم الله الرّحمن الرّحيم ((100)) ، للحسين بن عليّ أمير المؤمنين (ع) ، من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين (ع) : أمّا بعد ، فإنّ الناسَ ينتظرونَكَ ، لا رأيَ لهم غيرُكَ ، فالعجلَ يا ابن رسول الله (ص) ، فقد اخضرّ الجنابُ ، وأينعِت الثمارُ ، وأعشبَتِ الارضُ ، وأورقَتِ الاشجارُ ، فأقدِم علينا إذا شِئْتَ ، فإنّما تَقدُمُ على جُنْد مُجَنّدة لكَ ، والسّلامُ عليك ورحمةُ الله وبركاته وعلى أبيكَ من قَبلك» (101) . تسلّم الحسين (ع) الرسالة الاخيرة، ونظر فيها مليّاً ، ثمّ سأل حاملي الرسالة عمّن كتبها، وصاغَ العهد فيها ، فهي بيعة وتقويم للموقف ، وحثّ على العجل والمبادرة ، أجاب الرّسولان وصرّحا بأسماء الرِّجال الّذين كتبوا للحسين (ع) . لقد رسمت الرسالة للحسين (ع) صورةَ الموقف ، وأقامَت بين يديه حُجّةَ التحرّك والانطلاق ، إلاّ انّه بعدُ لمّا يطمئنْ ، فلاهل البيت (ع) مع أمثال هذه العهود والمواثيق تجربة عاشها الحسين (ع) بنفسه مع أبيه عليّ أمير المؤمنين (ع) ، ومع أخيه الحسن (ع) ، إنّه يَقدِم على أمر خطير وعليهِ أن يحكم القرار ، ويتقن الموقف . فزع الحسين (ع) إلى بيت الله الحرام ، واستعان بالصبر والصّلاة ، فوقف بين يدي ربّه وصلّى ركعتين بين الرّكن والمقام ، وسأل الله أن يجعل له الخيرة من أمره ، وأن يهديه إلى ما هو خيرٌ وصلاح . ارتأى الحسين (ع) أن يرسل مندوباً عنه وممثلاً يوطئ له الاكناف ، ويهيِّئ له الاجواء ، ويعدّ له مستلزمات القيادة الميدانية في الكوفة ، ويصوِّر له واقع الاحداث ، ويعكسها عليه بدقّة وأمانة ، ليستطيع أن يقرِّر الموقف المناسب ، ولم يكن الحسين (ع) ليختار أي رجل لهذه المهمّة الشاقّة والمسؤوليّة الصعبة ، بل لا بدّ من أن يختار رجلاً قادراً على تمثيله ، يتّسمُ بالحكمة والشُّجاعة والنّصيحة لرسوله وللامام والاُمّة ، والاخلاص للقضيّة والايمـان بها ، فوقع اختياره على ابن عمّه مسلم بن عقيل ، فطلب حضوره فحضر بين يدي الامام ، وراح الحسين السبط (ع) يشرح الموقف لمسلم بن عقيل ، ويوضِّح له ما وردَ في الرسائل ، وما جاءت به الرّسل ، ويُطلعه على خفايا الاُمور ; ليكون قادراً على القيام بمهمّة السفارة والتمثيل ، ويملك من المعلومات والتوجـيهات ما يمكنه من تحمّل المسـؤوليّة ومعالجـة المواقف ، ومواجهة المستجدّات والطوارئ . استجاب مسلم للمهمّة الصّعبة ، واستمع إلى نصائح الحسين (ع) وتوجيهاته : «فأمره بتقوى الله ، وكتمانِ أمرِهِ واللُّطفِ ، فإن رأى الناس مُجتمعين له ، عجّل إليه بذلك» (102) . وكتبَ معهُ رسالة وجّهها إلى أهل الكوفة ، وقال له : «سِرْ إلى أهل الكوفة ، فإنْ كانَ حقّاً ما كتبوا به ، عرِّفني حتّى ألحقَ بك» . انطلق مسلم بن عقيل متوجّهاً من مكّة إلى العراق في النصف من شهر رمضان سنة (60 هـ ) ، يصحبه دليلانِ يُدلاّنِهِ الطّريق ، كان الوقتُ صيفاً ، والمسارُ قائِضاً ، والشمسُ مُحرقة ، ورمالُ الصّحراءِ ترمي بشررها وظَمَئِها الرّكبَ المتكتِّم الزّاحف نحو الكوفة، لقد كان الطريق صحراوياً طويلاً ، والمسار صعباً ، فقد استغرقت الرحلة عشرين يوماً من مكّة إلى الكوفة ، فمسلم لم يصل الكوفة إلاّ بعد مضي خمسة أيّام من شهر شوال ، وقد خرج في النصف من رمضان ، ومرّت به أهوال ومخاطر في متاهات البيداء الشاسـعة الّتي قطعها أثناء السفر ، ففي إحدى ليالي المسير ضلّ الدليلان طريقهما ، وتاها في مدارج البيداء ، وظلّوا يسيرون تلك اللّيلة على غير الطّريق، وما أن استبان وجه الصباح، وبدت معالم المسير وعلامات توصل السالكين إلى الطريق ، حتّى أخذ العطش والارهاق من الدليلين كل مأخذ ، وكان الماء قد نفد ، واستحكم الاعياء بهما ، فعجزا عن المسير . «فأومآ له إلى سُنن الطريق بعد أن لاح لهما ذلك ، فسلك مسلم ذلك السنن ، ومات الدليلان عطشا» (103) . تعذّر على مسلم حمل الدليلين فتركهما ، وسارَ مُرغماً هو ومَن معه من رجال مسترشدين بإشارة الدليلين ، حتّى اكتشفوا الطّريق ، ولاحت لهم منابع الماء ، فحطّوا رِحالهم ، وأناخوا رَكْبَهُم ، وقد أعياهم المسير ، وآلمهم فقد الدليلين . استقرّ مسلم قرب الماء بمنطقة تُدعى : «المضيق من بطن الخبت» (104) ، «وكتب إلى الحسين (ع) بأهوال الرحلة ، ومشاق الطريق ، وما لاقى في سفره المتعب هذا ، ثمّ أعلم الحسين (ع) بأ نّه ينتظر جوابه وأوامره في التحرّك والتوجّه لانجاز المهمّة ، وقد عرض عليه أن يعفيَهُ مِن هذه المهمّة لو شاء ذلك . طوى كتابه هذا وبعث به رجلاً من أهل الحيّ يُدعى قيس بن مُسَهّر ، ووجّهه إلى الحسين (ع) في مكّة المكرّمة ، وحين تسلّم الحسين (ع) الرسالة ، كتب كتاباً إلى مسلم يأمره بالمسير ويرفض طلب الاعفاء» (105) . وفدت رسالة الحسين (ع) الجوابية على مسلم بن عقيل ، فامتثل الامر وتحرّك من وقته ، وسار باتّجاه الكوفة مارّاً بماء لطي ، فحلّ فيه فترة ثمّ واصل السير إلى الكوفة حتّى دخلها في الخامس من شوال ، فنزل دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، واتّخذها مقرّاً لعمله ونشاطه السياسي في الكوفة . وها قد أقبل رسول الحسين (ع) وهو يحمل الرسالة ، ويمثِّل طليعة القيادة والمعارضة ، استبشر الناس وخفّوا لاستقباله ومبايعته وإعلان الولاء له . بدأ مسلم يجري اتصالاته ، ويزاول نشاطه السياسي بهمّة وإخلاص ، وراحَ يجمع القواعد الشعبية ، ويعبِّئ المقاومة ، ويأخذ البيعة للحسين (ع) ، والوفود تقدِّم ولاءها ، والجماهير تعلن عن استبشارها ، حتّى أنّ الناس كانوا يبكون وهم يسمعون مسلم ابن عقيل يقرأ عليهم رسالة الامام الحسين (ع) ويحيِّيهم ، ويعلن استعداده للقدوم إليهم ، والاخذ بزمام القيادة وشؤون الامامة . استمرّ مسلم بن عقيل يعبِّئ الكوفة،ويجمع الانصار،ويأخذ البيعة حتّى تكامل لديه عدد ضخم من الجند والاعوان ، فقد بلغ عدد مَن بايعه واستعدّ لنصرته ثمانية عشر ألفاً(106). لقد أحسّ مسلم ، بصدق الدعوة وكثرة الانصار ، واطمأنّ إلى مستقبل التحرّك وقدرة هذه القوّة على مواجهة الاحداث ، والوقوف بوجه القوى المضادّة لتيّار الحسين (ع) ، فبادر بالكتابة إلى الحسين (ع) ونقل إليه صورة حيّة للاحداث والوقائع وجريان الاُمور في الكوفة ، وقيّم له الموقف ، وأعرب له عن تفاؤله ، وسأله القدوم . استمرّ تيّار الانفعال الجماهيري يتدفّق نحو مسلم حتّى تحوّل إلى تيّار شعبي مُرعب ، وحدث سياسي يُنذِرُ السّلطةَ المركزية بالخطر ، ولم تكن مثل هذه الانباء لِتخفى على يزيد ، وعلى واليه على الكوفة النعمان بن بشير . حاول النعمان معالجة الموقف بالوسائل السلمية والحدِّ مِن تدفُّق التيّار ، إلاّ أ نّه عجزَ عن ذلك . فلم ترق سياسة النعمان السلمية لعملاء السلطة وحلفائها ، وخافوا من تطوّر الاحداث وضياع مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الّتي يتمتّعون بها على حساب معاناة الجماهير ، ومآسي المستضعفين ، فكتب أحد حلفاء بني اُميّة ، (عبدالله بن مسلم) إلى يزيد تقريراً صوّر له الاحداث وخطورة الموقف ، وأشار عليه بخلع النعمان ، ووصفه بالضعف والتهاون ، وطالبه بإرسال عنصر إرهابي يستطيع أن يُخضِعَ الجماهير بالقوّة ، ويسحق إرادتها ، ثمّ كتب عملاء آخرون ، بمثل هذا التقرير إلى السلطة المركزية ، (إلى يزيد بن معاوية) كعمارة بن عقبة ، وعمر بن سعد بن أبي وقّاص ، جاء في التقرير الاوّل : «أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة ، وبايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب (ع) . فإنْ يكن لكَ في الكوفةِ حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ، ينفذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوّك ، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف»(107) . لقد أصبحت الكـوفة مرجلاً يغلي بالاحـداث،وحلبة يصـطخب فيها الصراع، وساحة يتصـارع فيها تيّاران،تيّار أهل البيت(ع)وتيّار الامـويين،وأصبحت الاوضاع تُنْذِرُ بالخطر،وغدا التوتّر شديداً يهدِّدُ بانفجار الموقف،ووقوع الصراع،وكاد الموج يقذف بزبد البحر،ويرمي بغثاء السيل لولا تدخّل عوامل كثيرة قلبت ميزان المعادلة وغيّرت المسار. انطلقت الرّسل من الكوفة إلى كلٍّ من الحسين (ع) ويزيد ، وكلّ يستحث قيادته ، ويسأله المبادرة ، ويناشده احتواء الموقف ، لقد وصلت الرّسل إلى يزيد تنذره بهبوب العاصفة وانفلات الكوفة ، وتشكو عجز النعمان عن السيطرة على الوضع السياسي الّذي بات يُنْذِرُ الامويين بالخطر . تسلّم يزيد الرسالة وراح يناقش الامر ويبحث عن أكثر الناس قسوة وقدرة على التوغّل في الارهاب والجريمة ، وأشدّهم حبّاً للسلطة وشرائها بأي ثمن ، وأكثرهم حقداً على أهل البيت (ع) وولاءً للعرش المتسلِّط ، فلم يجد بعد المشاورة وتفحّص قُدرات جلاوزته أفضل من عبيدالله بن زياد الّذي كان وقتها والياً على البصرة . اعتمد يزيد في هذا التشخيص على سرجون مولى معاوية الّذي قال ليزيد : إنّ معاوية قد كتبَ عهداً في حياته يعيِّن فيه عبيدالله بن زياد(108)والياً على الكوفة،وأنّه يحتفظ بهذا الكتاب الّذي لمّا ينفذ بعد،وقد آن الاوان،فليس في سجلاّت السّلطة رجلٌ أطوع للعرش منه;استجاب يزيد على الفور لاقتراح مستشـاره وقرار أبيه فعيّن عبيدالله بن زياد ، وأصدرَ إليه أوامره باستعمال العنف والارهاب ، وعدم التواني في سفك الدماء حتّى يستأصلَ المعارضةَ ، ويوقف زحف الجماهير الرّافضة لسلطته الغاشمة ، فقد جاء في كتاب يزيد : «أمّا بعد ، فإنّه كتبَ إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يُخبِرونني أنّ ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشقّ عصا المسلمين ، فَسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلبَ ابن عقيل طلبَ الخرزةِ حتّى تثقَفَهُ فتوثِقَهُ أو تقتُلَهُ أو تنفِيَهُ ، والسّلام» (109) .   نكوص وانعطاف تسلّم عبيدالله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية فبادر في اليوم الثاني وتحرّك نحو الكوفة يستحث الخطى ويسابق الاحداث،والناس تنتظر هناك قدوم الحسين(ع)،وتتهيّأ لاستقباله، ومعظم جماهيرها لا تعرف شخصية الحسين(ع)،ولم تكن قد التقته من قبل،فباغت ابن زياد جماهير الكوفة وهو يخفي معالم شخصيته ويتستّر على ملامحها،فقد تلثّم ولبس عمامة سوداء. وراح يخترق الكوفة ، والناس ترحِّب له ، وتسلِّم عليه وتردِّد : «عليك السّلام يا ابن بنت رسول الله . وهم يظنون أ نّه الحسين بن عليّ عليه السلام» (110) . ساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر الامارة ، فكانت هذه العبارات وروح الاستبشار الّتي شاهدها على وجوه الناس وهم يظنّون أنّ القادم هو الحسين (ع) كافية لان تعطيه صورة عن تعلّق الكوفيين بالحسين (ع) وحبّهم له وخسارة يزيد للرأي العام وقوى الجمهور ; حاول مرافقه مسلم بن عمرو الباهلي أن يباغت الرأي العام، ويُحدِثَ له صدمةً وانتكاسةً نفسيّةً،وليزرعَ في النّفوسِ بُذورَ الخوفِ والرّعب،فراحَ يُخاطب الجماهير المزدحمة: «تأخّروا هذا الامير عبيدالله بن زياد» (111) . وهكذا سار باتّجاه القصر ، والناس ملتفّة حول عبيدالله بن زياد يسوقها العقل الجمعي ، وتسيطر عليها الخديعة ، ويظنّونه الحسين (ع) ، فاضطرب النعمان وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيدالله بن زياد ، وكان هو أيضاً قد وقع تحت تأثير الاشاعات ، وسيطرة الاراجيف ، ظانّاً أنّ القادم هو الحسين (ع) ، فخاطبه : «اُنشِدُكَ اللهَ إلاّ ما تَنَحّيتَ،والله ما أنا بِمُسلم إليكَ أماني،وما لي في قتالِكَ مِن أرَب»(112). صمتَ ابن زياد وراح يقترب من باب القصر ، والنعمان يطل برأسه من الشرفات يتفحّص الموقف ، ويرقب التجمّع الكبير ، حتّى شخّص أنّ القادم هو ابن زياد وليس الحسين (ع) ، ففتحَ الباب ودخلَ ابن زياد القصر وأغلقَ بابَهُ وباتَ ليلتَهُ ، وباتَت الكوفة على وجل وترقّب رهيب ، ومُنعطف سياسي خطير . ففاجأها عند الصّباح ، وهو يحتلّ القصر بالنداء : الصلاة جامعة ، فقام خطيباً في الجموع المحتشدة وراح يمنِّي المطيع والظّالع في ركب السياسة القائمة بالاماني العِراض، ويهدِّد ويتوعّد المعارضة والرّافضين لحكومة يزيد ، حتّى قال : «سوطي وسيفي على مَنْ تركَ أمري وخالَف عهدي» (113) . ثمّ فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس ورفع المعلومات والتعريف بالمعارضين ، وهدّد مَن لم يُساهِم في هذه العملية وينفِّذ هذا القرار بالعقوبة وقطع المخصّصات والعطاءات المالية فقال : «فَمن يجئ لنا بهم فبريء ، ومَن لم يكتب لنا أحداً فليضمن لنا مَن في عرافته أن لايخالفنا منهم مُخالِف ، ولايبغي علينا منهم باغ، فمَن لم يفعل برئت منه الذِّمّة ، وحلال لنا دمه وماله ، وأ يّما عريف وُجِدَ في عرافته من بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا ، صُلِبَ على بابِ دارِه واُلغيت تلكَ العرافة مِنَ العطاء» (114) . وهكذا بدأ الانعـطاف ، وبدأت الاحـداث تتخذ مجرىً آخر ، لاحت بوادر النكوص والاحباط تظهر على جماهير الكوفة وبعض قياداتها ، وراحت سلطة عبيدالله بن زياد تقوِّي مركزها وتمسك بالعصا الغليظة وبوسائل القوّة والسيطرة المألوفة لديها ، مِنَ المال الرشوة والارهاب وتسخير الجواسيس لجمع المعلومات وبثّ الاراجيف ، وتوجيه الدعاية المضادة ، وبدأ موقع مسلم بن عقيل ، مندوب الحسين (ع) وممثله ، يضعف ويهتز ، فاضطرته الاوضاع الجديدة إلى أن يغيِّر اُسلوب عمله وموقعه ، فانتقل من دار المختار بن عبيدة الثقفي إلى دار الزعيم الكوفي الموالي لاهل البيت ، هانئ بن عروة ، واسـتقرّ فيها متخفِّـياً بعيداً عن أعين السّـلطات والملاحقة حتّى استطاعت عناصر الاستخبارات أن تكشف المكان الّذي يختبئ به مسلم بن عقيل . فاستدعي هانئ بن عروة باُسلوب مبطن وغير مثير ، فقد بعث إليه عبيدالله بن زياد وفداً يدعوه لزيارته وإزالة الجفوة بينهما ، وما أن دخل هانئ قصر الامارة حتّى وجد نفسه أمام محكمـة وتُهَم توجّهُ إليه ، وجواسيس يشهدون عليه ، أ نّه يوالي الامام الحسين (ع) ويعبِّئ المقاومة ويشترك في تنظيم صفوفها المسلّحة ، ويجمع المال والسلاح والانصار ، ويخطِّط للاجهاز على السّلطة القائمة ، ويتستّر على مسلم بن عقيل ويُخبِئُهُ في دارِه . حاولَ الانكار والدفاع عن نفسه إلاّ أ نّه فوجئ بالهجوم عليه مِن قِبَلِ عبيدالله بن زياد بقضيب كان بيده وراح يُهشِّم به وجه هانئ وأنفه ، وهانئ يُدافع عن نفسه بعنف وقوّة فلم يستطع المقاومة ، وأخيراً أصدر ابن زياد أمراً بسجن هانئ وحبسه في إحدى غرف القصر ، ووضع تحت حراسة مشدّدة. تسرّب الخبر إلى خارج القصر ، فتحرّكت مذحج (عشيرة هانئ) وأخذت تطوِّق القصر، فاستعمل ابن زياد اسلوب الخديعة والمراوغة معهم ، فطلب من شريح القاضي أن يخرج إليهم ويهوِّن عليهم الموقف ، ويخبرهم بسلامة هانئ ، وحُسن معاملته ، فتفرّق الجمع وانفضّت المقاومة . لقد أصبحت الكوفة في مرحلة صراع دموي رهيب ، وكفاح مسلّح بين الفريقين ، وراح الناس يتحدّثون بتطوّر الاحداث واعتقال هانئ ، وراحت الاراجيف تنشر في كل مكان : أنّ جيشاً كثيفاً على وشك القدوم من الشّام لاسناد موقع السّلطة ، واستئصال المعارضة ، ومطاردة مسلم بن عقيل وأتباعه ، فبدأ الضعف والخور والخوف ينتشر في صفوف الثوّار ويستولي على الرأي العام . كلّ هذا ومسلم بن عقيل يتابع الاحداث ويرقب الموقف ، وقد اتّخذ قراراً بالزحف على قصر الامارة والاستيلاء عليه والقضاء على حكومة عبيدالله بن زياد ، فجمع رجاله وأنصاره الّذين كانوا قد بايعوه وانضموا إلى حركته وأطلق شعاره : (يا منصورُ أَمِت) (115) . وهاجم قصر الامارة (116) ، وكانت قوّاته في بداية الامر تفوق قوّات ابن زياد كثيراً ، فتحصّن ابن زياد وأتباعه بالقصر وأغلقوا الابواب ، وراحَ يُسرِّب الاشخاص ويدسّهم في أوساط الناس يخذلونهم ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الامن والاستقرار وعدم سفك الدماء ، ويحذِّرون من قدوم جيش جرّار من الشام ، لغرض كسب الوقت وتفتيت قوى الثوّار ، واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم ، وما أن نشر الظّلام أجنحته ، وغشي الكوفة ليل واجم مترقِّب ، حتّى لم يبق مع مسلم بن عقيل إلاّ عشرة رجال دخلوا معه المسجد وكانوا في بداية الانطلاقة يقدّرون بأربعة آلاف مقاتل . أتمّ مسلم صلاة المغرب فالتفت إلى ما حوله فلم يجد أحداً يدلّه الطّريق أو يُؤْويه في ذلك البلد الغريب . وهكذا بقي مسلم وحيداً في مسجد الكوفة لا يعرف طريقه ، ولا يجد مَن يستعينُ به أو يلجأ إليه . لقد كان موقفاً حرجاً وانكساراً مروّعاً يتطلّب مِنَ القائد إرادة نفسيّة ، وقدرة غير اعتياديّة على التصرّف والمجابهة . واجه مسلم الموقف بعزيمة لا تلين وإرادة لاتقهر، فراح يسير في شوارع الكوفة علّه يهتدي إلى حلٍّ، أو يعرف الطريق للخروج مِنَ الكوفة قبلَ أن يُلقى عليه القبضُ ، وليبلغ الحسين (ع) الّذي ما زال يَغذُّ السّير ، ويستحثُّ المسير متّجهاً نحو الكوفة ليتدارك الموقف ، ويحول دون وقوع الامام الحسين (ع) في حبائل الغدر والخيانة . سلكَ السّبيلَ وراحَ يمشي في شوارع الكوفة وسِكَكِها ، وقد بدت كئيبة موحشة يسيطر عليها الارهاب، وتنتشر في أرجائها الجاسوسية، تبحث عن مندوب الحسين (ع) ، وسـفيره إلى الكـوفة ، قادهُ الطّريق إلى باب بيت كانت تقف على عتبة بابه امرأة ، اسمها (طوعة) ، شاء الله أن يخلد اسمها في سجل الجهاد . وقف على باب البيت والحيرة تسيطر على مشاعره ، والخجل يحوط شفتيه ، طلب الماء منها ، جاءته بالماء ، شَرِبَ ثمّ جلسَ على باب الدّار لا يدري أين يتوجّه . أثارَ وضعه الحائر ، وسيماء الغربة عليه ، وجلوسه عند باب البيت ، انتباه طوعة ، فراحت تتساءل ، أ لَم تشرب الماء ؟ إذن لِمَ لا تَنصَرِف ؟ فأجاب : إنّه غريب ليسَ له دار ، ولا أهل في هذا البلد ، ثمّ عرّفها بنفسه : «أنا مسلم بن عقيل بن أبي طالب سفير الحسين ، ورسوله إلى الكوفة وابن عمّه» . فتحت له باب البيت ثمّ أدخلته فاختبأ ليقضي ليلتَهُ ، وينظر ماذا سيكون الغد (117) . أمّا ابن زياد فقد بدأ في هذه الساعات التحرّكَ المُضادَّ ، وعرف بمصير المقاومة الّتي قادها مسلم بَعد صلاة المغرب ، فنادى مؤذِّنه : «ألا برئت الذمّة من رجل من الشرط والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلاّ في المسجد» (118) . استجابت جموع غفيرة تحت ضغط الخوف والارهاب والرّشوة. وراحوا يتوافدون على المسجد حتّى امتلا ، صلّى بهم ابن زياد صلاة العشاء ، ثمّ راحَ يوجِّه خطابه إلى أهل الكوفة ، يهدِّد وينذر ويتوعّد ، وقد هاجم مسلم بن عقيل هجوماً عنيفاً ، وجاء في الخطاب : « أمّا بعد، فإنّ ابن عقيل السّفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره ، ومَن جاء به فلهُ دِيتُهُ ، اتّقوا الله عباد الله والزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً . يا حُصين((119)) بن نمير ! ثكلتك اُمّك إنْ ضاعَ باب سكّة من سكك الكوفة أو خرج هذا الرّجل ، ولم تأتني به ، وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة ، فابعث مراصِدَ على أفواه السّكك وأصْبِحْ غداً فاستبرئِ الدّورَ وجسْ خلالها حتّى تأتيني بهذا الرّجل » (120) . وهكذا أصدر أمره بتحرِّي بيوت الكوفة وتفتيشها بيتاً بيتاً،بحثاً عن مسلم وتنقيباً عنه وهو مختبئ في دار المـرأة المجاهدة(طوعة)ينتظر فرصة للخروج أو الاتصال بمَن يعينه على مهمّته. وشاءت الاقدار أن يطّلع ابن لطوعة على مخبأ مسلم ، ويكتشف أمره ، ثمّ سارع إلى ابن زياد تحت وطأة الخوف والطمع في الجائزة المرصودة لهذا الامر فأبلغ الخبر صباحاً ، وجاءت قوّات قوامها سبعون رجلاً تطوِّق الدّار ، وتبحث عن مسلم . سمع مسلم وقع حوافر الخيـل وضجيج الرِّجال ، فتأهّب للقتال وأعدّ سلاحه للنِّزال ، طُوِّقَت الدّار واقتُحِمَت على مسلم بن عقيل ، إلاّ أ نّه لم يُسلِمْ ، وراحَ يُقاتِل بعُنف وضراوة مُذهِلَة حتّى اضطرّ العناصر المتسلِّلة إلى الخروج منها . استعملوا اُسلوباً آخر لاخراج مسلم ، فراحوا يلقون عليه من السّطوح النيران والحجارة ، فاضطرّوه إلى ترك الدّار والخروج إلى الطّريق العام دون أن يلقي سلاحه ، وهو ماض في الضّرب والقتال حتّى أثخنته الجراح،وكثر النّزف عليه،فنادوا:لكَ الامان، لا تقتل نفسك . قبلَ مسلم نداءهم وسارَ معهم وقد حُمِلَ على بغلة إلى دار الامارة، ثمّ بدت بوادر الخيانة ونقض العهد في الطّريق، فقد جرّدوه من سيفه وتركوه أعزل . اُتيَ به إلى قصر الامارة فدخل على ابن زياد ولم يحيِّه بتحيّة الامارة ، ثمّ وقف أمام ابن زياد كالطود الشّامخ ، لا يهزّه هولُ المحنة ، ولا يُزعزعه الموقفُ الصّعب . ودارَ بينهما كلام غليظ ومشادّة عنيفة ، انتهت بقول ابن زياد : إنّك مقتول ، فأجاب مسلم : إذن هَبوني فرصةً أوصي فيها وصيّتي . رضخَ ابن زياد لطلبِ مسلم ، فوقع اختياره على عمر بن سعد لحفظ الوصيّة وأدائها لوجود قرابة وصلة رحم بينهما . أوصى مسلم بثلاث وصايا ((121)) . انتهى من أداء الوصية في ناحية قريبة من مجلس ابن زياد ، فعاد عمر بن سعد إلى مجلسه وراح يفشي نصوص الوصية ويسخر بالوصايا . استمرّ ابن زياد يتهدّد مُسلماً ويهجم عليه بعبارات السبّ والشّتم والتّهم الفظيعة، ومُسلم يجـابهه ويردّ عليه بعُنف وصَلابة . لم يف أحد لمسلم بالعهد والامان الّذي اُعطيَ له ، ولم يكن ابن زياد ليترك مسلماً حيّاً ، وهو الّذي جاء لمجابهته وإحباط تحرّكه ، وقد سنحت له الفرصة ، ومكّنته الاوضاعُ مِن خصمه . أمر ابن زياد شرطته أن يصعدوا بمسلم أعلى القصر ، وقال لبكر بن حمران الّذي كان مسلم قد جرحه جروحاً بليغة : خُذِ السّيف واضرب عنقه ، ثمّ ألقِ بجسده ورأسه من أعلى القصر . اقتيد مسـلم وهو يُكبِّر الله ويمجِّـده،ويسـتقبل الشّهادة بنفس راضية وروح بطوليّة عالية. فانهال سيف الغدر على عنقه ، وافترس حقدُ الطّاغية أوداجَ رَقَبَتِهِ ، وحالَ حدُّ السّيف بين رأسه وجسده، وراحا يركعان من أعلى القصر على صعيد الشرف والجهاد(122)ليلتحق بالشّهداء والصِّدِّيقين والنّبيِّين والصّالحين ، ثمّ امتدّت سيوف الجلاّدين إلى هانئ بن عروة ، واقتيد مكتوف اليدين إلى سوق الغنم في الكوفة فَقُتِلَ هناك واقتُطِعَ رأسهُ ، وبُعِثَ برأسَيهما إلى الشّام ، ليوضعا بينَ يَدَي يزيد بن معاوية . أمّا الجسدان فشدّهما الجلاّدون بالحِبال وجُرّا في أزقّة الكوفة وأسواقها . وهكذا انتهت المقاومة ، وخمدت الثورة في الكوفة لتبدأ ثورة جديدة ، ولتتحوّل هذه الدماء الحرّة الثائرة إلى بركان غضب وثورة ، يصمت برهة لينفجر فيما بعد بعنف وشدّة ، ولتكون عاصفة تهدأ فترة لتهبّ رياحها الكواسح على تلك الهياكل المنتصبة على جماجم الثائرين من أجل الاصلاح والهداية .   إلى كربلاء تسلّم الحسين بن عليّ (ع) خطاب مسلم بن عقيل وتقريره عن الاوضاع والظروف السياسية واتّجاه الرأي العام ، فقرّر التوجّه من مكّة المكرّمة إلى الكوفة ، ليبدأ من هناك إدارة الاحداث وتوجيه الحركة وممارسة مهام الامامة والقيادة . عزم عليه السلام على الرحيل فجمع نساءه وأطفاله وأبناءه وأخوته وأبناء أخيه وأبناء عمومته ، وشدّ رحاله وهيّأ قطاره وقرّر الخروج من مكّة المكرّمة . انتشر خبر قرار الهجرة ، وسرى بين الناس نبأ رحيل الحسين (ع) ، فاتّجهت القلوب نحوه والنفوس إليه، تتشبّث به وتناشده العدول عن رأيه، وقد تملّكها الخوف من غياب شخصه (ع) واُفولِ نجمه ، وراح العديد من مخلصي الحسين (ع) والمشفقين عليه يتشبّثون به ويستشفعون إليه ، علّه يعدل عن رأيه ويتراجع عن قراره . اعتذر الحسـين (ع) عن كلّ رأي يطالبه بالهدنة ، ورفض كلَّ مسعىً يحثّه على القعود عن التحرّك والمواجهة، فقد كان له قرار ، وكانت لديه رؤية عقائدية وسياسية واضحة ، وبصيرة بمجرى الاحداث وقوانين الصراع والاختبار التاريخي ، لقد أحسّ الحسين (ع) أنّ خطراً داهماً يهدِّد الاسلام ، وأنّ قعوده وسكوته لا يعني السّلامة . فيزيد لا يُهادنُ قيادةً مبدئيّةً كالحسين (ع) ، والحسين (ع) لا يطلبُ حياةَ الدَّعةِ والاسترخاء على حساب المبادئ والقيم ، وأنّ الاُمّة الّتي ترى في الحسين (ع) القائد والرّائد، ستفقد ثقتها بقيادتها وستركن للخنوع، وسترى قطاعات واسعة من جماهير الاُمّة في سكوت الحسين (ع) الاقرار والشرعية في حكومة يزيد . فقد صار (ع) المعيار والمقياس لشرعية الحكم وعدمه ، لا بدّ للحسين من المسير وإعلان الثورة ; لذلك اعتذر من عمر بن عبدالرّحمان بن الحارث بن هشام ، ومن محمّد بن الحنفية (أخيه) ، ومن ابن عمّه عبدالله بن جعفر ، وعبدالله بن عباس ، ولم يرضخ لاقتراحاتهم ، بل رفض الامان الّذي حصل عليه عبدالله بن جعفر الطيار من عمرو بن سعيد بن العاص عامل يزيد على مكّة ، وصارحه بأنّ سرّاً كبيراً وغاية عظيمة يستبطنها الموقفُ ، وليسَ بوسعه أنْ يبوحَ به . لقد خاطب عبدالله بن جعفر بقوله : «إنِّي رأيتُ رؤيا ، رأيت فيها رسول الله ، واُمِرْتُ فيها بأمر أنا ماض له ، عليَّ كان أو لي ، فقال : فما تلك الرّؤيا ؟ قال : ما حدّثتُ أحداً بها ، وما أنا محدِّثٌ بها حتّى أَلقى ربِّي» (123) . إنّ هناك سرّاً عظيماً ، وحقيقة كبرى تكمن في حركة الحسين (ع) ، وتتركّز في ثورته ، فإنّ الّذي يتابع الحـوارَ والالحاحَ والنصيحةَ الّتي قُدِّمَتْ للحسـين (ع) مِن أصحابه وأهل بيته (ع) وكلّهم يتوقّع الخيانة ، ويُعْرِب للحسين عن مخاوفه من عدم الوفاء، يُدرِك أنّ للحسين (ع) قراراً وهدفاً لايمكن أن يتراجع عنه ، فقد كان واضحاً من خلال إصراره وحواره أ نّه يتوقّع النتائج الّتي آلَ إليها الموقف ، ويُشخِّصها بدقّة ووضوح ، إلاّ أ نّه كان يرى واجبه الرِّسالي ومسؤوليّته الشرعيّة تملي عليه الحركة والتصدِّي للسّلطة الامويّة القائمة ، مهما يكن الثمن فادحاً ، والعطاء من جانبه عظيماً . ونقرأ ما يوضِّح ذلك في خطبته الّتي ألقاها بعد محاورته مع عبدالله بن عمر بن الخطاب ، الّذي أشار عليه بالطّاعة والانقياد للسلطة الحاكمة ، فقال له : إتّقِ الله يا أبا عبدالرّحمان ولا تدعنّ نصرتي . ثمّ قام (ع) فخطب : «الحمدُ لله ، وما شاء الله ، ولا قوّة إلاّ بالله ، خُطَّ الموت على وُلدِ آدم مخطّ القلاّدةِ على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخِيِّرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه ، كأنِّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا ، فيملان منِّي أكراشاً جُوَفاً وأحويةً سغباً ، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ، رِضا الله رِضانا أهل البيت ، نصبرُ على بلائه ويوفِّينا اُجور الصابرين. لن تشذّ عن رسول الله لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرّ بهم عينُهُ ويُنجَزُ بهم وعدُهُ ، مَن كان باذلاً فينا مُهجَتَهُ ، ومُوَطِّناً على لقاء نفسه ، فَلْيَرْحَل معنا ، فإنِّي راحِلٌ مُصبِحاً إن شاء الله»(124) . انطلق الحسين (ع) من مكّة المكرّمة يوم التروية يوم الثامن من ذي الحجّة عام (60 هـ ) متوجِّهاً إلى العراق بعد أن كتبَ إليه مسلم بن عقيل وطلبَ منه القدوم . انطلق موكب الحسين (ع) يغذُّ السّيرَ ، ويقطعُ الفيافي والقفارَ ، باحِثاً عن الشهادة ، مُستهدِفاً أرض العراق ، ينتقلُ من ماء إلى ماء عبرَ صحراء الجـزيرة ، وكلّما مرّ به ركبان، أو التقى به قادِمون مِنَ العراق أوجسوا عليه خيفةً ، وفاضَت قلوبهم عليه إشـفاقاً ، وكرّروا عليه القول : «إرجعْ يا ابن رسولِ الله» والرّكبُ ماض والعزيمـةُ مشحذةٌ ، وكثيراً ما كان يقول : «والله لا يَدَعُوني حتّى يستخرج هذه العلقةُ مِن جوفي ، فإذا فعلوا سلّطَ اللهُ عليهم مَنْ يُذِلّهُم حتّى يكونوا أذلّ مِن فَرَمِ المرأة» (125) . وكان يقول لعبدالله بن الزُّبير بعد حوار كان بينهما في مكّة المكرّمة : «إنّ أبي حدّثني أنّ لها ((126)) كبشاً به تُستحلّ حُرمتُها ، فما أحبُّ أن أكونَ ذلك الكبش» (127) . ثمّ قال له : «والله لان اُقتَل خارِجاً منها (مكّة) بِشِبْر أحبُّ إليَّ مِنْ أن اُقتَلَ داخل منها بشبر ، وايمُ الله لو كنتُ في حُجر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم» (128) . فكلّ شيء واضح أمام الحسين (ع) ، وهو مصمِّم على الكفاح والشهادة ، فليس النصر يُحسب دائماً بالنتائج الانيّة ، فقد يحتاج الحدث الكبير فترة زمنية يتفاعل فيها مع جملة من الحوادث والاسباب ليعطي نتائجه ويفرز ثماره . لقد أصبح واضحاً لدى الحسين (ع) أنّ الشهادة هي الطريق لتحقيق الهدف ، وأنّ الثورة ضرورة تاريخيّة وعقائديّة لايصحّ التخلّف عنها، أمّا المخلصون الّذين اعترضوا على تحرّكه فكانوا ينطلقون من مبدأين أساسيين : 1 ـ الخوف مِن أنْ تخسرَ الاُمّة القيادةَ الرساليةَ ، فيخلو الميدان لسلطة يزيد ، تعبث بالاُمّة ومقدّراتها ، واتّضح هذا الهاجس في قول عبدالله بن مطيع حين نزل الحسين (ع) بحيِّهم وهو ماض في طريق الهجرة : «ولئن قتلوكَ لا يهابون بعدكَ أحداً أبداً ، والله إنّها لحرمة الاسلام تُنْتَهَك» (129) . 2 ـ أنّهم كانوا يحسبون النصرَ بحساب استلام زمام السلطة وغلبة القوى العسكرية، وكان الحسين (ع) يحسب النصر بالثبات على الحق، ووضع الاُمّة على المسار الصحيح، وإقامة معالم المسيرة ، وتثبيت الاسلوب الّذي تقاوم به الاُمّة السلطات الجائرة ، وعندها ستبقى هذه المبادئ قوّة فعّالة في ضمير الاُمّة ووعيها ، سيّما وأ نّها تستمد قيمتها الوجدانية ودفعها الحركي من الدم والشهادة والفداء المقدّس ، لذلك كان إصرار الحسين (ع) ، وكانت عزيمته ، وكان مضاؤه . لقد رأى الناس أنّ وجود الحسين (ع) مع هذه الظروف ضرورة تاريخيّة لهم ، ورأى الحسين (ع) أنّ الفداء والشهادة هو الضرورة الّتي يجب أنْ يقدم عليها ; ورأى الناس أنّ عدم قدرة الحسين (ع) على إسقاط النظام بالقوّة العسكرية المسلّحة يستوجب التراجع عن المواجهة، ورأى الحسين (ع) أنّ فقدان القوّة المسلّحة وفشل الحلّ العسكري هو قادر على تعويضهما بدمّه المقدّس ، فسيبقى صوته يدوِّي في آفاق التاريخ ، وسيبقى ميدان مصرعه زلزالاً يهزّ عروش الظالمين، وحبّات الرِّمال الّتي امتزجت بدمه الطاهر جيشاً يقاتل أبد الدهر ، لذلك سار أبو الاحرار شوقاً إلى الشهادة وتعشّقاً للقاء الله . انطلق ركبه يوم الثامن من ذي الحجّة ، فتناهى الخبرُ إلى والي يزيد على الحجاز عمرو بن سعيد بن العاص، فأرسل مجموعة من رجاله ليعترضوا مسير الحسين (ع)، فتواجه معهم بعنف وتضارب الفريقان بالسِّياط ، فانسحب رجال عمرو بن سعيد . ومضى ركب الحسين (ع) لا يلوي على شيء فقلبه يحوم حول مصرعه في أرض الميعاد ، وقطاره يستحثّ الخُطى نحو سُرادقِ الشهادة . وفي طريق المسير ، وفي منطقة التنعيم صادفوا إبلاً قد يَمّمت وَجْهَها شطرَ الشام ، وهي تحمل الهدايا ليزيد بن معاوية، قادمة من اليمن، فاستوقفها الحسين (ع) واستولى عليها، فقد أصبح في حرب مُعلَنة مع يزيد، ولايعترف له بشرعيّة، ثمّ أحسنَ الحسين (ع) إلى الرِّجـال الّذين اسـتؤجرت إبلهم ، وعرض عليهم الانضمام إلى مسـيرته ، فالتحق معه نفر منهم ، واعتذر آخرون ، فدفع لهم كراء الابل الّتي يسـتحقّونها ، وواصل المسير وفي نفسه شوق وتطلّع لمعرفة الاوضاع السياسية ، وطبيعة الرأي العام في العـراق ، فصادفه الفرزدق الشاعر المعروف في موضِع يُقال له (الصّفاح) ، فسأله الحسين (ع) وطلب منه أن يُصَوِّرَ له الاوضاع الّتي خَلَفها وراءه ، فوصـفها الفرزدق بقوله : «قلوبُ الناسِ مَعَكَ،وسيوفُهُم معَ بني اُميّة،والقضاءُ يَنزِلُ مِنَ السّماء،واللهُ يفعلُ ما يشاء». فقال الحسين (ع) : «صدقت ، لله الامر والله يفعل ما يشاء ، وكلّ يوم ربّنا في شأن، إنْ نزلَ القضاءُ بما نحبُّ فنحمدُ الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشّكر ، وإنْ حالَ القضاءُ دونَ الرّجاء فلم يَعْتد مَن كان الحقُّ نيّتَهُ ، والتّقوى سَريرتَه» (130) . سرى نبأ مسير الحسـين (ع) ، فاضطرب الموقف الاموي ، وشعرت السـلطات بالخوف من انقلاب سياسي يطيح بعرش يزيد . وماجَ الحجـاز والعراق بأهله ، وتحدّثت الرّكبان بأنباء الثائر العظيم، وفزعت أحياء الاعراب على طول خطّ المسير، فكلّما ورد الحسين (ع) ماءً ، أو مرّ بحيٍّ التحقَ بهِ جمع من الاعراب فتناهى الخبر إلى عبيدالله بن زياد وهو والي يزيد على الكوفة ، وعلم بمسير الحسين (ع) وانطلاقته العملاقة، فأعدّ جنده ورجاله، ووضع خطّة لقطع الطّريق أمام الحسين (ع) والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة ، فبعثَ مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي ، وكلّفه بتنفيذ المهمّة ، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر على طريق مرور الحسين (ع) ، فنزل (بالقادسية) واتّخذها مقرّاً لقيادته ونظّم خطّاً عسكريّاً يمتدّ من القادسية حتّى (خفّان) وآخر يمتد من القادسية حتّى (قطقطانة) ، ومدّ انتشار هذه القوّات حتّى (جبل لَعْلَعْ) . أمّا الامام الحسين (ع) فما زال مُجِدّاً في السّير تطوي ظعائنُهُ أبعادَ الفلاة ويواصل قطارُهُ الزّحفَ نحو العراق ، حتّى بلغ موضعاً يسمّى (الحاجز) ، ومن هنا كتب كتاباً إلى أهلِ الكوفة يَشحذُ فيه هِمَمَهُم ، ويَحثُّهم على الثّبات والمواجهة ، ويعلمهم بمسيره وقدومه . طوى الحسين (ع) كتابه ، وأوفد قيس بن مسهّر الصّيداوي لهذه المهمّة ، فانطلق نحو الكوفة يحمل كتاب الحسين (ع) ، ويبشِّر بقدوم القائد المغوار لتستعد للاستقبال وتتهيّأ للانضواء ، إلاّ أنّ قيساً لم يستطع تنفيذ مهمّته فقد وقع أسيراً بيد قوّات الحصين المنتشرة في القادسية ، فنُقِلَ إلى عبيدالله بن زياد ، واُحضِرَ في مجلسه ، فلم يضعفْ ، ولم يخضعْ للتهديد والوعيد ، ولم يستجبْ لعبيدالله بن زياد الّذي طلب منه أن يصعد المنبر ويسبّ الحسين (ع) ، بل كان جريئاً وبطولته نادرة ، فصـعد المـنبر وحثّ الناس على نصرة الحسين (ع) ولعن ابن زياد وأباه واستغفر لعليّ ، فاستشاط ابن زياد غضباً ، وطلب من جلاوزته أن يصعدوا به إلى أعلى القصر ويرموه إلى الارض ، فنفّذوا قراره الظالم ، واُلقيَ برسول الحسـين (ع) من فوق قصر الامارة وتقطّع جسده الطّاهر ، واستُشهِدَ رضوان الله عليه . وإذن ، ها هي الكوفة تضطرب وتموج ، والعاصفة قد بانت نذرها في اُفُقِ البلاد ، والانتكاسة الخطرة قد لاحت معالمها ، وبدأ ميزان القوى يميل لمصلحة سلطة يزيد ابن معاوية ، وبدأ الوهنُ يدبُّ ، والانحلالُ يسري إلى تكّتل أهل البيت ، وبدأ الارهاب والجاسوسيّة والرّشوة تفعل فعلها ، فذابت المعارضة ، ونكص المبايعون ، وسرى الخوف والارهاب ، وانتشرت الشائعات والاراجيف المضادّة ، وقُتِلَ مسلم ابن عقيل وهانئ بن عروة وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي ، وانقلبت الكوفة على أعقابها . والحسـين (ع) يواصل المسير ، ويبعث بالرسل ، وليس لديه معلومات جديدة عن تطوّر الاحداث ومجريات الاُمور ، فأرسل عبدالله بن بقطر((131)) إلى مسلم ابن عقيل ليستجلي الموقف ، ثمّ ينقل للحسين (ع) صورة الاحداث ، إلاّ أنّ الحسين (ع) فوجئ في الطريق في موضع يُدعى (الثعلبية) بانتكاسة (132) الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل (ع) ، أمّا رسوله هذا إلى مسلم فقد وقع أسيراً بيد جنود الحصين الّذين اتّخذوا مواقعهم في أماكن تسيطر على طريق المرور حول القادسية ، فنقل من القادسية إلى عبيدالله بن زياد في الكوفة . وكان كرسول الحسين السابق مثالاً للصّلابة والجرأة والاخلاص ، فقد طلب منه ابن زياد أن يصعد فوق القصر ، ويسبّ الحسين (ع) ، فصعد عبدالله وسبّ عبيدالله ابن زياد ، وأخبر النـاس بقدوم الحسـين (ع) ، فانهزم ابن زياد أمـام هذا العنف والاصرار ، فأمر بإلقائه من فوق القصر فاُلقيَ بهِ من هناك ، فتحطّم جسده الطاهر ، وبقيَ به رمق من الحياة فأجهز عليه أحد الجلاوزة فذبحه بالسيف . ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده للحسين (ع) في موضع يُدعى (زُبالة) ، وهكذا راحت تتوارد على الحسين (ع) أنباء الانتكاسة ، وتلوح له بوادر الانعطاف الخطير ، وشعر بالخذلان ونقض العهود ، فوقف في أصحابه وأهل بيته وأتباعه يبلغهم بما استجدّ من الحوادث ، ويضع أمامهم الحقائق ، ليكونوا على بصيرة من الامر ، فوجّه خطابه إليهم ، مصارحاً إيّاهم ، قائلاً لهم : «قد خذلنا شيعتُنا فمن أحبّ أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منّا ذِمام ، فتفرّقوا يميناً وشمالاً حتّى بقيَ في أصحابه الّذين جاؤوا معه من مكّة» (133) . استقرّ الحسين (ع) تلك اللّيلة في (زُبالة) وهو يَنعى مسلماً وهانئاً ، وعبدالله بن بقطر ، ويقلِّب الاُمور ويفكر في مستقبل الحركة ومصير الاُمّة . وحين أذِنَ الصّباح بالافصاح ، ولاحت خيوطُ الضياء ، تحرّك القطار ، وواصل المسير مارّاً (ببطن العقبة) عبر مسالك الصحراء الوعرة ، والمستقبل البهيم يرتسم أمامه ، والثقة بالله تملا جوانحَهُ ، سارَ نهارَهُ وتابعَ مسيره حتّى توارى قرص الشمس وأرخى اللّيل سدوله ، وضربَ الظّلام أطنابه ، فبلغ الحسين (ع) موقعاً يُقال له (شراف) ، فأناخ الرّكبُ المتعبُ رحاله وحطَّ أثقالَهُ ، وقضى ليلته هناك ، ومع الصّباح تحرّكت الظعائن وسارت الهوادج ومضى المـوكب يسـير والشمس تتعالى في اُفق السّماء حتّى انتصف النهار ، وبينما هم منهمكون في مسارهم والنجائب ((134)) تَسْتَحِثُّ الخُطى ، وتُسابِقُ حرارةَ الشمس ، وتتوقّى هجير الرّمضاء بطل الهوادج ، نظر رجل من أصحاب الحسـين (ع) فلاحت له عن بُعد مساحات سوداء ، وأشباح مبهمة حسبها جنائن النخيل وبساتين العراق ، فكبّر بصوت مرتفع فأجابه الحسين مكبِّراً ، ثمّ سأله : لِمَ كَبَّرْتَ ؟ قال : رأيتُ النّخيلَ ، فظنّ أ نّهم قد دخلوا أرض العراق ولحقوا بأحيائها . لم يكن الّذي شاهده الرّجل هو أشـجار النخـيل،ولا بساتين السّـواد،ولكنّها القطعات العسكرية الزاحفة،الجند والخيول والرِّماح والرّايات وغبار الزّحف المتكاثف حول المعسكر. لذا أجابه أصحابه ، ليس في هذه الارض نخلة قط ، فقال الحسين (ع) : ما ترون إذن ؟ قالوا : نراه والله أذان الخيل((135)) ، فرّد الحسين (ع) قائلاً : أنا والله أرى ذلك . لقد فوجئ الحسين (ع) وأصحابه مع قلّة العدد وعدم التهيّؤ للقتال وانكشاف الارض بهذا الجيـش الكثيف الزاحف نحوهم من القادسـية ، فاستشار أصـحابه ، وسألهم : ما لنا ملجأ نلجأ إليه فنجعله في ظهورنا ، ونستقبل القوم بوجه واحد ؟ فأشاروا عليه بالاتّجاه إلى جبل (ذو حسم) والتحصّن به ، فاتّجه الحسين (ع) نحو اليسار ليلجأ مع أصحابه إلى الجبل ، وعسكر العدوُّ المتشكِّلُ مِن ألف مُقاتِل يزحف نحوهم بسرعة وإصرار بقيادة الحُرِّ بن يزيد الرِّياحي الّذي اُمِرَ بمحاصرة الحسين (ع) والتضييق عليه والجعجعة ((136)) به ، فراحَ الحُرُّ يُضايقُ الحسـينَ (ع) ، ويُسـابقه لاحتلال الموقع الاستراتيجي الحصين من الجبل ، فسبقه الحسين (ع) إلى الموقع وأمر بخيامه فَضُرِبَت . كان الوقتُ ظهراً ، والحَرُّ شديداً ، ورمضاءُ ((137)) الصحراء متّقدة ، وجيش الحُرّ يكتوي بحرِّ الظّهيرة ، وخيوله تلهث مِنَ العطش ، ورجالُهُ تتلوّى مِنَ الظّمأ . ومعَ كلِّ ذلك فقد اندفع نحو الحسـين (ع) ، وأمر رجـاله بالوقوف أمام مضاربه والاحاطة بموقعه . نظر الحسين (ع) إليهم بأخلاق النبوّة الّتي عامل بها رسول الله (ص) أهل مكّة يوم الفتح والنصر ، وبروح العطف الّتي تربّى عليها في بيت الامامة ، فحنا عليهم بقلبه الكبير ، وشملهم بشعوره الانساني النبيل ، وأمر أصحابه بسقي الخيل والرِّجال ، بل وشارك هو بنفسه بتقديم الماء وإرواء بعض العَطشى المتلهفين . فرغ الحسين(ع)وأصحابه من سقي الجيش وإرواء العطشى،وكان وقت صلاة الظهر قد حان ، وآن للحسين (ع) أن يعرج بصلاته إلى الملكوت الاعلى ، فأمر الحجّاج بن مسروق بالاذان للصلاة فأذّن ، وما أن انتهى المؤذّن ، حتّى قام الحسين (ع) خطيباً بين المعسكرين موضِّحاً للحُرِّ والجند الّذين كانوا معه رأيه ومبادئه ، ثمّ طالبهم بالوفاء بالعهود والمواثيـق ، وذكّرهم بالكتب والرّسـل الّتي أرسلوها إليه ، فسكتَ الجميعُ ولم يردّوا على الخطاب . أمَّ الحسين (ع) المعسكرين للصلاة ، وأقامها فيهم ، ثمّ بقي المعسكران بعد الفراغ من صلاتهم متواجهين دونما تحرّش أو استفزاز عسكري . أمّا الحسين (ع) فقد تهيّأ للرّحيل وقت العصر وصلّى صلاته ثمّ وجّه خطاباً آخر للجيش الاموي ، ونَثَرَ أمامهم خُرجَيْنِ مملوءين كتباً ورسائل من أهل العراق يدعونه فيها للقدوم والبيعة ، وحاول الحسين (ع) الانصراف ، فلم يتركه الحُرّ بن يزيد الرِّياحي ، وبعد جدال بينه وبين الحسين (ع) قال له : إنِّي اُمِرْتُ أنْ اُقدِمَكَ الكوفةَ ، ثمّ اقتنع بأن يأخذ الحسين (ع) طريقاً ، لا يوصله إلى الكوفة ولا يردّه إلى المدينة ، فسارَ الحسين (ع) على ذلك ، وسارَ الجيش الاموي يراقبه ويطوِّق حركته ، والحُرّ يحاوره ويهدِّده بالقتل ، فكان الحسين (ع) يردّ عليه : «أفَبالمَوت تُخوِّفُني ، وهل يَعدُوا بكم الخَطبُ أنْ تقتلوني ، وسأقولُ كما قال أخو الاوس لابن عمّه وهو يريدُ نصرةَ رسول الله (ص) فخوّفه ابن عمّه ، وقال : أين تذهب فإنّك مقتولٌ ، فقال : سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى إذا ما نَوى حقّاً وجاهَدَ مُسْلِما ووَاسى الرِّجالَ الصّالحينَ بِنَفسهِ وفارَقَ مَثْبُوراً وخالَفَ مُجْـرِما فإنْ عِشْتُ لَم أندَمْ وإنْ مِتُّ لَمْ اُ لَمْ كفى بِكَ ذُلاًّ أنْ تَعـيشَ وتُرغَمَا» (138) يئس الحُرُّ من الحسين (ع) وتنحّى عنه ، فسار الحسين حتّى انتهى إلى (عذيب الهجانات) ، ثمّ استمرّ حتّى وصل إلى (قصر بني مقاتل) فنزل به ، وفي ساعة متأخِّرة من اللّيل أمر فتيانه بالتزوّد من الماء والبدء بالرّحيل ، وامتطى الحسين (ع) جواده وقد أخذ السّهر والاعياء منه مأخذه ، فغشيه النوم لحظة ثمّ انتبه وهو يقول : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين» . ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثة ، فأقبل ابنه عليّ بن الحسين (ع) ، فقال : مِمَّ حمدتَ الله واسترجعت؟ فقال : يا بُنيّ ! إنِّي خَفقتُ خَفقةً فَعَنَّ ليَ فارِسٌ على فرس وهو يقول : القوم يسـيرون والمنايا تسير إليهم ; فعلمتُ أ نّها أنفسنا نُعِيَت إلينا . فقال له : يا أبة ! لا أراك اللهُ سوءاً ألسْنا على الحق ؟ قال : بلى ، والّذي إليه مرجعُ العِباد . قال : فإنّنا إذن لا نُبالي أن نموتَ مُحقِّين . فقال له الحسين (ع) : جزاكَ اللهُ مِن ولد خَيْرَ ما جزى ولداً عن والده» (139) . واخترقت خيوطُ النور إهابَ اللّيل البهيم ، وبدا وجه الصّباح المليء بالاسرار والمفاجآت . نزل الحسين (ع) وصلّى صلاة الصُّبح ، ثمّ انطلق ركبه وهو يتباعد عن جهة الكوفة ويتياسر في سيره حتّى انتهى إلى موقع يُدعى (نينوى) . وفي نينوى ، في هذه القرية بدأ الموقف يأخذ أبعـاداً جديدة ، والاحداث تتحرّك متسـارعة ، ففيها هبّتْ نذرُ العاصفة ، فقد فوجئ الحرُّ والحسين (ع) برسول عبيدالله بن زياد يحمل رسالة عاجلة شديدة اللّهجة موجّهة إلى الحرِّ بن يزيد الرِّياحي يقول فيها : «أمّا بعد ، فَجَعْجِعْ بالحسين (ع) حين يبلغُكَ كتابي ، ويقدمُ عليكَ رسـولي ، فلا تُنزلُهُ إلاّ بالعَراء في غيرِ حِصْن وعلى غيرِ ماء ، وقد أمرتُ رسولي ، أنْ يَلزمَكَ ولا يُفارِقَكَ حتّى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسّلام»(140). انتهى من قراءة الكتاب ثمّ توجّه إلى الحسين(ع)فقرأه عليه،وأطلعه على رأي عبيدالله بن زياد فيه.فقال له الحسين(ع):إذن دَعنا ننزل (نينوى) أو (الغاضريّات) أو (شفية). رفض الحرُّ طلب الحسين (ع)،وتذرّع بالخوف من عناصر الاستخبارات والرّقابة في جيشه،ثمّ بادر زهير(141)بن القين واقترح على الحسين(ع)النزول في منطقة قريبة تُدعى(العقر)فرفضَ الحسين(ع)ذلك،وأصرّ على مواصلة المسير ليرد أرض الميعاد،ولِيَحُطَّ رحله حول سُرادق الشهادة،في أرضِ كربلاء.وقبلَ أن يتحرّك الرّكب ويواصل السّير قام الامام الحسين(ع)خطيباً فقال: « إنّه قَدْ نَزَلَ بنا مِنَ الامرِ ما قد تَرونَ ، وإنّ الدُّنيا قَدْ تَغيّرتْ وتَنَكّرَتْ وأدْبَرَ مَعروفُها، واستمرّتْ حَذّاء، ولم تَبْقَ منها إلاّ صُبابةٌ كصُبابَةِ الاناء ، وخَسيسٌ كالمرعى الوَبيل ، ألا تَرونَ إلى الحقِّ لا يُعمَلُ بهِ ، وإلى الباطلِ لا يُتناهى عنهُ ، لِيرغبَ المؤمنُ في لقاءِ ربِّهِ مُحِقّاً ، فإنِّي لا أرى الموْتَ إلاّ سعادةً ، والحياةَ معَ الظّالمينَ إلاّ بَرَما »(142) . الارض الموعودة وهكذا قاد القدر المسـيرة ، وأخذ القضاء بزمام الركب حيث الموعد والمثوى ، فسار ولم يقطع مسافات طويلة حتّى اعترضه الجيش الاموي ، واضطرّه للنزول ، توقّف الحسين (ع) وراح يسأل ، وكأ نّه يبحث عن كربلاء : « ما اسم هذه الارض ؟ فقيل له : أرض (الطف) ، فقال : هل لها اسم غير هذا ؟ قيل : اسمها كربلاء ، فقال : (اللّهمّ ! أعوذ بك من الكرب والبلاء) . ثمّ قال : (هذا موضع كرب وبلاء ، انزلوا : ها هنا مَحَطَّ رحـالنا ، ومَسفَك دمائنـا ، وها هنا محلّ قبورنا ، بهذا حدّثني جدّي رسول الله) » (143) . اليوم هو الخميس الثاني من المحرّم ، سنة (61 ) للهجرة (144) ، وها قد نزل الحسين (ع) في أرض كربلاء ، أرض الدماء والفداء والشهادة ، أرض الخلود والكفاح والثورة . وضرب فِسطاطَهُ وراحَ يُعِدُّ سلاحَهُ ويُصلحُ سيفَهُ ، ويردِّد الشعرَ قائلاً : يا دهرُ اُفٍّ لكَ مِن خَليلِ كَمْ لكَ بالاشراقِ والاصيلِ مِن طالب وصاحب قَتيلِ والدّهرُ لا ينفعُ بالبديلِ وكلّ حيٍّ سالك سبيلِ ما أقربَ الوعدُ مِنَ الرّحيلِ وإنّما الامـرُ إلى الجلـيلِ (145) الحسين (ع) يردِّد أبيات الشعر وزينبُ شقيقَتُهُ ، وحاملةُ لواء التعريف بالثورة مِن بعده تنصتُ إليه، وتقرأُ مِن خلال الشعر مَشاعرَهُ وأحاسيسَهُ، فتندبَهُ وتناديه بصوت يملؤه الحنان ، ويشوبه الذعر : «هذا كلام مَنْ أيقن بالقتل ، فقال (ع) : نعم ، يا اُختاه ! فقالت زينب : واثكلاه ينعى الحسين (ع) إليَّ نفسه» (146) . وراحت الجيوش تتوالى ، وراح عبيدالله بن زياد يبعث بقوّاته المسلّحة بشتّى صنوفها المتوفّرة لديه ، وكان من أبرز الّذين انتدبهم لتنفيذ الجريمة ومقاتلة الحسين (ع) هو عمر بن سعد ، فاعتذر في بادئ الامر إلاّ أ نّه خضع بعد ذلك لتهديد ابن زياد بسحب العهد المكتوب له بولاية الرّي بعد أن بات ليلته يُصارِع نفسه بين الملك ومطامع الدُّنيا ، ومظاهر الاُبّهة والسلطة ، وبين الالتزام بمبادئ الحق والعدل والتنزّه عن الايغال بالجريمة والدماء الطاهرة ، فاختار حُطامَ الدُّنيا والركضَ وراء السّراب والاوهام الخادعة والمشاركة بقتال دُعاة الاسلام إلى الحق ، ومحاربة حَملَة راية الهُدى والاصلاح ، وقد سُمعَ يقول ويردِّد الشعر : أَأَتْرُكُ مُلْكَ الرَّيِّ والرَّيُّ رغبةً أم أرجعُ مَذْمُوماً بِقَتْلِ حُسَينِ وفي قَتْلِهِ النّارُ الّتي لَيْسَ دونها حِجابٌ وملكُ الرّيِّ قُرّةَ عَيْنِ (147) فقبل التكليف واتّجه نحو مواقع الحسين (ع) وهو يقود أربعة آلاف مقاتل ، فاتّخذ من نينوى مقرّاً لقوّاته ، وموقعاً لتحرّك قطعاته ، على مقربة من الحسين (ع) . وحين نزل عمر بن سعد بجيوشه وقوّاته يحاصر مخيم الحسين (ع) ، فتح الحسين (ع) معه الحوار واجتمع به عدّة اجتماعات ، فكتبَ عمر بن سعد إلى عبيدالله بن زياد يقترح عليه فكرة توصّل إليها مع الامام الحسين (ع) ، وهي أنْ يرفعَ الحصارَ عن الحسين (ع) ويفتح أمامه مجالَ العودةِ ويوقفَ نزيفَ الدم الّذي بدأ يأخذ مجراه على أرض العراق . وصل الكتاب إلى ابن زياد فاستحسن الفكرة في بادئ الامر وحاول العمل باقتراح عمر بن سعد ، إلاّ أنّ الشمر بن ذي الجوشن الّذي كان من ألدّ أعداء الحسين (ع) والحاقدين عليه حذّر عمر بن سعد من أنّ الحسين (ع) إنِ استطاعَ النجاةَ مِن هذا الحصار سيكون في موقع القوّة ، وسينقلب الميزان العسكري لمصلحته وما عليه إلاّ استغلال الموقف وإرغام الامام الحسين (ع) على الاستجابة للبيعة والخضوع لارادة عبيدالله ، فكان هذا الاقتراح المشؤوم هو الطّرحَ الشّيطانيَّ الّذي غيّرَ الاحداثَ ، وبَدَأَ الكارثةَ ، ورسمَ المُنعَطَفَ في مسارِ تاريخ الاُمّة . وهكذا تبدأ الاحداث التاريخيّة الكبرى أحياناً من مواقف أو تصريحات أو آراء عرضية ككلمة الشمر بن ذي الجوشن هذه ، الّتي ساهمت بقتل الحسين (ع) ، وجرّت على الاُمّة تلك المحن والويلات والصراعات ، حتّى انتهى الامر إلى سقوط الحكم الاموي ، وانتهاء دولة بني اُميّة . استجاب عبيدالله بن زياد إلى اقتراح الشمر ، وحمّله رسالةً تهديدية إلى عمر بن سعد ، وأمرهُ بتنفيذ القرار ، أو الاعتزال وتسليم الاُمور إلى الشمر بن ذي الجوشن ، وجاء في الرسالة : «إنِّي لَمْ أَبعثك إلى الحسين لِتَكُفَّ عنه ، ولا لتطاوله ولا لِتُمنِّيه السّلامةَ والبقاءَ ، ولا لِتَعتذِرَ عنه ، ولا لِتكونَ لهُ عندي شـافعاً ، أنظر فإنْ نزلَ الحسينُ وأصحابه على حُكمي واستسلموا فابعث بهم إليَّ سِلْماً ، وإنْ أَبَوْا فازْحَفْ إليهم حتّى تقتلهم وتمثِّل بهم ، فإنّهم لذلكَ مُستحقّون ، وإنْ قُتِلَ الحسـين فأَوْطِئ الخيلَ صدرَهُ وظهرَهُ ، فإنّه عاقٌّ ظلوم ، ولستُ أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً ، ولكن على قول قد قلتُهُ : ( أن لو قتلتُهُ لفعلتُ هذا به ) ، فإنْ أنتَ مَضَيتَ لامرِنا فيه جزيناكَ جزاءَ السّامع المُطـيع ، وإنْ أَبَيتَ ، فاعْتَزِلْ عملَنا وجُندَنا ، وخَلِّ بين شمر بن ذي الجَوْشَـن وبين العسكر ، فإنّا قد أمرناهُ بأمرِنا ، والسّلام» (148) . حملَ شمرُ بن ذي الجَوْشَنِ الرِّسـالةَ ، وأقبلَ يتأبّطُ شرّاً ويضرمُ للحربِ ناراً ، فاستقبله عمر بن سعد وقرأ ما في الكتاب وهو يصارع نفسه بين مواجهة الحسين (ع) الّتي يحلم عن طريقها بالسلطة والموقع السياسي والمكانة المرموقة عند رؤسائه وقادته ، وبين تحمّل أوزار الجريمة والجناية على الاُمّة والمبادئ ، فسوّلت له نفسه أن يرجِّح السلطة والمال على الحقّ ورضاء الله ، وقرّر أنْ يقود المعركة ، وأن يفجِّر ينبوعَ الدم الزاكي ، وأنْ يُمارِسَ المذبحةَ البشعةَ بنفسه ، وبمعونة شمر بن ذي الجوشن . حرّك عمر بن سعد جيوشه وفرسانه في السابع من المحرّم لتطويق الحسين (ع) من جانب الفرات والحيلولة بين آل الرسول وبين الماء ، ليموتوا عطشاً ، أو يضطرّوا للتسليم كجزء من خطّة الحرب والحصـار . وهكذا ، تجمّعت نذر الشر في نفسـه ، وجمع خيله ورجاله ووزّع قطعاته وعيّن القادة والاُمراء ، وبدأ يزحف نحو مخيّم الحسين (ع) . ابتدأ الزحف الاثم عصر يوم الخميس التاسـع من شهر مُحَرَّم الحرام،وراحوا يلوِّحون بالسيوف والرِّماح،والحسين(ع)جالس أمام فسطاطه مُحْتَب(149)بحمائل سيفه،ينظرُ في صحراء الطفّ،ويجولُ في آفاقِ الحدثِ الكبير،ويرقبُ جولةَ الباطِل،وحمحمةَ الشيطان، وترتسم أمامهُ لوحةُ المشهدِ،وتُصوَّرُ لهُ فصولُ المعركةِ والشهادة،فـيراها كوكباً تأ لّق في سماءِ التاريخ،وحركةً لا تهدأ في ضميرِ الاحـرار;لم يكـن الحسين(ع)ملتفتاً إلى جموع عمر بن سعد ، ولم يكن على علم بقرار الزّحف ، أقبلت اُختُهُ بطلة كربلاء زينب تنبِّهُهُ وتنادي : «أما تسمعِ الاصواتَ قدِ اقتربت» . ولم تبرح زينب مكانها حتّى قدم العبّاس بن عليّ (ع) أخو الحسين (ع) ينادي : «يا أخي ! أتاكَ القوم» . نهضَ الحسين (ع) وقد رأى أنْ يُخاطِبَ الجموعَ ، ويستكشفَ النّوايا ، ويَستجلي الموقِفَ ، فطلبَ مِن العبّاس أن يتحدّث إليهم ، وأن يُحاورهم ويستطلع آراءهم . كان الصّلفُ والغرورُ قد استولى على تفكير القيادة والسلطة ، والاماني السرابية قد ملكت وعيهم وإرادتهم ، فهم يتسابقون لحرب الحسين (ع) ، ويتسارعون لسفك الدم الطاهر ليحظوا بالجاه والسلطة، ويغنموا المال والثراء الموعود ، لذا كان جوابهم : «فَلْيَنْزِلِ الحسينُ (ع) على حُكْمِ الاميرِ أو نقاتِلَه» . نقل العباس رأي القيادة العسكرية الامويّة إلى الامام الحسين (ع) ، وأخبرَهُ بصلفهم وعنادهم وإصرارهم على أنْ يخضع الحسينُ (ع) لارادة السلطة ويُبايعَ يزيد أو يقاتلون . إذن لا مناص من المواجهة ، والحسين (ع) لا عودة له ولا رجوع عن القرار ، «إنّ مِثْلي لا يُبايعُ يزيد» ، وإذا كان ولا بدّ فما زال يردِّد القول : «لا أرى الموتَ إلاّ سعادة ، والحياةَ مع الظالمين إلاّ بَرَما» . وما زالَ يحمل شعاره الّذي ورثه عن رسول الله ، وخاطب الجيش الاموي به في منطقة (البيضة) قبل أيّام : « أ يُّها الناس ! إنّ رسولَ الله قال : مَنْ رَأى سُلطاناً جائِراً ، مُستَحِلاًّ لحرامِ الله ، ناكِثاً عَهدَهُ ، مُخالِفاً لِسُنّةِ رسولِ اللهِ ، يَعملُ في عبادِ اللهِ بالاثمِ والعدوانِ ، فلم يُغيِّرْ عليهِ بفعل ولا قول كانَ حقّاً على اللهِ أن يُدخِلَهُ مُدخَلَه » . وها هو يرى سلطة يزيد وسياسته وجهازه الحاكم مصداقاً لذلك ، فلم يبق أمامه إذن إلاّ أن يتأهّب للقاء العدو ، وأنْ يخوض الغمرات ، ويرفعَ لِواءَ الجهاد والثورة ، ويستبسلَ من أجلِ إقامة الحق وتطبيق شريعة العدل الالهي المقدّس . لذا طلب من العبّاس أنْ يعودَ إلى ابن سعد ويستمهِلَهُ اللّيلةَ ، لِيُفكِّرَ في الامرِ مَلِيّاً ، ويُعطيَ قراره الحاسمَ غداً ( العاشر من محرّم ـ يوم عاشوراء ـ ) . عرضَ العبّاس طلب الحسين (ع) ووقف ينتظر نتائج الحوار بين عمر بن سعد واُمرائِهِ ومعاونيه ، فأجابوا الطّلبَ ، وعادَ العبّاسُ يحملُ للحسينِ (ع) الخبر .   ليلة عاشوراء ما كانَ طلب الحسين (ع) تأجيل قراره إلى يوم غد لغرض التفكير في الامر ، أو تقويم النتائج وحساب الموقف وحسب ، بل لعلّه قد فرغ من ذلك ، وكل شيء بدا واضحاً ومشخّصاً أمامه ، إنّما أراد في هذه اللّيلة أن تكون ليلة عبادة ودعاء ، وليلة وداع ووصيّة ، وليلة حديث للاهل والاصحاب والاحبّة ، فهو يدري ما كان يُخبِئُهُ الغد ، ويحويه القدر ، لذلك خاطب أخاه حين بعث إليهم في المرّة الثانية : « ارجع إليهم فإنِ اسـتَطَعْتَ أنْ تُؤخِّرَهُم إلى غَدْوَة وتَدفَعَهُم عنّا العَشِـيَّةَ لعلّنا نُصلِّيِ لِرَبِّنا اللّيلةَ ، وندعوهُ ونستغفرهُ ، فهوَ يعلمُ أنِّي قد كنتُ اُحِبُّ الصّلاةَ له ، وتلاوةَ كتابِهِ وكَثرةَ الدُّعاء والاستغفار » (150) . إذن الموقف رهيب ، وها هي الجيوش تحيط بظعنِ الحسين (ع) ، والنِّساء والصِّبية مِن آل الرسول (ص) ، يرقبون المحنة بقلوب حرّى ونفوس واجفة ، والحسين (ع) يتحرّك حول المخيم ، ويخطِّط لحماية الاطفال والنِّساء من غاراتِ الجيشِ المتحفِّز بروحِ الحقدِ والكراهيةِ للاجهازِ على هذه الكوكبة النيّرة وإطفاء نورها مِن اُفق الاسلام . كانَ الوقتُ مساءً والشمسُ قد أرهقها المشهدُ الكئيبُ ، وأثقلَ خُطاها مسيرُ ذلك اليوم الثّقيل ، فراحت تتوارى خلف اُفق الصحراء ، وتبتعدُ عن رحابِ الارضِ لئلاّ تشهد الكارثة والمأساة ، ولتتركَ الارض للقمر في ليلته العاشرة يرافق الحسين (ع) ويشهد دعاءه ، ومناجاته . وقُبيل المغيب وقف الحسين (ع) في أصحابه وأهل بيته (ع) خطيباً لِيُخْبِرَهُم أنّ القوم لا يُريدونَ قتل غيره ، وبوسع كل واحد أن ينسحب تحت جنح الظّلام، وينجو مِنَ القتل، فرفض الجميع ذلك وأصرّوا على القتال والفداء. جنّ اللّيلُ ، وأرخَى الصّمتُ سدولَهُ ، وهدأَ الطّير والهوام ، ونامَت جفون الخلائق كلّها، إلاّ آل محمّد (ص) وأنصارهم باتوا ليلتهم بينَ داع ومصلٍّ وتال للقرآن ومُستَغْفِر في الاسْحار ، وبينَ مُودِّع ومُوص بأهلِهِ وأبنائِهِ ونسائِه ، فكانَ لهم دويّ كدويّ النّحل ، وحركة واستعداد للقاء الله سبحانه . يُصلحِون سيوفَهُم ، ويُهَيِّئونَ رماحَهُم ، فباتوا تلك اللّيلة ضيوفاً في أحضان كربلاء ، وباتَ التاريخ أرِقاً ينتظر الحدثَ الكبيرَ ، وما يتمخّض عنه ميلادِ الصّباح ، وباتَت سيوفهم ورماحهم أقلاماً تتهيّأ لتخطّ في صفحات التاريخ بمدادِ الدم المقدّس أروعَ فصل كُتِبَ في عمرِ الانسان . الحسين (ع) يودِّع أهله وأحبابه ، ويزور السجّادَ وزينبَ وسُكينةَ وليلى والرّبابَ والباقرَ (ع) ويوصي آخر وصاياه ، ويعهد بآخر عهد له ، وقد استسلم للقدر ، وباع نفسه لله ، وقرّر أن يسقيَ شجرةَ الهدى والايمان بغزير دمه ، وفيض معاناته . ليلة ليلاء وَغَد موحش على آلِ محمّد (ص) ، وقد أحاطت بهم الخيلُ واللّيلُ والغـربةُ والجـيشُ الّذي راحَ يتكاثف ويتجـمّع الالف بعد الالف ، والمئة بعد المئة ، والعشرات بعد العشرات بعد العشرات ، حتّى أمسى جيشاً عرمرماً ، وقد غاب عنهم وجه رسول الله (ص) ، ونأى بالغريّ((151)) أبوهم أمير المؤمنـين عليّ (ع) ، وقد باعد بينهم وبين المدينة المنوّرة حيث يرقد جدّهم الرسول (ص) والحسن السبط واُمّهم الزّهراء مسير شهر((152)) للابل والرُّكبان ، وها هم قد باتوا ليلتهم غُرباء ، يتهدّدهم جيش العدوّ بالقتل والاسر والسّبي . انقضت ليلة الهدنة ، وطلع ذلك اليوم الرهيب ، يوم الجمعة ، يوم عاشوراء ، يوم الدم والجهاد والشهادة ، وطلعت معه رؤوس الاسنّة والرِّماح والاحقاد وهي مُشرعةٌ لِتَلْتَهِمَ جسدَ الحسين (ع) ، وتفتكَ بدُعاةِ الحقّ والثوّار من أجل الرِّسالة والمبدأ . عبّأ عمر بن سعد رجاله وفرسانه ، فوضع على ميمنة الجيش عمرو بن الحجّاج ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن ، وعلى الخيل عروة ((153)) بن قيس ، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي ، وأعطى الرّاية دُريداً ((154)) مولاه . نظر الحسين (ع) إلى الجيش الزاحف ، وتأمّل به طويلاً ، وهو لم يزل كالطـود الشامخ ، قد اطمأ نّت نفسه ، وهانت دنيا الباطل في عينه ، وتصاغر الجيش أمامه ، فكان وأصحابه كما قال الشاعر فيهم : لَبِسوا القلوبَ على الدّروعِ وأقبَلوا يَتهافَـتونَ على ذهـابِ الانفُـسِ فلم تُرهِبْهُ كثرةُ الجيوش ، ولم توهنْ عزيمتَهُ كثافةُ الصِّفاح والاسنّة ، بل استشرق من عليائه الرّوحي المتعال ، ورفع يدي الضّراعة والابتهال إلى الله سبحانه ، وراحَ يُناجي : « اللّهمَّ ! أَنتَ ثِقَتي في كُلِّ كَرْب ، وَأَنتَ رَجائي في كُلِّ شِدَّة ، وَأَنتَ لي في كُلِّ أمر نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ ، كَمْ مِن همٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الفُؤادُ ، وَتَقلُّ فِيهِ الحِيلَةُ ، وَيُخْذِلُ فِيهِ الصَّدِيقُ ، وَيشمتُ فِيهِ العَدُوُّ ، أَنزَلتُهُ بِكَ وَشَكوتُهُ إِليكَ ، رَغْبَةً مِنِّي إِليكَ عَمَّن سِوَاكَ ، فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي وَكَشَـفْتَهُ ، فَأنْتَ وَليُّ كُلِّ نِعْمَـة ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسـنَة ، وَمُنتَهى كُلِّ رَغْبَة » (155).   المعركة الخالدة وهكذا استغرق الحسين(ع)في لحظة مناجاة،وموقف روحي أخّاذ،والجيوش تقترب، والجند تجول في الميدان،والحسين(ع)قد حصّن مخيّمه وأحاط ظهره بخندق أوقد فيه النار ليمنع المباغتة والالتفـاف من الخلف.وليحمي النِّساء والاطفال من العدوان المحقّق. نظر الشمر إلى النار وهي تلتهب في الخندق فصاح:«أتعجّلتَ النّارَ قبل يوم القيامة يا حسين،فردّ عليه:أنتَ أولى بها صليّا».حاول صاحب الحسين(ع)مسلم ابن عوسجة أن يرميه بسهم ، فاعترضه الحسين(ع)ومنعه قائلاً:«لا تَرمِه،فإنِّي أكره أن أبدأهم». تلك أخلاقية الحرب في الاسلام،وهذه قيم أبي الشُّهداء الحسين السبط(ع)،لا يمكنه أن يحيد عنها،حتّى وهو في أشدّ الظروف قساوة وحراجة،ومع ذلك فكان هذا الشقي الشمر بن ذي الجوشن هو الّذي قتل الحسين(ع)بعد ساعات في ذلك اليوم . وإتماماً للحجّة على أعدائه من جيش يزيد بن معاوية ، طلب الحسين إليهم أنْ ينصتوا لكي يكلّمهم بكلمة ، إلاّ أ نّهم أَبَوْا ذلك ، وعلا ضجيجهم ولغطهم ، إلاّ أ نّهم سكتوا في النهاية ، فخطبَ فيهم الحسين مُعاتِباً لهم على دعوتهم له وتخاذلهم ، كما حدّثهم بما سيقع لهم بعد قتله على أيدي الظالمين من ولاة بني اُميّة ممّا عُهِدَ إليه من جدِّه (ص) وأبيه (ع) ، وهو ما تحقّق فعلاً ، وخصّ قائد الجيش وهو عمر بن سعد الّذي كان يزيد يُمنِّيه بجعله والياً على الريّ وجرجان بأنّ حلمه ذاك لن يتحقّق وأ نّه سوف يُقتَل ويُرفَع رأسه على الرّمح ، قال الامام الحسين (ع) : «تبّاً لكم أيّتها الجماعةُ وتَرَحاً، أفحينَ اسْتَصْرختُمونا وَلِهين مُتَحيِّرينَ، فأصْرَخْناكُم مُؤدِّين مُستعدِّين ، سَلَلْتُم علينا سَيفاً لَنا في أَيْمانِكُم ، وحَشَشْتُم علينا ناراً اقْتَدَحْناها على عَدوِّكُم وعَدوِّنا ، فأصبحتُم أَ لْباً على أوليائِكُم ، ويداً عليهم لاعدائِكُم ، بغـيرِ عدل أَفشَوْهُ فيكم، ولا أمل أصبحَ لكُم فيهم، إلاّ الحرامَ مِنَ الدُّنيا أنالوكم ، وخسيسَ عَيْش طَمعتُم فيه ، من غيرِ حَدَث كانَ منّا ، ولا رأي تَفيَّلَ لَنا ، فهلا ـ لكم الويلات ـ إذ كرهتُمونا تركتمونا ؟ فتجهّزْتُموها والسّيفُ لم يُشْهَرْ ، والجأشُ طامِنٌ ، والرّأيُ لم يُستَحْصَفْ ، ولكنْ أسرَعْتُم علينا كطـيرةِ الدّبا ، وتداعيـتُم إليها كتداعي الفَراش ، فَقُبحاً لكم ، فإنّما أنتم مِن طواغيتِ الاُمّةِ ، وشُذّاذِ الاحْزابِ ، وَنَبَذَةِ الكتابِ ، وَنَفَثَةِ الشّيطانِ ، وعُصبةِ الاثامِ ، ومُحَرِّفي الكِتابِ ، ومُطْفئي السُّنَنِ ، وقَتَلَةِ أولادِ الانبياءِ ، ومُبيدي عترةِ الاوصياءِ ، ومُلْحِقي العُهّارَ بالنّسب((156))، ومؤذِّي المؤمنين ، وصرّاخ أئمّة المستهزئين ، الّذين جعلوا القرآن عِضين ، وأنتم ابنَ حرب وأشياعَه تعتمدون ، وإيّانا تخذلون، أجل واللهِ الخَذْلُ فيكُم معروفٌ ، وَشِجَتْ عليهِ عروقُكُم ، وتوارَثَتْهُ اُصولُكُم وفروعُكُم ونَبَتَتْ عليهِ قُلوبُكُم ، وغَشيتْ بهِ صُدورُكُم ، فكُنتم أخبثَ شيء سنخاً للناصِبِ ، وأَكَلَةً لِلْغاصِب . ألا لعنةُ اللهِ على النكاثينَ الّذين يَنقضونَ الايْمانَ بعدَ توكيدها ، وقد جعلتُمُ اللهَ عليكم كَفيلاً ، فأنتم والله هم ، ألا إنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ(157)قد رَكَزَ بينَ اثنتين:بين السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهيهات مِنّا الذِّلّةُ،يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُهُ والمؤمنونَ،وحُجورٌ طابَت وطَهُرَتْ،وأنوفٌ حميّةٌ ونفوسٌ أبيّةٌ،مِن أن نُؤْثِرَ طاعةَ اللِّئامِ،على مصارِعَ الكِرامِ،ألا وإنِّي زاحِفٌ بهذي الاُسرة على قِلّةِ العَدَدِ وخُذلانِ النّاصِرِ،ثمّ أنشدَ أبيات فروة بن مسيك المرادي : فإنْ نَهْزِم فَهزّامونَ قُدْماً وإنْ نُهْزَم فَغيرُ مُهزَّمينا وما إنْ طِبُّنا جُبْنٌ ولكن منايانا ودولةُ آخرينا فَقُلْ للشّامتينَ بنا أفيقوا سَيَلْقى الشّامِتون كما لَقينا إذا ما الموتُ رُفِّعَ عَن اُناس بِكَلْكَلِهِ أناخَ بآخرينا » (158). وحاول بعض من أصحاب الحسين (ع) أمثال زهير بن القين وبُرير((159)) بن خضير أن يستعملوا لغة العقل والمنطق ، وأن يشرحوا الاحداث ومبرّرات تحرّك الحسين (ع) ، فلم يستجب لهما أحد . وعاد الحسين (ع) على ظهر فرسه ووقف أمام الجيش وخاطبهم : « أمّا بعد ، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يَحلُّ لكم قتلي وانتهاك حُرْمَتي ؟ أ لَستُ ابن بنتِ نبيِّكم (صلّى الله عليه وسلّم) وابن وصيّه وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله ، والمصدِّق لرسولهِ بما جاءَ به من عند ربِّه ؟ أوَلَيس حمزة سيِّد الشهداء عمّ أبي ؟ أوَلَيس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمّي ؟ أوَلَم يبلغْكُم قولٌ مستفيضٌ فيكم إنّ رسـول الله (صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم) قال لي ولاخي : هذان سيِّدا شبابِ أهلِ الجنّة ؟ فإنْ صدّقتموني بما أقول ـ وهو الحقّ ـ والله ما تعمّدت كذباً مذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله ويضرّ به مَن اختلقه ، وإن كذبتموني فانّ فيكم مَنْ إنْ سألتُموه عن ذلك أخْبَرَكُم ، سَلُوا جابِرَ بن عبدالله الانصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهلَ بن سعد الساعدي ، أو زيدَ بن أرقم أو أنسَ بن مالك ، يُخبروكم أ نّهم سمعوا هذه المقالة من رسـول الله (صلّى الله عليه وسلّم) لي ولاخي ، أفما في هذا حاجز لكم عن سَفك دمّي ؟ فقال له شمر بن ذي الجوشن : هو ـ أي الشمر ـ هو يعبد الله على حرف إنْ كانَ يدري ما تقول . فقال حبيب بن مظاهر للشمر : والله ، إنِّي لاراك تعبدُ اللهَ على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أ نّك صادق ، ما تدري ما يقولُ ، قد طبعَ اللهُ على قلبك . ثمّ قال لهم الحسين : فإن كنتم في شك من هذا القول أوَ تشكّون في أنِّي ابنُ بنت نبيِّـكم ؟ فوَالله ما بين المشرق والمغرب ابنُ بِنتِ نبيّ غيري منـكم ولا مِنْ غـيرِكم ، أنا ابن بنت نبيِّـكم خاصّة ، أخبروني أتطلبـوني بقتـيل منكم قتلتُـهُ ؟ أو مال لكم استهلكتُهُ ؟ أو بِقَصاص مِن جُراحة ؟ » (160) . فلم يستجب له أحد ، ثمّ خاطبهم : «أما تَرونَ سَيفَ رَسُولِ الله (صلّى الله عليه وسلّم) ولامَةَ حَربِهِ وعِمامَتَـهُ عَلَيَّ ، قالوا : نعم . فقال : لِمَ تقاتلوني ، فلم يجيبوا إلاّ بجواب الامّعـة الّذي لا يملكُ رأياً ولا إرادة ، ولا يُمَيِّزُ بين التبعيّةِ العمياءِ والطّاعةِ القائمةِ على وعي وفهم سليم ، أجابوا : طاعة للامير عُبيدالله بن زياد» (161) . ثمّ قال (ع) : «أما والله ، لا تَلبِثُونَ إلاّ كَرَيْثَما يُركب الفرس ، حتّى تدورَ بكم دَوْرَ الرَّحى ، وَتَقْلقَ بِكُمْ قَلْقَ المِـحْوَر ، عَهْدٌ عَهِدَه إليَّ أبي عن جدِّي رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ، فأجمعوا أمركم وشُركاءكم ثمّ لا يَكُن أمركُم عليكُم غُمَّةً ، ثمّ اقضوا إليَّ ولاَ تُنْظِرُون ، إنِّي توكَّلتُ على اللهِ رَبِّي وربِّكُم ، ما مِنْ دابّة إلاّ هو آخِذٌ بناصِيَتِها إنَّ ربِّي على صراط مُستَقيم» (162) . كل ذلك وعمر بن سعد مصرّ على قتال الحسين (ع)، والحسين (ع) يحاور وينصح ويدفع القوم بالّتي هي أحسن ، ولمّا لم يُجْدِ نصح ، ولم ينفع حوار ، قال الحسين (ع) لابن سعد : « أَيْ عُمَرُ أَتزْعَمُ تَقْتُلني ، وَيوَلِّيكَ الدّعِيُّ بلادَ الرَّيّ وجرجان ، والله لا تهنأ بذلك ، عَهْدُ مَعْهودُ ، فاصنع ما أنتَ صانِع ، فانّكَ لا تَفْرَحِ بَعـدي بدُنياً ولا آخِرة ، وكأنِّي برَأْسِكَ على قَصَبة يَتَراماهُ الصِّبْيانُ بالكوفَةِ وَيتّخِذُونَهُ غَرَضاً بينهُم ، فَصَرَفَ بِوَجْهِهِ عَنْهُ مُغْضباً » (163) . إستحوذ الشيطان على ابن سعد ، ونادى حامل الرّاية : « يا دُرَيْدُ ! أدْنِ رَايَتَك ، فَأَدناها ، ثمّ وَضَعَ سَهْمَهُ في كَبِدِ قَوْسِهِ ، ثُمّ رَمى ، فقال : اشهدوا أنِّي أوّلُ مَنْ رَمَى ، ثمّ ارتمى النَّاسُ وتبارَزُوا » (164) . وهكذا أضرمَ ابن سعد نار الحرب ، وَوَجَّه سهامه نحو مخيّم آل الرّسول (ص) ، فتبعهُ جنده ورماته يمطرون الحسين (ع) وأصحابه بوابل من السهام ، حتّى لم يبق أحد من أصحاب الحسين (ع) إلاّ وأصابه سهم . عظم الموقف على الحسين (ع) ، ثمّ خاطبَ أصحابه : «قُومُوا رَحِمَكُمُ الله إلى الموتِ الّذي لا بُدَّ منه ، فإنَّ هذه السِّهامَ رُسُلُ القَوْمِ إليكُم» (165) . لقد أصبحت هذه الفئة الحسينيّة المجاهدة الّتي لا يتجاوز عددها العشرات أمام جيش عرموم،عِدَّتُه تبلغُ الالوفَ،ومع هذا الفارق في العدد والعُدّة،فإنّ أحداً لم يتراجـع من رجال الحسـين(ع)،ولم يَنْكُص أمامهم شابٌّ ولا غلام،فاسـتجابوا للنفير،ولبّوا النداء وانطلقوا كالاُسود الضّواري يلتحمون مع العدوّ بكلِّ ما اُوتوا مِن قوّة وبأس،فاشتدّ القتال،وحمي الوطيس،ودارت رحى الحرب وغطّى الغبارُ أرجاءَ الميدان،واستمرّ القتال ساعةً من النّهار، فما انجلتِ الغُبْرَةُ ولا انْجابَ الالتحام إلاّ عن خمسين صريعاً من أصحابِ الحسين (ع) (166) . ثمّ نادى بعض أصحاب عمر بن سـعد بالبراز ، فتواثب أصحاب الحسين (ع) : حبيب بن مظاهر وبُرير وعبدالله بن عُمير الكلبي يطلبون الاذن من الحسين (ع) ويتسابقون للشهادة ، فانتدب الحسين (ع) عبدالله بن عمير للبراز ليصول في ميدانِ الشرف والجهاد ، وراح عبدالله يُنازِلُ الخصومَ ، ويُقارِعُ الاقرانَ ، ويصولُ في ميدانِ الجهاد . نظرت إليه اُمّ وهب زوجته ، وجراحات يده اليسرى تسيل وتنزف دماً ، فهالها الموقف ، واسـتنفر الغضب عزيمتها ، فحملت عمود الخيمة واتّجهت نحو الميدان ، «وأقبلت نحو زوجها تقول له : فداك أبي واُمِّي قاتلْ دون الطيِّبين ذريّةِ محمّد ، فأقبل إليها يردّها نحو النِّساء فأخذت تجاذب ثوبه ، ثمّ قالت : إنِّي لن أَدَعَكَ دونَ أن أموت معَك ، فناداها الحسين فقال : جُزِيْتُم عْنْ أَهلِ بَيْتِ نَبيِّكم خَيْراً ، ارْجِعِي إلى الخَيْمَةِ ، فَلَيْسَ عَلى النِّساء قِتالٌ» (167) . استمرّت رحى الحرب تدور في ميدان كربلاء ، وشلاّل الدم المقدّس يجري ليتّخذ طريقه عبر نهر الخلود ، وأصحاب الحسين (ع) يتساقطون الواحد تلو الاخر ، وقد أرهقوا جيش العدو وأثخنوه بالجراح ، فتصايح رجال عمر بن سعد : لو استمرّت الحرب برازاً بيننا وبينهم لاتوا على آخرنا ، لنهجم مرّة واحدة ، ولِنُرشِـقُهم بالنبال والحجارة . تقدّمت وحدات من الجيش الاموي يقودها عمرو بن الحجّاج ، وهاجمت ميمنة الحسين (ع)، فاستعمل أصحاب الحسين (ع) اسلوباً عسكرياً رائعاً، جثوا على ركبهم وأشرعوا الرماح ، فخافت الخيل وتراجعت بفرسانها ، استغلّ أصحاب الحسين (ع) إدبار الخيل ورجوعها فأطلقوا نبالهم يصطادون بها عناصر الحملة الظّالمة . عاود الجيش الاموي الحملة ، فقاد شمر بن ذي الجوشن قطعات من عسـكره ، وهاجم ميسرة الحسين (ع) ، ودارت معركة طاحنة ، استطاع الرجال الّذين بقوا مع الحسين (ع) صدّ الهجوم ، وَرَدَّ الشمر على أعقابه ، وقد أبلى فيها عبدالله بن عمير الكلبي بلاء حسناً ، وأبدى بسالة نادرة ، فَقَتَلَ تسعة عشر فارساً واثني عشر راجلاً، فسقط جريحاً ثمّ اُسِرَ وقُتِلَ صبراً . ولم تحتمل اُمّ وهب قتل زوجها وفراق الرّجل المقدام ، فاتّجهت إلى ساحة المعركة وراحت تحنو على الجسد المسجّى بقلبها المثكول ، وغُربَتِها المُفجعة ، وتَمسحُ الدمَ عن الرّأس الحُرِّ الابي وهي تقول له : هنيئاً لك الجنّة . نظر الشمر إلى صلابتها وتحدِّيها،فاستعظم موقفها وأمر غلاماً له بقتلها،نفّذ العبد أمر سيِّده،واتّجه يحمل عموداً من حديد فضرب اُمّ وهب على رأسها،فسقطت شهيدة تسبح بدم الشهادة وتعانِقُ روحَها روحَ الزّوج الحبيب،فاقتطع القتلة رأسها ورموا به نحو مخيّم الحسين (ع). استمرّ الهجوم والزّحف نحو من بقي مع الحسين (ع) ، وأحاطوا بهم من جهات متعدِّدة ، فتعالت أصوات ابن سعد ونداءاته إلى جيشه وقد دخل المعسكر يقتل وينهب : «أحرِقوا الخيامَ» ، فضجّت النِّساءُ ، وتصارخَ الاطفالُ ، وعلا الضّجيجُ ، وراحتْ ألسنةُ النار تلتهم المخيّم ، وسكّانُهُ يَفرّون فزعين مرعوبين . ها هو الجيش الاموي يهاجم مخيّم آل الرسول، وقد زالت الشمس وحضر وقت الصلاة ، وليس معقولاً أن يغيب الحسين (ع) عن الوقوف بين يدي الله ، يوحِّـده ويُسَبِّحُه ويُناجيه ، وها هو يستعين بالصبر والصلاة ، وَيشدُّهُ الشّوقُ والحبُّ الالهي المقدّس ، فينادي للصّلاة وقد تحوّلَ الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة ، وليس بوسعِ الاسِنَّةِ والسُّيوف أن تحولَ بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة ، والعروج إلى حظائر القدس ، وعوالم الجلال (168) ، والحرب لَمّا تَضَعْ أوزارَها ، والمعارِك لم يهدأ سعيرها ، فراحَ مَن بقي من أصحاب الحسين (ع) وأهل بيته (ع) ينازلون الاعداء ، ويستشهدون الواحد تلو الاخر : ولده عليّ الاكبر،أخوته:عبيدالله،عثمان،جعفر،محمّد،أبناء أخيه الحسن:أبو بكر،القاسم،الحسن المثنّى(169)،ابن اُخته زينب:عون ابن عبدالله بن جعفر الطيار،آل عقيل:عبدالله بن مسلم بن عقيل،عبدالرّحمان بن عقيل،جعفر بن عقيل،محمّد بن مسلم بن عقيل،عبدالله بن عقيل.اُولئك الابطال الاشاوس من آل عقيل وآل عليّ ابن أبي طالب،مجزّرين كالاضاحي،يتناثرون في أرض المعركة،تناثر النجوم في سماء الخريف،ويسبحون في بُرَكِ الدمِ سبحَ الشّقائق في حوض النهر. وقف الحسين (ع) بينهم ينادي،وقد أيقنَ باللّحوق بهم والاجتماع معهم تحتَ سرادق الرّحمة مع الشُّهداء والصِّدِّيقين والنّبيِّين،بعد أن حزّ في نفسه عويلُ النِّساء،وصراخ ُالاطفال، ولوعةُ اليتامى والارامل من آل محمّد(ص)ومَن رافقهم في رحلة الشهادة والخلود،وقف ينادي: « هَلْ مِن ذابٍّ عن حرمِ رسـول الله؟هل مِن مُوَحِّد يخـافُ اللهَ فينا؟هَلْ مِن مُغِيث يرجو اللهَ في إغاثَتِنا»(170). فلم يجبه غير صراخ النسوة،وعويل الاطفـال وضجيجُهُم المروِّع،لم يبق أمام الحسين(ع)إلاّ أن ينازل القوم بنفسه،ويدخل المعركة مبارزاً بفروسيته وشجاعته،وقلبُهُ يَفيضُ حُبّاً وحناناً وخوفاً على أهله وحرمه،وحرم الانصار وأيتام الشّهداء،وقد أيقنَ أ نّه لن يعود بعد هذه الحملة،فحامت عواطف الحب،ولواعج الابوّة المفجوعة حول ولده الرضيع عبدالله ، فشدّه الشوق إليه وأَجاءَتْهُ ساعةُ الفِراق نحوَهُ ، ووقفَ على بابِ الخيمةِ ينادي اُخته زينب،ويطلب منها أن تحمل إليه ولده ليطبع على شفتيه القبلة الاخيرة،ويلقي عليه نظرة الوداع. فجاءت به عمّته زينب تحمله،فرفعه الحسين(ع)لِيُعانِقَهُ ويُقَبِّلَ شفتيه الذابلتين،فسبقهُ سهمٌ من معسكرِ الاعداء إلى نحرِ الطِّفل الرّضيع(171)وحالَ بينه وبين الحياة.فراح يفحصُ رغامَ الموتِ بقدميه،ويسبحُ في مَسربِ الدم البريء،ويكتب بذلك الدمِ المقدّسِ أروعَ قصيدة في ديوان المآسي،ويخاطبُ ضميرَ الانسان عبرَ أجيال التاريخ بتلك الظليمة والفاجعة الّتي رُزِئَ بها آل محمّد(ص)في يوم عاشوراء. ما عسى أن يفعل الحسين (ع) ؟ وكيف يمكن أن يتصرّف أبٌ مفجوع وقد سالت بينَ يديه دماء طفل رضيع بريء، يناغي السماء، ويملا أحضان أبيه بالبشر والابتسامة؟ ما عسى أن يصنع الحسين (ع) وهو يرى وَلَدَهُ الرّضيعَ قد ذُبِحَ بينَ يديه ؟ وقف الحسين (ع) كالطّود الاشم،لم يضعف ولم يتزعزع،بل راحَ يجمع الدم بكفّيه ويرفعه شاكياً إلى الله،باعثاً به نحو السماء،مناجياً:«هَوَّنَ عَلَيَّ ما نزلَ بهِ،إنّهُ بِعَينِ الله»(172) . وهكذا بدأ شلاّلُ الدم ينحدر على أرض كربلاء ، وسُحُبُ المأساة تتجمّع في آفاقها الكئيبة ، وصيحات العطش والرُّعب تتعالى من حول الحسـين (ع) ، وتنبعثُ من حناجر النِّساء ، والاطفال . ركب الحسين (ع) جواده يتقدّمه أخوه العبّاس بن عليّ ، وتوجّه نحو الفرات ليحمل الماء إلى القلوب الحرّى ، والاكباد الملتهبة من آل محمّد (ص) ، فحالت جموع من العسكر دونه، اقتطعوا العبّاس عنه ، الفارس والبطل وحامل اللِّواء ، فغدا الحسين (ع) بجانب والعبّاس بجانب آخر ، وكانت للبطل الشجاع أبي الفضل العّباس صولة ومعركة حامية طارَتْ فيها رؤوسٌ وتساقطت فرسانُ ، وقد بَعُدَ العبّاس عن أخيه الحسين (ع) يصولُ في ميدان الجهاد ، حتّى وقع صريعاً (173) يَسبحُ بدمِ الشّهادةِ ويُثبتُ لواءَ الحسين الّذي حمله يوم عاشوراء في أرض كربلاء ، خفّاقاً إلى الابد ، لا تبليه الايّام ، ولا تُطأطِئُ هامتَهُ دولُ الطّغاة ، وفي الجانب الاخر كان الحسين (ع) يقتحم الميدان ويحاول الوصول إلى الفرات ، فحالت دونه وحدات عسكرية اُخرى ، ووجّه أحد رجال ابن سعد سهمه نحو الحسين (ع) فأصاب حنكه ، فانتزع الحسين (ع) السّهم وراح يستجمعُ الدمَ بيدِهِ ثمّ يلقى به ويناجي ربّه : « اللّهمّ ! إنِّي أشكُو إليك ما يُفعَل بابن بِنْتِ نَبِيَّك » (174) . وهكذا امتلا الميدان بالصّرْعى والشهداء من آل رسول الله (ص) والفئة الثائرة الّتي كتبت بدمائها الزّكيّة ملحمةَ الخلود والكفاح ، واختطّت للاجيال طريق الثورة والجهاد . نظر الحسين (ع) إلى ما حوله ، مدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم يَرَ أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح بدم الشهادة ، مُقطّع الاوصال يخطّ في مضجع الرمال من حوله الحرف المضيء والشعار الخالد : سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى إذا ما نَوى حقّاً وجاهَدَ مُسْلِما ووَاسى الرِّجالَ الصّالحين بِنَفسـه وفارَقَ مَثْبُوراً وخالَفَ مُجْرِما فإنْ عِشْتُ لَمْ أنْدَمْ وإنْ مِتُّ لَمْ اُ لَمْ كفى بِكَ ذُلاًّ أن تَعيشَ وتُرْغَما وإذن ها هو الحسين وحده يحمل سيف رسول الله (ص) وبين جنبيه قلب عليّ ، وبيده راية الحق ، وعلى لسانه كلمة التقوى . وقف أمام جموع العسكر الّتي أولغت في الجريمة واستحوذ عليها الشيطان ، ولم تفكِّر إلاّ بقتل الحسين والتمثيل بجسده الطاهر . إذن هذا هو اليوم الموعود الّذي أخبر به رسول الله (ص) وتلك هي تربَتُهُ الّتي بُشِّر بها من قبل . حمل الحسينُ (ع) سيفه ، وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها بالبراز ، وراح ينازلُ فرسانهم ، ويواجه ضرباتهم بعنف وشجاعة فذّة ، ما برز إليه خصم إلاّ وركع تحت سيفه ركوع الذل والهزيمة . تعلّق قلبُ الحسين (ع) بمخيّمه وما خَلّفتِ النّارُ والسيوفُ من صبية ونساء وبقايا رَحْلِه . فراح ينادي وقد هجمت قوّات عمر بن سعد على الحسين (ع) وطوّقته وحالت بينه وبين أهله وحرمه ، فصاح بهم : «أنا الّذي اُقاتِلُكُم والنِّساءُ ليسَ عَلَيهِنّ جُناح ، فامنعوا عُتاتَكم عن التّعرُّضِ لِحُرَمي ما دُمتُ حيّاً» (175) . صُمّتْ أسماعُ وقلوبُ اُولئكِ الاجلافِ عن قول ابن بنت رسول الله (ص) ، وتقدّم شمر بن ذي الجوشن وعشرة من رجاله نحو مخيّم الحسين الّذي فيه عياله فصرخ فيهم الحسين : «ويلكم إنْ لم يكن لكم دينٌ وكنتم لا تخافون يوم المعاد ، فكونوا أحراراً ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي مِن طُغامكم وجُهالكم ، قال ابن ذي الجوشن : ذلك لك يا ابن فاطمة». استمرّ الهجوم عنيفاً والحسين(ع)في بحر الجيش العرمرم،يجالد العسكر،حتّى سدَّد أحد جنود الاعداء سهماً نحو شخصه الشريف،فاستقرّ السهم في نحره.وراحت ضرباتُ الرِّماح والسيوف تمطرُ جسدَ الحسين(ع)حتّى لم يستطع مقاومة الالم والنزف وقد استحالت صفحاتُ جسدِهِ الطّاهرِ كتاباً قد خَطّتْ عليه الجِراحُ والالامُ بمدادِ الدم أروعَ ملاحِمِ التاريخ ، وكَتَبَتْ أقدسَ مواقف البطولة والشرف ; فكان الجُرح في جسده أروع حرف يُكتب في سطر الخلود . قُرِئَت تلك الحروف الجِراح فكانت سبعاً وستّين(176) حرفاً ، تروي بصمتها الناطق قصّةَ الكفاح والجهاد ، وتُدَوِّن بعمقها المتأصّل فُصولَ الاسى والظّليمة . عانقَ الحسينُ(ع)صعيدَ الطّفوف،واسترسلَ جسدُهُ الطّاهرُ ممتـدّاً على بِطاح كربلاء لينتصبَ مِن حوله مشعلُ الحرِّيّة والكفاح،ويجري من شريان عنقِهِ شلاّلُ الدم المقدّس. إلاّ أنّ روح الحقد والوحشية الّتي ملات جوانحَ الجُناة لم تكتف بذلك الصّنيع ، ولم تستفرغ أحقادَها في حدودِ هذا الموقف ، بل راحَ شمر بن ذي الجوشن يحملُ سيفَ الجريمة والوحشية ويتّجه نحو الحسين (ع) ليقطعَ غُصناً من شجرةِ النبوّة ، وليثكُلَ الزّهراء بأعزِّ أبنائها . لِيَفصلَ الرّأسَ عن جسدِهِ ويحملَهُ هديّةً للطّغاة ، الرّأسَ الّذي طالما سجد مُخلِصاً لله ، وحَملَ اللِّسانَ الّذي ما فتئ يُردِّد ذكر الله ، وينادي : « لا اُعطِيكُم بِيَدِي إعطاء الذَّليلِ ، وَلا اُقِرُّ إقرارَ العَبيد » . الرّأسَ الّذي حَملَ العِزّ َوالاباءَ ، ورفضَ أنْ ينحنيَ للطُّغاةِ ، أو يُطأطِئَ جبهتَهُ للظّالمين . فأكبّ الحسينُ (ع) على وجهِهِ ، وراحَ يَحْتزُّ رأسَ الشّرفِ والاباءِ ويحول بينه وبين الجسد الطّاهر. وهكذا وقعتِ الجريمةُ ، وولغَ القَتَلَةُ بدمِ الحسين (ع) والصّفوةِ الابرارِ مِن أصحابهِ الميامين ; وحُملَ الرّأسُ لينتصبَ وساماً خالداً ، وشعاراً مجيداً على رأس رمح يَجُوبُ أرضَ الكوفةِ والشّامِ ، ليعودَ مِن جديد فيستقِرَّ في كربلاء ، إلى جوار الجسدِ الشّهيد . وتوارى نجم الحسين (عليه السلام) إنجلت الغبرةُ ، وهدأ صهيلُ الخيلِ ، وسكتتِ الجيادُ عن الحَمْحَمةِ . وخَبَتْ بوارِقُ السّيوفِ ، ونكّستِ الرِّماحُ رؤوسَها ، ووجَمَ الكونُ ، وأسرعتِ الشّمسُ غَضْبى إلى زاويةِ المغيب ، واشرأبّتْ بجيدِها صحراءُ الطّفِّ وتِلاعُها ترقبُ الحادثَ الجَلَلَ ، وطوتِ النّخيلاتُ المتناثرةُ على حرفِ الصّحراءِ أطرافَها ، وقد تباعدتْ مِن حول الميدان ، وودّتْ أنْ لم يَنبُتْ بها القَدَرُ على أطرافِ هذهِ الارضِ المشؤومةِ لِئَلاّ تُشرَكَ بدمِ الحسينِ (ع) ، وسرى حفيفُ الرِّيحِ بِخُطى الثّاكلِ الحزينِ ينعى الجسدَ المُسجّى ، وينسجُ مِن سَفسافِ الرِّمال أكفاناً ، لِيُغَطِّيَ الاجسادَ الزّاكياتِ الطّواهِرَ ، الّتي مزّقتها أسنّةُ الرِّماحِ ، وعَبثتْ بها شَفراتُ السّيوفِ ، ورَكَلَتْها حوافِرُ الخيل . ها هو الحسينُ (ع) رجلُ العقيدة والمبدأ ، سِبْطُ النبيّ ، وريحانةُ الزّهراء ، قد أمسى مُقطَّعَ الاوصالِ ، مُمزَّقَ الاعضاءِ ، قد رُحِّلَ رأسُهُ الطّاهِرُ ، وحيلَ بينَهُ وبينَ الجسدِ بحدِّ السّيوف ، وها هو جسدُهُ الشّريفُ عار قد سُلِبَ مِن كلِّ لباس ، لا يسترُهُ شيء غير غبار المعركة ، وبُرْكة الدم الطّاهر الابي ، وها هي جموعُ الجريمة ترقبُ المشهدَ عن كَثَب ، وتتأمّلُ في جسدِ الحسين (ع) وأجسادِ الرِّجالِ الّذين تساقطوا مِن حوله . المنظرُ كئيبٌ، والجريمةُ بَشِعَةٌ ، وشلاّلُ الدمِ ، ينحدرُ في أرضِ الطّفوف . والاجسادُ أجسادُ القتلى ، تتناثرُ في رحابِ الميـدانِ تَناثُرَ النجوم في اُفق السّماء ، أبو الشهداء ، الحسين السبط (ع) وسبعة عشر من إخوته وأبنائه وأبناء عمومته وبني أخيه ، وستّون من(177) أصحابه ، يملاونَ اُفقَ الميدان ، وعلى مَدى ساحة النِّزال . وعلى مَقرُبَة مِن أرضِ المعركةِ قد ضربَ مُخيّم الحسينِ (ع) أطنابَهُ ، ليسَ فيه إلاّ النِّسوةُ والاطفالُ الصِّغارُ ، وإلاّ عليّ بن الحسين السجاد (ع) الّذي قعدَ به المرضُ العِضالُ عَن البروزِ إلى ساحةِ القتال . ثمّ أمر قائد الجيش عمر بن سعد مجموعةً مِنَ الفرسان أن يطؤوا بحوافر خيولهم صدرَ الحسينِ وظهرَهُ ، فداسوا الحسينَ حتّى رضّوا ظهرَهُ وصَدْرَه (178) . ها هيَ خيول الاعداء تستأنفُ الحملةَ على أجسادِ القتلى ، تدوسُها بأحقادِها ، وتَرضُّها بحوافرِها، لِتَطأَ قلبَ الحسين (ع) وصدرَهُ بِطُغيانِها، وها هيَ أوباشُ العسكرِ الاموي تتّجه بحقد ووحشيّة نحوَ مُخيّم النِّساء . تعالى صراخُ النّسوة ، واستولى الفزعُ على قلبِ المخيّمِ الكئيبِ ، وتعلّقَ الصِّغارُ المذعورون بأذيالِ الاُمّهات البواكي . الغارةُ تقتربُ ، وصوتُ الحسين (ع) قد خبا ، وحَمْحَمَةُ الخيلِ وَقَعْقَعَةُ السِّلاحِ تملاُ جَوَّ المعركةِ بالرُّعبِ والفَزَع . دارت العيون المذعورة من حول المعركة ، وتعالت صيحات الاستغاثة : أين أنت يا حسين (ع) ؟ أما ترى اُولئك الاجلاف القُساة قد أغاروا على حُرَمِكَ ؟ أمّا تسمعُ صِراخَ الاطفال ؟ ألا يصِلُكَ صوتُ النِّساء ؟ هل حالَ القدر بيننا وبينك ؟ لقد اقتحمت العساكر المتوحِّشة مخيّم الحسين (ع)، وسلبت نساءَهُ وأطفالَهُ، فأمسوا بينَ صبيٍّ قد انْتُزِعَ قِرْطُهُ مِن اُذُنِهِ والدمُ يسيلُ على صدرهِ ، وهوَ يصرخُ ألماً ويلوذُ بأمٍّ لاتستطيعُ أن تدفَعَ عنهُ عُدوانَ القُساةِ، وبينَ امرأة تستغيثُ مِن الضّرْبِ والسّلبِ ، كلُّ هذهِ الملحمةِ ولهيبُ النّارِ يَلتَهِمُ مُخيّمَ الحسين (ع) ، وألسِنَةُ الدّخانِ تُغطِّي سماء المعركة . حدثَ كُلُّ ذلك ، المعركةُ ، وسَلْبُ المخيّم وأَسْرُ مَن فيهِ في نهارِ عاشوراء ، لم يَرحموا فيهِ طفلةً مفجوعةً ، ولا اُمّاً ثكلى ، ولا صبيّاً بريئاً ، حتّى روى الطبري في الجزء الرّابع ، صفحة 346 من كتابه «تاريخ الاُمم والملوك» : أنّ « المرأةَ كانت لَتُنازِعُ ثَوْبَها عَن ظَهْرِها حتّى تُغلَبَ عليه ، فيُذهبَ بهِ منها » . وقُطِّعت الرؤوسُ(179) ، رؤوسُ الشّهداء ، وغُرِزَ بها رؤوس الرِّماح ، وتقاسم حملها القتلة الّذين شاركوا في صنع الجريمة . وسرى موكبُ الرؤوس وقد خلّفت أجسادَها في ساحة الوغى ، تأ لّقت الرؤوسُ أنجماً على أطرافِ الرِّماح ، يتقدّمها رأسُ الحسين (ع) على رأس رمح طويل، يحمله خِولّى بن يزيد الاصبحي، وحميدُ بن مسلم الازدي، في حين وُكِّل بباقي الرّؤوس الابيّـة شمر بن ذي الجوشن ، وقيس بن الاشعث ، وعمرو بن الحجّاج ، ساروا برؤوس آل محمّد ، ورؤوس الكوكبة الابيّة من أصحاب الحسين (ع) هدايا يتقرّبون بها إلى عُبيدالله بن زياد ، والنِّساء الثّواكل ، والصِّبية المُرَوَّعَة ينظرونَ إلى رؤوسِ الاباء والازواج ، والابناء ، والاخوة ، والاحبّة ويودِّعونها وهي تقطرُ دماً ، وتكتبُ أروع فصول التاريخ بحروف لم تزل تنضح بذلك الدم الطّاهر الابيّ ، وتُرتِّل آيَ الشّهادة مِن فوق منابر الرِّماح . وقبلَ أن نودِّع أرض المعركة ، ونُشيِّع الرّؤوسَ الرّاحلةَ عن أجسادِها ، فلنقف إلى جوارِ شاعر((180)) وقفَ بعد ثلاثة عشر قرناً يصفُ المعركة، ويَصوغُ عواطفَ الاسى، ومشاعِرَ الحُزْنِ رِثاءً وقوافِيَ، ويندبُ الحسينَ (ع) وكأ نّهُ إلى جوارِ زينب والرّباب((181))، يطلّ على ساحة النِّزال ، ويَشهدُ الجُثَثَ الطّاهراتِ الزّواكيَ ، ولنستمعْ له وهو يردِّد : فغَدوا حَيارى لا يَرَونَ لِوَعْظِه إلاّ الاسِنّةَ والسِّهامَ جَوابا حتّى إذا أسِفَت عُلوجُ اُميّة أن لا ترى قَلْبَ النَبيِّ مُصابا صَلّت على جِسمِ الحُسينِ سيوفُهُمِ فَغَدا لِساجدَةِ الظُّبى مِحْرابا ظَمآنَ ذابَ فؤادُهُ من غُلَّة لَوْ مَسَّتِ الصّخْرَ الاَصَمَّ لَذابا لَهفي لجِسمِكَ في الصَّعِيدِ مُجرّداً عُريانَ تَكسوهُ الدِّماءُ ثِيابا تَرِبَ الجَبِينُ وعَينُ كلِّ مُوَحِّد وَدَّت لِجِسْمِكَ لَو تكونُ تُرابا لَهفي لِرأسِـكَ فَوقَ مَسلوبِ القَنا يَكسوهُ مِنْ أَنوارِهِ جِلْبابا يَتلو الكتابَ على السِّنان وإِنَّما رَفعوا بِهِ فَوقَ السِّنانِ كِتابا لِيَنُحْ كِتابُ الله مِمَّا نَابَهُ وَليَنْثَنِ الاِسلامُ يَقْرَعُ نَابا وهكذا بدا كلُّ شيء واجماً تلفّه الوحشةُ ، ويُغطِّيه وِشاحَ الحُزنِ المروِّع ، حتّى وجهُ القمرِ بدا شاحِباً يرمقُ المشهدَ الكئيبَ بلوعة واشمئزاز ، وحتّى الصّحراءُ وتلك النياقُ العُجَّف أحاطَها صمتٌ رهيب . سرى موكب الرّؤوس يخترقُ جوفَ الصّحراء ، يقودُهُ اُولئكَ القَتَلَة ، يستحثونَ الابل ، لِيَلْحَقوا بأميرِهِم ، ولِيُبَشِّروهُ بالفجيعةِ ، وليُقَدِّموا إليهِ رأسَ الحسين (ع) والرّؤوسَ الطّواهِر هديّة يلتمسون لها ثمناً . لقد سفكوا دماً حُرّاً ، وقتلوا إماماً هادياً كي يحظوا بدراهم معدودات ، ويكسبوا ثناءً تافهاً من سيِّدهم الاثم عُبيدالله بن زياد .   مصارع الشُّهداء رحل((182)) موكب السبايا من أهل بيت النبوّة ، ومَن رافقهم ، وليس فيهم إلاّ نسوة وصبية وعليّ بن الحسين السجّاد((183)) (ع) ، وبقيت جثث الشُّهداء تذرو عليها الرِّياحُ سوافي الرِّمال ، وتطوِّقها بركُ الدماءِ ، قد حيل بينها وبين الرّؤوس الطواهر . بقيت تلك الجثث الزاكيات مطرحة في ميدان القتال،فهنا يربض جسد الحسين(ع)، وهناك يمتدّ جثمان أخيه العباس،وهنا تتحلّق نجومٌ مِن أجسام آل أبي طالب،وترقدُ جثمانُ كواكب الانصـار،فهم متناثرون يملؤون أرض المعركة،فكانت بهم سماءً،وكانوا فيها أنجماً. لقد رحل السجّاد (ع) ، وهو ينوء بحمل القيود وسلاسل الاسر ، ويبعث بزفرات الحزن ودموع الاسى ، وقلبُهُ يتلفّتُ ، ويحومُ حولَ أرضِ المعركة ; ودّع الموكبُ الاسيرُ جسدَ الحسين (ع) ، وبودّه لو لم يُدلجْ في المسير ، ولو يُترَكْ ليقيم إلى جوار الاجساد الزّواكي ، مضى الرّكب وغابَ في مساربِ الصّحراء ، وبقي خيالُ الشّعراء ، ولوعة الاُدباء تحومُ حولَ الميدان وترسمُ بقوافيها لوحةَ الطفِّ حمراءَ داميةً تنضحُ بالدم ، وتفيض بمشاعر الحزن واللّوعة ، وتذكي روح الكفاح والثورة . لنقرأ هاتين القطعتين الشعريتين اللّتين تصوِّران شيئاً من عمق تلك المأساة ، قال الشاعر عبدالسّلام بن رغبان المشهور باسم ديك الجن : جاؤوا برأسِكَ يا ابنَ بنتِ محمّد مُترمِّلاً بدمــائِهِ تَرميلا وكأ نّما بِكَ يا ابنَ بنتِ محمّد قتلوا جِهاراً عامِدينَ رَسولا قتلوكَ عطشـاناً ولمّا يَرْقبـوا في قتلِكَ التأويلَ والتنزيلا ويُكَبِّرون بأنْ قُتِلْتَ وإنّما قَتَلوا بِكَ التكبيرَ والتهليلا وقال الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعرِّي : وعلى الدّهرِ مِن دماءِ الشّهيديـ ـن عليٍّ ونجلِهِ شاهدانِ فهما في أواخرِ اللّيلِ فَجـرا نِ وفي أولياتِهِ شَـفَقان (184) لنترك الشعراء في ناديهم ولننضم إلى اُولئك الرجال من بني أسد ، من سـكّان الغاضرية ، الّذين وقعت المعركة على مقربة من ديارهم ، فقد خرجوا يتفحّصـون القتلى ، ويتسقّطون أنباء المعركة ، بعد أن رحل جيش عمر بن سعد ، وبقيتِ الجُثَثُ مُطرّحةً في مصارعها ثلاثةَ أيّام ، تنتابُها الوحوشُ ، وتَسفي عليها الرِّياحُ ، وتلفَحُها حرارةُ الشّمس المحرقة (185) . توجّه رجال من بني أسد : «وكانوا نُزولاً بالغاضِريّة إلى الحسين (ع) وأصحابه، فصلّوا عليهم ودفنوا الحسينَ (ع) حيثُ قبرُهُ الانَ ، ودَفَنوا ابنَهُ عليّ بن الحسين الاصغر (ع) عند رجله وحفروا للشّهداء من أهلِ بيتهِ وأصـحابهِ الّذين صُرِعوا حوله ممّا يلي رجلي الحسين (ع) وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً ، ودفنوا العباس بن عليّ (ع) في موضعه الّذي قُتِلَ فيه على طريق الغاضرية حيث قبرُهُ الان» (186) . وهكذا ربضَ جسدُ الحسين (ع)، على مقربة مِن شاطئ الفرات في أرض كربلاء(187)عَلَماً تهوي إليه الافئدة، ومَناراً يُنيرُ الدّربَ للثّوّارِ ، والتحقَ هو بالشُّهداء والصِّدِّيقين والصّالحين والنبيِّين وحَسُنَ اُولئكَ رفيقاً ; بعد أن اختَطّ الدّربَ للثّوّار ، وثَبّتَ مَبدأَ الثّورةِ طريقاً للاحرار .   السّبايا العائدون سارت الابل تُطأطِئُ رؤوسَها حياءً،وهي تحملُ آلَ محمّد(ص)اُسارى إلى عُبيدالله بن زياد.سارت نحو الكوفة بُعيد الظّهر مِنَ اليوم الثاني من أيّام الفاجعـة(اليوم الحادي عشر). زحفَ الرّكب الاسير،وليس حوله إلاّ البيدُ والقِفارُ وذكرياتُ ذلك اليوم المؤلم الفجيع وليلة الفراق الموحشة،ليلة الحادي عشر،الّتي قضوها على مقربة من مصارع الشُّهداء. وإلاّ اُولئك القساة الجفاة القتلة الّذين يتلذّذون بألم الاُسارى ، ونَدبِ الصّبايا المفجوعة وعويل النِّساء الفاقدات ، وآلام عليّ بن الحسين وهو يحمل أثقال السّلاسل، ويعاني من ذلك المرضِ العضال . دخل الرّكب الكوفة ، ففزع مَنْ فيها ، وخرجت الناس إلى الشّوارع والطّرقات ، بينَ مُتسائل لا يدري لمن السّبايا ، وبينَ عارف بِهَوْلِ الكارثة ، يكفكفُ أدمعاً ، ويضمرُ ندماً ، ويحسُّ بعذابِ الضّمير ، ولوعةِ الخذلان . اخترق موكب آل محمّـد (ص) الفجيع جموع أهل الكوفة ، متّجهاً إلى قصر الامارة ، وهم ينظرون ويبكون لِما حَلَّ بالبيتِ النبوي الكريم ، ولما اكتسبت أيديهم ، وخَدَعَتْ وعودُهُم سبطَ رسول الله (ص) وإمامَ المسلمين الحسين بن عليّ (ع) ، وها هم يرون أهله ونساءه ونساء أصحابه سبايا اُسارى يُسامونَ سوءَ العذاب مِن آل زياد ، وها هو رأس السِّبط الشّهيد يُحلِّقُ في سماء الكوفة ويَطلُّ مِن عليائهِ من فوق رأس رمح طويل، وقد دُعيَ ليكون قائد هذه الاُمّة، وإمامها الهادي إلى سبيل الرّشاد. حدّقت زينب بنت عليّ بن أبي طالب الجموع المحتشدة،ومرارة الفقد تملا فمها، ودماء الحسين(ع)تجري أمام عينها،وذلّ الاسر يحيط بموكبها،نظرت إلى أهل الكوفة نظرةَ غضب واحتقار،وخَطَبَتْهُم مُقَرِّعةً مؤنِّبة،بعد أن أشارت إليهم بالسكوت، فارتدّت الانفاس وخَمدتِ الاصوات ونكست الرؤوسُ تنتظرُ سماعَ الكلمة الّتي ستقولها عقيلة بني هاشم،زينب،بنت فاطمة الزّهراء،اُخت الحسين الشّهيد،فتوجّهت إلى أهل الكوفة بقولها : « الحَمْدُ للهِِ والصَّلاةُ على أبي محمّد وآله الطيِّبين الاخيار . أمّا بَعدُ، يا أهلَ الكوفة ، يا أهلَ الختلِ والغَدْر ; أتبكونَ ، فلا رَقأتِ الدّمعةُ ، ولا هَدأتِ الرّنّةُ ، إنّما مَثَلُكُم كمَثَلِ الّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعدِ قُوّة أنكاثاً ، تتّخِذونَ أيمانَكُم دَخَلاً بينكم ، ألا وهلْ فيكُم إلاّ الصَّلِفُ النَّطِفُ والصَّدْرُ الشَّنِفُ ، ومَلَقُ الاماءِ ، وغَمزُ الاعداء ، أو كمرعىً على دِمنة ، أو كفضّة على مَلْحودة ، ألا ساءَ ما قَدَّمتْ لَكُم أنفسكم أنْ سَخِطَ الله عليكم ، وفي العذابِ أنتم خالِدون ، أتبكونَ وتنتحبونَ ، إي والله فابكوا كثيراً ، واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتُم بِعارِها وشنارِها ، ولَنْ تَرْحَضُوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضونَ قتلَ سليلِ خاتم النبوّة ، ومعدنِ الرِّسالة ، وسيِّدِ شبابِ أهلِ الجنّة ، وملاذِ خيرتكم، ومَفزعِ نازِلَتِكم، ومنارِ حجّتكم، ومَدرَهِ سُنّتِكُم، ألا ساءَ ما تَزِرون، وبُعْداً لكم وسُحْقاً ، فلقد خابَ السّعْيُ وتَبّت الايدي ، وخَسِرَت الصّفْقَةُ ، وبُؤتم بِغَضب مِنَ الله ، وضُرِبَت عليكُم الذِّلّةُ والمَسْكَنَةُ ، ويلكم يا أهل الكوفة : أتدرونَ أيّ كبد لرسولِ اللهِ فريتُم ، وأيّ كريمة لهُ أبرزتُمْ ، وأيّ دَم لهُ سفكتُمْ ، وأيّ حُرْمَة لهُ انتهكتُم ، ولقد جئتُم بها صَلعاءَ عَنقاءَ سَوداءَ فَقْماء ، ـ وفي بعضها ـ خَرْقاء ، شَوْهاءَ كَطلاعِ الارضِ أو ملءِ السّماء ، أفعجبتُم أنْ مطرتِ السّماءُ دماً ، ولَعذابُ الاخِرَةِ أخزى وأنتم لا تُنصرون ، فلا يَسْتَخِفَنّكُم المهلُ ، فإنّه لا يحفِزُهُ البِدارُ ، ولا يخافُ الثأر ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد » (188) . وسارَ الموكب الحزين يخترق شوارع الكوفة ويتّجه صوب قصر الامارة ليقف السبايا من آل محمّد (ص) ، ومن شاركهم محنة الطف وشرف الشهادة أمام عبيدالله ابن زياد ، وهو جالس في القصر قد فتح أبوابه لاستقبال الناس وقبول التهاني بالنصر وإرهاب من يحاول تحدِّي السّلطة الامويّة هناك . جلس وبين يديه رأس الامام الحسـين (ع) يعبث به ويضربه بقضيب في يده وعليه علامات الفرح والنّشوة . أثار هذا الموقف الدنيء شيخاً صحابياً مسنّاً (زيد ابن أرقم) فصاح بابن زياد وهو يضرب وجه الحسين (ع) بقضيبه : «إرفع قَضِيبَكَ عن هاتين الشَّفَتين ، فَوَالله الّذي لا إله غيرُهُ لقد رأيتُ شَفَتَي رسـول الله (ص) عَليهما ما لاَ اُحصيهِ ، ثمّ انتَحَبَ باكياً ، فقال ابن زياد : أبكى الله عَيْنَكَ ، أَتبكي لِفَتْحِ الله ، ولولا أ نّك شيخ قد خَرِفْتَ ، وذهب عَقْلُك لَضَربْتُ عُنُقَك» . غضب زيد بن أرقم فخرج من مجلس ابن زياد يُكَفكِفُ دموعَهُ وتتجسّد أمام عينيه صورة رسول الله (ص) وهو يحتضن حسينَهُ الحبيبَ أيّام طفولته ، ويحمله على صدره ، وقد اشتهر عن زيد انّه قال عند خروجه وقد سمعه الناس : «أنتم يا معشرَ العرب ! العبيدُ بعد اليوم ، قتلتم ابنَ فاطمة ، وأمّرتم ابنَ مرجانة ، فهو يقتل خيارَكُم ويستعبدُ شرارَكُم ، فرضيتُم بالذلِّ ، فبُعداً لمن رضي بالذل» (189) . وما أن غاب الشيخ الصحابي حتّى قدمت السّبايا (190) تُحْمَل إلى قصر الامارة . واُدخلت النِّساء والاطفال وعليّ بن الحسين السـجّاد ، على ابن زياد ، فانبرى ابن زياد مخاطباً زينب (اُخت الحسين) ، المرأة الّتي حملت راية الثورة والتعريف بأهداف الحسين (ع) (بعد استشهاده) طيلة حياتها الّتي لم تدم طويلاً ، مخاطباً إيّاها وشامتاً بها : «الحَمْدُ للهِِ الّذي فَضَحَكُم وقَتَلَكُمْ وأَكذَبَ أُحْدُوثَتَكُم» (191) . جاءه الردّ صاعقةً تمزِّقُ سكونَ المجلس الرّهيب وتتحدّر على لسان زينب ، المرأة الواثقة بالله ، الصّابرة على قضاء الله ، المؤمنة بأهدافها : «الحمدُ للهِِ الّذي أكرمَنا بنبيِّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وطهّرنا من الرِّجس تطهيراً (192) ، إنّما يُفتَضَحُ الفاسِقُ ويُكذَبُ الفاجِرُ وهو غيرُنا . فقالَ ابن زياد : كيفَ رأيتِ فِعْلَ الله بأهلِ بيتـك ؟ قالت : كتبَ الله عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضـاجِعِهم ، وسيجمعُ الله بينكَ وبينهم فتُحاجّونَ إليه ، وتَختَصِمون عنده» (193) . واستمرّ الكلام سجالاً بين زينب وابن زياد ، حتّى جيء بعليّ بن الحسين السجّاد (ع) ليقف أمام عبيدالله بن زياد . فتساءل ابن زياد : من أنت ؟ أجاب الامام السجّاد : أنا عليّ بن الحسين . سأل ابن زياد : أ لَم يقتُلِ اللهُ عليَّ بن الحسين ؟ فردّ السجّاد : كان لي أخ يُسمّى عليّاً قتلَهُ النّاس . فقال ابن زياد : بل قتلَهُ اللهُ . فردّ السجّاد : «اللهُ يتوفّى الانفُسَ حينَ موتها» . استثار موقفُ السجّاد الصّلبُ وردُّهُ المُواجهُ ابن زياد ، فراح ينادي الجلاوزة : اضربوا عنقه. فتعلّقت عمّته زينب به وصاحت : «يابن زياد حَسْبُك من دمائنا ، والله لا اُفارقهُ ، فان قتلته فاقتُلْني معه» (194) . تراجعَ ابن زياد، وخرجَ من المجلس إلى المسجد ليخطب الناس ويُبَلِّغ بقتل الحسين (ع) وانتصار يزيد . سمعه عبدالله بن عفيف الازدي(195) ، يخطب الناس ويقول : «الحمدُ للهِِ الّذي أظهرَ الحقَّ وأهلَهُ ، ونصرَ أميرَ المؤمنينَ يزيدَ وحِزبَهُ وقتلَ الكذّابَ ابن الكذّابَ الحسين بن عليّ وشيعته» (196) . فاستشاطَ الازدي غضباً ، ووقف بجرأة الرِّجال يتحدّى الصَّلَفَ والغُرورَ ، ويمزِّقُ أجواءَ الارهاب الّتي فرضها السّيفُ والسّوطُ، فردّهُ ردّاً عنيفاً قائلاً: «يا ابن مرجانة! إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنتَ وأبوكَ والّذي ولاّكَ وأبوه ، يا ابن مرجانة! أتقتِـلُونَ أبناءَ النبيِّين وتتكلّمونَ بكلامِ الصِّدِّيقين» (197) . وقعت الكلمات الجريئة هذه على ابن زياد وقعَ الصّاعقةِ وهو متسربلٌ بكبرياءِ الامارة ، ونشوةِ النّصر الاثيم ، فلم يجد مَلاذاً للخروج من هذا الموقف الصّعب إلاّ الامر بقتل الازدي الشّجاع ، إلاّ انّه اصطدم بسبعمائة رجل مِنَ الازد يحولون بينه وبين عبدالله بن عفيف . ولم يهدأ غضبُهُ وحقدُهُ ، بل لاذَ بالغدر وانتظر سانحةَ اللّيل وهجعةَ العيون ، فبعثَ بمجموعة من جلاوزتِهِ لتغير على الازدي وتخرجه من بيته ، ثمّ قُتِلَ وصُلِبَ ، فراحَ شهيداً يُردِّد كلمة الحق ، ويَجْبَهُ بها وجه الطّغاة . لم يقف حقد ابن زياد وقساوته واسلوبه الوحشي إلى حدٍّ ، بل راحَ يطوفُ في اليوم الثاني برأس الحسين (ع) في شوارع الكوفة ، يرهبُ أهلَها ، ويتحدّى روح المعارضة والمقاومة فيها . اُعيد الرّأس الشّريف إلى القصر ، ليأخذ طريقه إلى الشّام نجماً يتأ لّق في هامِ الرِّماح ، وشعاراً لا يهبط من علياءِ المجد ، ووساماً يزيِّن صدر التاريخ ((198)) . تقدّم رأسُ الحسين (ع) رؤوسَ الكوكبة الّتي خُلِّفتْ أجسادها في صحراء الطّف ، وراحَ الموكب الالق يخترق صحراء العراق ، ورأس الحسين (ع) يشرف من عليائه سماءً لا تظلّها سماءٌ ، وآية تُتلى في مصحف الشّهادة لا تنسـخها آية ، وراية تقـود جحافل الثّوّار لا تعلوها راية . وسارَت خلفه زينب (اُخته) وقد تسلّمت لواء الثورة يوم أغمدَ الحسينُ (ع) سيفَهُ لِتَنتَضِيَ حُسامَ الكلمة ، وتُبشِّرَ بقيمِ الحسين (ع) . التحقَ ركب النِّساء والاطفال والسجّاد عليّ بن الحسين ، الّذي وُضِعَت السّلاسل بيدهِ وجُمِعَت إلى عنقه(199) وحُمِلوا جميعاً على «أقتابِ الابلِ الّتي كانت بغيرِ وِطاء» (200) . التحقوا بموكب الرّؤوس الّذي سبقهم في المسير، وراحوا يسيرون سواءً إلى جنب رأس الحسين (ع) إلى دمشق عاصمة الخلافة ، بناءً على أوامر صادرة من يزيد بن معاوية كتبها في رسـالة إلى ابن زياد قال فيها : «سَرِّحِ الاُسارى إليَّ»(201) ، فقد أراد هذه المرّة أن ينفِّسَ عن حقدِهِ برؤيتِهِ عائلةَ رسـول الله (ص) تقفُ أمامه وهي في القيود والسّلاسل . الرّؤوس تتقدّمُ المسيرةَ ، والسجّادُ وزينبُ وباقي النِّساء والاطفال يُساقون قَسْراً خلفَ رأس الحسين (ع)، والقلوبُ تحومُ حولَهُ ، والنفوس تذوبُ أسىً ولوعةً لمنظره .   في عاصمة الخلافة ابتهاجاً بقتل ابن بنت رسول الله (ص) وسبي ذرّيتِهِ وحملِ رؤوسِ قَتْلاهم إلى دمشق عاصمة الخلافة ، فقد أمر الخليفة يزيد بتزيينِ العاصمةِ وتعليقِ الزِّينةِ وتسييرِ مجاميعَ مِنَ الرّاقصاتِ في الشّوارعِ وهُنّ يرقُصْنَ على أنغامِ الطّبول والدّفوف (202) . واجتاز موكبُ السّبايا والرّؤوسِ شوارعَ المدينة ، حتّى وصل إلى بلاط يزيد ، الّذي كان مَزْهوّاً بقتله للحسين، وقد وضع على رأسه تاجاً مُكلّلاً بالدُّرِّ والياقوت(203). ودعا إليه «أشرافَ أهلِ الشّام وأجلسَهُم حوله» (204) . ثمّ جيء برؤوس الشُّهداء يتقدّمها رأسُ الحسـين (ع) ، وكان بِيَدِ يزيد قضيبٌ فجعل يضربُ به فَمَ الحسين (ع) ، «فقال رجلٌ من أصحابِ رسول الله (ص) يُقال له أبو بَرزة الاسلمي : أتنكتُ بقضيبكَ في ثغرِ الحسين ؟ أما لقد أخذَ قضيبُكَ مِن ثغرِهِ مَأخذاً لربّما رأيتُ رسولَ الله (ص) يرشفُهُ ، أما إنّكَ يا يزيد تجيء يوم القيامة وابنُ زياد شفيعك ، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمّد (ص) شفيعه ، ثمّ قام فَوَلَّى» (205) . لقد قُتل عددٌ من آل اُميّة وهم مُشركون في واقعة بدر كما هو معلوم ، وظلّ الحقد يغلي في قلوب أفراد هذه الاُسرة حتّى وصل الامر إلى يزيد الّذي ما أن وضع رأس الحسـين (ع) أمامه حتّى تمثّل بأبيات شاعر من مشركي قريش هو ابن الزّبعرى يتحسّر فيه على قتلى المشركين ببدر وهي : لَيْتَ أشياخي بِبَدْر شَهدوا جَزعَ الخزرج مِن وقعِ الاسل لاهلّوا واستَهَلّوا فرحاً ثمّ قالوا لي هنيّاً لا تسل قال عامر الشعبي : وأضاف يزيد على تلك الابيات بيتين هما : لعبت هاشِمُ بالمُلْكِ فَلا خَبرٌ جاءَ ولا وحيٌ نزل لَستُ مِن خندف إن لم أنتَقِم مِن بني أحمدَ ما كانَ فعل (206) وقد رافقَ وصول سبايا آل بيت رسول الله (ص) إلى دمشق أيضاً حملة إعلاميّة مضلِّلة ، تقول : إنّ اُولئك السّبايا خوارج خرجوا على الخليفة الشرعي يزيد فقتلهم وجيء بنسائهم وأطفالهم ، وأشاعوا ذلك بين الجماهير ، وأمروها بإظهار معالم الزِّينة والفرح ، وقد صدّق بعض الناس ذلك حتّى أنّ المؤرِّخين رووا الواقعة التالية : « اُتيَ بحرمِ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) حتّى اُدخلوا مدينة دمشق من باب يُقالُ له باب توماء ، ثمّ اُتي بهم حتّى وقفوا على درج باب المسجد حيث يُقام السّبي ، وإذا بشيخ قد أقبلَ حتّى دنا منهم وقال : الحمد لله الّذي قَتَلَكُم وأهلَكَكُم وأراح الرِّجالَ مِن سَطْوَتِكُم وأمْكَنَ أميرَ المؤمنين منكم . فقال له عليّ بن الحسين : يا شيخ ! هل قرأت القرآنَ ؟ فقال : نعم ، قد قرأتُهُ . قال : فعرفتَ هذه الاية : (قُلْ لاَ أَسْأَلَكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي ا لْقُرْبَى ) ((207)) ؟ قال الشيخ : قد قرأتُ ذلك . قال عليّ بن الحسين (رضي الله عنه) : فنحنُ القُربى يا شيخ ، قال : فهل قرأتَ في سورة بني إسرائيل : (وَآتِ ذَا ا لْقُرْبَى حَقَّهُ ) ((208)) ؟ قال الشيخ : قد قرأتُ ذلك . فقال عليّ (رضي الله عنه) : نحنُ القُربى يا شيخ، ولكن هل قرأتَ هذه الاية : (وَاعْلَمُوا أَ نَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْء فَأَنَّ للهِِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ا لْقُرْبَى ) ((209)) ؟ قال الشيخ : قد قرأتُ تلك . قال عليّ : فنحن ذو القربى يا شيخ ، ولكن هل قرأتَ هذه الاية : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ ا لْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ؟ قال الشيخ: قد قرأتُ ذلك . قال عليّ: فنحنُ أهل البيت الّذين خُصِّصنا بآية الطّهارة. فبقي الشيخ ساعة ساكتاً نادماً على ما تكلّمه ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال : اللّهمّ إنِّي تائبٌ إليك ممّا تكلّمتُهُ ، ومِن بُغض هؤلاء القوم ، اللّهمّ إنِّي أبرأُ إليكَ مِن عَدُوِّ محمّد وآل محمّد مِنَ الجِنِّ والانس » (210) . ولنعد إلى مجلس يزيد لنشاهد ما وقع فيه عندما اُوقف عليّ بن الحسين مع السبايا بين يدي يزيد ، فقال له يزيد : « أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين ، فالحمد لله الّذي أذلّهما وسفك دماءهما ، فقال عليّ بن الحسين : يا ابنَ معاوية ! وهند وصَخر ، لم يَزلْ آبائي وأجدادي فيهم الامرة مِن قَبلِ أن تولدَ ، ولقد كان جدِّي عليّ ابن أبي طالب (رضي الله عنه) يوم بدر واُحُد والاحزاب في يدهِ رايةُ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، وأبوك وجدّك في أيديهما راياتُ الكفّار ، ثمّ جعل عليّ بن الحسين يقول : ماذا تقولون إذ قالَ النبيّ لكم ماذا فعلتُم وأنتُمْ آخِرُ الاُمم بعـترتي وبأهلي بعد مُنْقَــلبي منهم اُسارى ومنهم ضُرِّجوا بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحتُكُم أنْ تُخْلِفوني بسوء في ذوي رحمي ثمّ قال عليّ بن الحسين (رحمه الله) : ويلك يا يزيد ، إنّك لو تدري ما صنعتَ وما الّذي ارتكبتَ من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربتَ في الجبالِ وفَرَشتَ الرّمادَ ، ودعوت بالويلِ والثُّبورِ ، أن يكونَ رأسُ الحسين بن فاطمة وعليّ (رضي الله عنه) منصوباً على باب المدينة وهو وديعة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) فيكم ، فأبشر بالخزي والندامة غداً إذا جُمِعَ الناسُ ليوم لا ريبَ فيه . فالتفتَ حبر من أحبار اليهود وكان حاضراً فقال ليزيد : مَنْ هذا الغلامُ يا أمير المؤمنين ؟ فقال : هذا صاحبُ الرّأسِ هو أبوه ، قال: ومَنْ هوَ صاحبُ الرّأسِ يا أمير المؤمنين ؟ قال : الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، قال فمَنْ اُمّه ؟ قال : فاطمة بنت محمّد (ص) ، فقال الحبر : يا سبحانَ الله ، هذا ابنُ بنتِ نبيِّكم قتلتُموه في هذه السِّرعةِ ؟ بِئْسَ ما خلفتُموهُ في ذُرِّيّتِهِ ، واللهِ لو خلّف فينا موسى بن عمران سِبْطاً مِن صُلبِهِ لكنّا نعبدُهُ مِن دون الله ، وأنتم إنّما فارقكم نبيِّكم بالامس فوثبتُم على ابن نبيِّكم فقتلتُموه ، سوأةً لكم مِن اُمّة ، فأمرَ يزيد به فَوُجِئَ بحلقِهِ ثلاثاً ، فقام الحبر وهو يقول : إنْ شِئتُم فاقتلوني ، وإنْ شِئتُم فَذَروني ، إنِّي أجدُ في التوراة : مَن قَتَلَ ذرّيةَ نبي ، فلا يزالُ مغلوباً أبداً ما بقي ، فإذا ماتَ يُصـليه اللهُ نارَ جَهنّم » (211) . وقد روى المؤرِّخون خطبة للعقيلة زينب بنت عليّ (ع) خاطبت بها يزيد وهو في بلاطه ينفِّسُ عن أحقاده برؤيته أبناء رسول الله (ص) مكبّلين بالقيود والاصفاد يلبسون الرّثّ من الثِّياب وهي : « الحمدُ لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه حيث يقول : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ا لَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) ، أظننتَ يا يزيدُ أ نّكَ أخَذتَ علينا أقطارَ الارضِ وآفاقَ السّماء ، فأصبحنا نُساقُ كما تُساقُ الاُسارى ، أنّ بنا على اللهِ هَواناً وبك عليه كرامة وأنّ ذلك لِعظمِ خَطَرِكَ عنده ؟ فشمختَ بأنفِكَ ونظرتَ في عِطفِكَ ، جَذلان مسروراً ، حين رأيتَ الدُّنيا لكَ مُسْتَوْسِقة والاُمورُ مُتّسِقة ، وحين صفا لكَ ملكُنا وسُلطانُنا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيتَ قولَ الله تعالى : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ ا لَّذِينَ كَفَرُوْا أَ نَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لاَِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِيْ لَهُمْ لِيَزْدَادُوْا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) . أمِنَ العَدْلِ يا ابنَ الطُّلَقاءِ ، تَخديرُكَ حَرائِرَكَ وإماءَكَ ، وسوقُكَ بناتِ رسول الله سبايا ، قد هُتِكَتْ سُتُورُهُنّ ، واُبدِيَتْ وُجُوهُهُنّ ، تحدو بهنّ الاعداءُ مِن بلد إلى بلد ، ويَسْتَشْرِفُهُنّ أهلُ المناهلِ والمعاقلِ ، ويتصفّحُ وُجُوهَهُنّ القريبُ والبعيدُ ، والدّنِيُّ والشّريفُ ، ليسَ مَعَهُنّ مِن حُماتِهِنّ حميٌّ ولا مِن رِجالهنّ وليٌّ ، وكيفَ يُرتجى مُراقبةُ مَنْ لفظ فوهُ أكبادَ الازكياء ، ونبتَ لحمُهُ مِن دماءِ الشُّهداء ، وكيفَ يُستبطَأُ في بُغْضِنا أهلَ البيتِ مَن نظرَ إلينا بالشَّنَفِ والشَّنَآنِ ، والاحنِ والاضغانِ ، ثمّ تقول غيرَ مُتأثِّم ولا مُسْتَعْظِم : لاَهلّوا واستهلّوا فَرَحاً ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشَل مُنحنياً على ثنايا أبي عبدالله سيِّدِ شبابِ أهلِ الجنّةِ تَنكُتُها بِمِخْصَرَتِكَ ، وكيفَ لا تقول ذلك ، وقد نكأتَ القُرحةَ ، واسْتأصَلْتَ الشأفَةَ ، بإراقَتِكَ دماءَ ذرّية محمّد (صلّى الله عليه وآله) ونجومِ الارضِ مِن آلِ عبدالمطلب ، وتهتفُ بأشياخِكَ ، زَعمتَ أ نّكَ تُناديهم ، فَلَتَرِدَنَّ وَشيكاً مَوْرِدَهُم وَلَتَوُدَّنَّ أ نّكَ شُلِلْتَ وَبَكُمْتَ ولم تَكُنْ قُلتَ ما قُلْتَ وفَعَلْتَ ما فَعَلْت . اللّهمَّ خُذْ لنا بِحَقِّنا،وانتَقِمْ مِمَّن ظَلَمَنا،واحلُلْ غَضَبَكَ بِمَنْ سَفَكَ دِماءَنا،وقَتَلَ حُماتَنا . فوَالله ما فريتَ إلاّ جِلْدَك ، ولا حَزَزْتَ إلاّ لَحْمَكَ ، ولَتَرِدَنَّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما تحمّلتَ مِن سفكِ دماءِ ذرِّيّته وانتهكتَ مِن حُرمَتِهِ في عترتِهِ ولُحْمَتِهِ ، حيث يجمعُ الله شملَهُم ، ويلمُّ شَعثَهُم ، ويأخذُ بحقِّهم (وَلاَ تَحْسَبَنَّ ا لَّذِينَ قُتِلُوا فِيْ سَبِيلِ اللهِ أَمْواتَاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) . وحسبُكَ باللهِ حاكماً ، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً ، وبجبرئيلَ ظهيراً ، وسيعلمُ مَنْ سَوَّلَ لَكَ ومَكَّنَكَ مِن رقابِ المسلمين بئسَ للظّالمين بدلاً ، وأيّكم شرٌّ مكاناً ، وأضعفُ جنداً . ولئن جرَّتْ عَلَيَّ الدّواهي مُخاطَبَتَكَ ، إنِّي لاستصغِرُ قَدْرَكَ وأستَعْظِمُ تَقْريعَكَ ، وأستكْثِرُ توبيخَكَ ، لكنِ العيونُ عَبْرى ، والصّدورُ حَرّى . ألا فالعجبَ كلَّ العجبِ ، لِقَتلِ حزبِ اللهِ النُّجَباءِ ، بحزبِ الشّيطانِ الطُّلَقاء ، فهذه الايدي تنطفُ مِن دمائِنا، والافواهُ تتحلّبُ مِن لُحومِنا، وتلكَ الجثثُ الطّواهِرُ الزّواكي تنتابها العواسِلُ، وتُعفرها اُمّهاتُ الفراعِلُ، ولئن اتّخذتنا مَغنماً، لَتَجِدَنّا وشيكاً مغرماً، حين لا تَجِدُ إلاّ ما قدّمَتْ يَداكَ ، وما ربُّك بظـلاّم للعَبيد ، وإلى اللهِ المُشتكى وعليهِ المُعَوّل . فكِدْ كَيدَكَ، واسْعَ سَعْيَكَ، وناصِبْ جُهْدَكَ ، فوَالله لا تمحو ذِكْرَنا ، ولا تُميتُ وحيَنا ، ولا يَرحَضُ عنكَ عارُها ، وهل رأيُكَ إلاّ فَنَدٌ ، وأيّامُك إلاّ عَدَدٌ ، وجمعك إلاّ بَدَدٌ ، يومَ يُنادي المنادي ألا لَعنةُ اللهِ على الظّالمين . والحمدُ للهِِ رَبِّ العالمين ، الّذي خَتَمَ لاوّلِنا بالسّعادةِ والمغفرةِ ، ولاخرِنا بالشّهادةِ والرّحمة، ونسألُ الله أن يُكمِلَ لهم الثّوابَ ، ويوجِبَ لهم المزيدَ ، ويُحسِنُ علينا الخلافةَ ، إنّهُ رحيمٌ وَدودٌ ، وحسبنا الله ونِعْمَ الوكيل » (212) . لقد روى بعض المؤرِّخين بدوافع مختلفة منها الطّمع بما في أيدي حكّام الجور ، أو الخوف من ذكر الحقائق ، رووا روايات حاولوا بها تسويغ ما فعله يزيد من قتله ريحانة رسول الله (ص) الحسين بن عليّ وأهل بيته وأصحابه النّجباء ، وزعموا أنّ يزيد قد لعنَ عُبيدَالله بن زياد ، وأ نّه كان يرضى منه بأقلّ مِن قتل الحسين ، وما إلى ذلكَ مِن كلام سخيف يكذِّبه ما صدرَ مِن يزيد بعد قتل الحسين (ع) . فإذا كان يزيد متأ لِّماً لقتلِ الحسين لماذا إذن أرسلَ رسالةً إلى عُبيدالله يأمرهُ بحملِ نساءِ الحسين وصبيته إلى بلاد الشّام مكبّلين بالقيود ؟ ولماذا أقام الاحتفالات وملا شوارع دمشق بالرّاقصات العازِفات على الدّفوف والصّـنوج ؟ ولماذا وضعَ رأسَ الحسين أمامه في طست وجعلَ يضربُ فَمَهُ الشّريفَ بقضيب كان في يده ؟ ولماذا تمثّل بأبيات عبدالله بن الزّبعرى ، وأظهر تشفِّيه من رسول الله محمّد (ص) في قتله لذرِّيّته الطّاهرة ؟ كما ذكرنا ذلك نقلاً عن أوثقِ المصادر في هذا الكتاب ((213)) ؟ وعلى أيّةِ حال فقد استقرّ السجّاد ومَن صاحَبَهُ مِن بقايا الفاجعة فترة في الشّام ، ثمّ سلكوا طريق العودة إلى المدينة ، واتّخذت رؤوس الشُّهداء طريقَها إلى كربلاء لِترقُدَ إلى جِوار الاجساد . دخلَ السجّاد (ع) المدينةَ وقد سبقه نبأ الفاجعةِ، فَضَجّتِ المدينة بأهلِها، واتّشحت بوشاحِ الحزن والغضبِ وهي تسمع صوت الناعي ( بِشْرِ بنِ حَذْلَم ) يُردِّد : يا أهلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لكم بها قُتِلَ الحُسينُ فأدمعي مِدْرارُ الجِسمُ منهُ بكربلاءَ مُضَرَّجٌ والرأسُ منهُ على القَناةِ يُدارُ وهكذا عاشت المدينـة الحُزنَ والغضبَ ، حتّى أعلنت ثورتَها ورفضها للحكم الاموي بقيادة عبدالله بن حنظلة ، ودفعت الثمنَ باهِظاً بحبِّ الحسين والولاءِ لاهلِ البيت (ع) .   نتائج وآثار قيمة كلّ عمل رسـالي أو سياسي تُقاس بقدر ما يعطي من نتـائج وآثار ، وما يترك من تأثير الخير والتغيير البنّاء في حياة الانسان; والاحداث والاعمال السياسية والاجتماعية قد تعطي نتائجها عطاءً مباشراً ومتصلاً ، وقد تتخلّف الاثار والنتائج عن الاسباب السياسية تخلّفاً زمنيّاً ، وتبقى تتفاعل وتؤثّر إلى ما بعد الحدث بفترات زمنيّة قد تطول وقد تقصر، كما قد يكون تأثير الحدث السياسي والاجتماعي محدوداً ورهيناً بظروف واُطُر زمنيّة محدودة، وقد يكون تأثيره واسعاً وممتداً عبر مساحات وامتدادات زمنيّة واجتماعية مختلفة . وثورة الحسين (ع) ثورة رائدة فذّة العطاء ، غنيّة القيمة والتأثير ، واسعة الاهداف ، فلم يكن هدفها مركّزاً في استلام السّلطة وحسب ، وإن كانت السّلطة أداةً وضرورةً سياسيةً في نظر الامام الحسين (ع) لتغيير الاوضاع وإصلاح المجتمع وممارسة عمليّة البناء والتوجيه ، وإنّما كان يستهدف أهدافاً كثيرة قريبة وبعيدة ، لقد كان يجري في فهمه للسّلطة على المبدأ الّذي ثبّته أبوه : «اللّهمّ إنّك تعلم أ نّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سُلطان ، ولا التماسَ شيء مِن فضول الحُطام ، ولكن لِنَرِدَّ المَعالِمَ مِن دينك ، ونُظهِرَ الاصلاحَ في بلادِك ، وتُقامَ المُعطّلةُ من حدودِكَ ، فيأمنَ المظلومون من عبادِك»(214) . لقد كان الامام الحسين (ع) يستهدف من حركته الجهادية الكبرى عدّة أهداف منها : 1 ـ تغيير الاوضاع السياسية واستبدال الجهاز الحاكم واسلوب الادارة والسياسة، والتعامل مع الاُمّة وفق الموازين والمقاييس الّتي ثبّتها الاسلام . 2 ـ إيقاظ الحس والوعي السياسي للاُمّة ، وجعلها جهاز مراقبة للسلطة ، متى ما انحرفت عن المبادئ أو تخلّت عن تطبيق الاحكام والقوانين الاسلامية . 3 ـ تثبيت مبدأ شرعية القوّة والمقاومة المسلّحة للحاكم الظالم . 4 ـ إعادةُ تربية الاُمّةِ وبنائِها ، تربيةً وبناءً سليماً . 5 ـ تصحيح الانحراف وتطبيق أحكام الشريعة وقوانينها . 6 ـ كسر حاجز الخوف والارهاب المفروض على الاُمّة وتحريك روح الثورة والفداء فيها . وما أن تحرّك الحسين (ع) ـ وقد كان واضحاً لديه أنّ الثورة قد لا تنجح نجاحاً عسكرياً إلاّ انّها ستكون بداية لتحريك جماهير الاُمّة وإثارة روح المقاومة والنهوض فيها ـ ، ما أنْ تحرّك واستُشْهِدَ حتّى وقفت السّلطة الحاكمة على شفا جُرُف هار ، وفوهةِ بُركان مُدمِّر ، وبدأت الانفجارات والثورات ، وبدأت السّلطة الحاكمة تترنّحُ ، وتفقدُ ارتبـاطها بالاُمّة وتسـتعملُ القمعَ والارهابَ كأسلوب لاسكاتِ الاصوات وكبت الحرِّيّات ، وبدأت أحاسيس الشعور بالذنب والجريمة من قتل الحسين (ع)،إمام الاُمّة وسبط رسول الله(ص)، وبدأت سُحُبُ العاصفة ونُذُرُ الانفجار تتجمّع في النفوس، وظهرت بشكل ردود فعل مسلّحة عنيفة، كما مهّدت حركتُهُ السّبيلَ وهيّأت الاجواء والظروف السياسية والنفسية لحركات اُخرى أنْ تَظهرَ وتُقاوِمَ الحُكمَ الاموي وتعمل على إضعافه،حتّى انتهى الامر بسقوط الامويين في نهاية المطاف،وكان لثورة الحسين(ع)،ولدم الحسين(ع)القسطُ الاوفرُ في هدمِ هذا الكيان وإزالة وجوده. فمثلاً فسحت ثورةُ الحسين (ع) الفرصةَ أمام عبدالله بن الزُّبير أن يتحرّك في مكّة وأن يخلعَ سُلطةَ يزيد ويُعلِنَ الثورة الّتي رفضت الامويين وكادت أن تستولي على أطراف الدولة كافّة . لقد صوّر موقف تاريخي لوحة الاحـداث ، ورسمها بشكل موجز ومعبِّر لاثار ونتائج ثورة الحسين(ع). ذكر اليعقـوبي في تاريخه : «إنّ أحد الاشخاص قال : دخلت على عبدالملك بن مروان وبين يديه رأسُ مصعب بن الزُّبير فقلت : يا أمير المؤمنين ! لقد رأيتُ في هذا الموضع عجباً ، قال : وما رأيت ؟ قال : رأيتُ رأسَ الحسـين بن عليّ (ع) بين يدي عُبيدالله بن زياد ، ورأيتُ رأسَ عُبيدالله بن زياد بين يدي المختار بن عبيدة ، ورأيتُ رأسَ المختار بن عبيدة بين يدي مصعب بن الزُّبير ، ورأيتُ رأسَ مصعب بن الزُّبير بين يديك» (215) . وأعلنَ أهل المدينة الثورة على يزيد وعلى واليه عثمان بن محمّد بن أبي سفيان ، وطردوه ، وطردوا مَن كان مِن بني اُميّة بالمدينة . وكان يقود أهل المدينة عبدالله بن حنظلة(غسيل الملائكة)بن أبي عامر،فهاجم جيش أهل الشّام المدينة(216)المنوّرة،فَسُفِكَت الدماءُ وهُتِكَت الحُرُماتُ،واستُبيحتْ مدينةُ رسول الله (ص)، وقد وصف اليعقوبي حوادث المدينة وثورتها وما حلّ بأهلها من محنة وعدوان : «فلم يبق معها كثيرُ أحد إلاّ قُتِل ، وأباح حُرَمَ رسول الله (ص) حتّى ولدتِ الابكارُ لا يُعرَف مَن أَوْلَدَهُنّ ، ثمّ أخذَ الناسُ أن يُبايعوا على أ نّهم عبيد ليزيد بن معاوية» (217) . وتلك الاحداث والوقائع تكشف لنا عن مدى فهم الرأي العام لشخصية يزيد،فأحداث المدينة هذه تذكِّرنا بقول عبدالله بن مطيع للامام الحسين (ع):«فوَالله لئن هلكتَ لَنُسْتَرَقَنّ بعدك». لقد بدأت الثورات وردود الفعل تُطالب بدم الحسين (ع) والاقتصاص مِنَ القَتَلَة ، وتَحوّلَ الحسين إلى شعار سياسي وقوّة محرِّكة في تاريخ الصِّراع ، فقامت ثورة التوّابين في الكوفة الّتي قادها سليمان بن صُرَد الخزاعي والمسيب بن نجبة الفزاري ورفعوا شعار التوبة والتكفير عن تخلّفهم عن نصرة الحسين (ع) ومقاتلة بني اُميّة ، والثأر لدم الحسين ، وقامت ثورة المختار بن عبيدة الثقفي وإبراهيم بن مالك الاشتر عام (66 هـ ) ، ونادوا بشـعار : «يا لِثارات الحسـين» . وتتبّـعوا قَتَلةَ الحسين (ع) ، فاستأصلوهم وقتلوهم ، فقتلوا عُبيدالله بن زياد والحُصينَ بن نمير وعُمَرَ بن سعد . واستمرّت روح المقاومة حتّى سقط الحكم الاموي على يد الثورة العباسية الّتي كانت تدعو في ظاهرها لاعادة الحكم لال البيت النبوي (ع) . وهكذا أجّج دمُ الحسين (ع) نار الثورة ضدّ الحكم الاموي وهزّ كيانهم ووجودهم السياسي، حتّى قضى عليهم ولم يقضوا عليه ، بل خُلِّدَ شعاراً للثوّار، ومناراً للاحرار، ومدرسةً للكفاحِ والحرِّيّة ، فسلامٌ عليهِ يومَ وُلِدَ ويومَ استُشْهِدَ ويومَ يُبْعَثُ حيّاً .   الهوامش 1 ـ الطبرسي / إعلام الورى بأعلام الهدى / ط دار المعرفة (بيروت) / 1379 هـ / ص 217 . الطبري / ذخائر العُقبى في مناقب ذوي القربى / ط مكتبة القدسي / 1356 هـ / ص 119 . الخوارزمي / مقتل الحسين / ج 1 / ص 87 و 88 . 2 ـ الفيروزآبادي / فضائل الخمسة من الصحاح السـتّة / ط منشـورات مؤسّسة الاعلمي للمطبوعات (بيروت) / الطبعة الرابعة 1402 هـ / ج 1 / ص 290 . الحاكم / المستدرك على الصحيحين / ط دار المعرفة (بيروت) / ج 3 / ص 150 . الترمذي / الجامع الصحيح / ط دار إحياء التراث العربي (بيروت) / ج 2 / ص 166 . 3 ـ الفيروزآبادي / فضائل الخمسة / ج 1 / ص 311 . الاصبهاني / حلية الاولياء وطبقات الاصفياء / ط دار الكتاب العربي (بيروت) / الطبعة الخامسة 1407 هـ / ج 3 / ص 201 . 4 ـ الفيروزآبادي / فضائل الخمسة / ج 3 / ص 321 . الترمذي / صحيح الترمذي / ج 2 / ص 307 . 5 ـ الطبرسي / إعلام الورى / ص 219 . 6 ـ ابن الصبّاغ المالكي / الفصول المهمّة في معرفة أحوال الائمّة (ع) / ط منشورات الاعلمي (طهران) / ص 171 . 7 ـ سبط ابن الجوزي / تذكرة الخواص / ط مكتبة نينوى الحديثة (طهران) / ص 233 . 8 ـ محسن الامين / المجالس السنيّة . 9 ـ أبو الفتح الاربلي / كشف الغمّة في معرفة الائمّة / ط دار الكتاب الاسلامي (بيروت) / 1401 هـ / ج 2 / ص 275 . 10 ـ ابن شهرآشوب / مناقب آل أبي طالب / ط المطبعة العلمية (قم) / ج 4 / ص 66 . 11 ـ ابن الجوزي / تذكرة الخواص / ص 234 . محسن الامين / المجالس السنيّة . 12 ـ أبو علم / أهل البيت / باب تواضعه وزهده . 13 ـ ابن شهرآشوب / المناقب / ج 4 / ص 66 . 14 ـ الاربلي / كشف الغمّة / ج 2 / ص 243 . 15 ـ أبو علم / أهل البيت / باب علمه وفصاحته وبلاغته . 16 ـ أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ط مطبعة الاستقامة (القاهرة) / 1358 هـ / ج 4 / ص 305 . ابن شعبة الحرّاني / تحف العقول عن آل الرسول (ص) / ط مؤسّسة النشر الاسلامي (قم) / الطبعة الثانية 1404 هـ / ص 245 . 17 ـ الحرّاني / تحف العقول / ص 246 . 18 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 304 . 19 ـ تُراجَع الوثائق الرسمية لثورة الحسين (ع) / عبدالكريم القزويني ، وحديث كربلاء لعبدالرزّاق الموسوي المقرّم . 20 ـ عائشة هي زوج رسول الله (ص) وبنت الخليفة أبي بكر . 21 ـ الرِّعاع : الاراذل . 22 ـ غميزة : ضعف في العقل أو العمل . 23 ـ أبو الفرج الاصفهاني / مقاتل الطالبيين / ط دار المعرفة (بيروت) / ص 59 . 24 ـ تقدّم ذكر الوثيقة بصيغة اُخرى . 25 ـ ابن الصبّاغ المالكي / الفصول المهمّة / ص 163 . 26 ـ جلال الدين السيوطي / تاريخ الخلفاء / مطبعة السعادة (مصر) / ط 1 ، 1371 هـ / ص 191 . 27 ـ ابن عنبة / عمدة الطالب / ص 67 / ط 2 . 28 ـ جلال الدين السيوطي / تاريخ الخلفاء / ص 191 . 29 ـ القنوت عليه : الدُّعاء عليه بمكروه ، وقد اشتهر معاوية وعمّاله بسبّ الامام عليّ على المنابر وبعد الصلوات أمام المسلمين ، وكانوا يعطون الجوائز والصِّلات لمن يشتمه ، انظر ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج3 / ص414 و472 ، وابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة / ج 3 / ص 56 ـ 63 . 30 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ط دار صادر (بيروت) / 1385 هـ / ج 3 / ص 405 ، ابن الصبّاغ المالكي / الفصول المهمّة / ص 163 . 31 ـ ابن الصبّاغ المالكي / الفصول المهمّة / ص 163 . 32 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / منشورات مكتبة بصيرتي / ص 191 . أعثم الكوفي / الفتوح / ج 2 / ص 296 . 33 ـ ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة / ج 2 / ص 86 . 34 ـ المصدر السّابق / ج 11 / ص 45 . 35 ـ المصدر السّابق . 36 ـ المصدر السّابق / ص 43 . 37 ـ المصدر السّابق / ص 45 . 38 ـ محمّد مهدي شمس الدين / ثورة الحسين (ع) / ط دار الاندلس (بيروت) / إحياء النزعة القبلية واستغلالها / ص 61 وما بعدها . 39 ـ عبدالله العلايلي / الامام الحسين / ط دار مكتبة التربية (بيروت) / 1972 م / ص 345 . 40 ـ البلاذري / أنساب الاشراف / ج 4 / ص 1 و 2 . 41 ـ ابن كثير / البداية والنهاية / ج 8 / ص 236 . ينقِّز : يجعله يقفز أو يرقص . 42 ـ الجوارِح : السِّباع والطّير ذات الصّيد . 43 ـ مُشاشي : عِظامي . 44 ـ المسعودي / مروج الذهب ومعادن الجوهر / ط دار الاندلس (بيروت) / ج 3 / ص 67 و 68 . 45 ـ جلال الدين السيوطي / تاريخ الخلفاء / ص 196 و 197 . تشقّ عصا المسلمين : تفرِّقهم . جذعة : اعادتها كما بدأت . فنفخت في مناخرهما : أغريتهما . العَوار : العيب . 46 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 200 . 47 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص250 . ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص14 . 48 ـ مات معاوية في رجب سنة 60 هـ . 49 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج4 / ص251 . ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 14 . 50 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص251 . ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج4 / ص 15 . 51 ـ المصدران السّابقان . 52 ـ المصدران السّابقان ، ابن الصبّاغ المالكي / الفصول المهمّة / ص 182 . 53 ـ ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 10 و 11 . وذكر هذه الاحداث الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 251 . ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 15 . 54 ـ الخوارزمي / مقتل الحسين / ج1 / ص 88 . الاشِر : شديد المرح . البَطِر : شديد السرور بما عنده من نعمة . 55 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 204 . 56 ـ عبدالرزّاق المقرّم / مقتل الحسين (ع) / ص 141 و 142 . 57 ـ الشيخ راضي آل ياسين / صلح الحسن (ع) / ص 320 . الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 7 / ص 104 . تُسْمل : سمل العين : فقؤها بحديدة محماة . 58 ـ الشيخ راضي آل ياسين / صلح الحسن (ع) / ص 328 . 59 ـ الشيخ راضي آل ياسين / صلح الحسن (ع) / ص 338 ، نقلاً عن بحار الانوار / المجلسي / ج10 / ص 149 . الاحن : الاحقاد والكراهيّة . 60 ـ اُستفيدت هذه الروايات الخاصّة ، بأسماء القتلى الذين قتلهم معاوية ، من كتاب صلح الامام الحسن (ع) للشيخ راضي آل ياسين / ص 328 . القلى : الهَجْر والكراهيّة . 61 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج3 / ص462 . خبطتها عشواء : خلطت الاشياء ولم تُميِّز بينها. 62 ـ المصدر السّابق . لعلّه يقصد بالجمع : الحفظ . 63 ـ المسعودي / مروج الذهب / ج 3 / ص 14 . 64 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 12 . 65 ـ المصدر السّابق / ص 413 . 66 ـ المسعودي / مروج الذهب / ج 3 / ص 183 و 184 . 67 ـ المصدر السّابق / ص 23 . 68 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 3 / ص 91 . 69 ـ ابن قتيبة الدينوري / المعارف / دار إحياء التراث العربي (بيروت) / ط 2 ، 1390 هـ / ص 84 . 70 ـ المصدر السّابق / ص 84 . 71 ـ المسعودي / مروج الذهب / ج 2 / ص 333 . 72 ـ طبقات ابن سعد / ج 3 / ق 1 / ص 105 . 73 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 2 / ص 333 . 74 ـ عبدالله العلايلي / الامام الحسين / ص 342 وما بعدها . 75 ـ تغيّر موقف الحر فيما بعد فانضمّ إلى معسكر الحسين واستشهد معه ، والخطبة هذه في الطبري / ج 4 / ص 304 . 76 ـ يراجع مروج الذهب للمسعودي بهذا الصدد . 77 ـ عبدالرزّاق المقرّم / مقتل الحسين (ع) / ص 138 وما بعدها . 78 ـ من خطبته في أصحاب الحرّ بكربلاء . 79 ـ من كتابه إلى أهل البصرة . 80 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 16 . 81 ـ انطلق الحسين (ع) إلى مكّة في الثالث من شعبان سنة (60 هـ ) ، وذكر الشيخ المفيد في الارشاد أنّ الحسين (ع) خرج من المدينة ليلة الاحد ليومين بقيا من رجب سنة (60 هـ ) . 82 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 17 . 83 ـ المصدر السّابق ، الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 253 . 84 ـ ابن طاووس / مقتل الحسين / ص 12 . ناوأت : قابلت مقابلة الخصم . 85 ـ المصدر السّابق / ص 14 . 86 ـ عبدالكريم القزويني / الوثائق الرسمية لثورة الامام الحسين (ع) / ص 45 . 87 ـ ذكر الشيخ المفيد في الارشاد / ص 201 : أنّ الامام الحسين (ع) خرج ليومين بقيا من رجب سنة (60 هـ ) . 88 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 202 . 89 ـ لنسترقنّ : لنستعبدنّ . 90 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 19 . 91 ـ تبلغ المسافة بين المدينة المنوّرة ومكّة حوالى 450 كم . 92 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 202 . تنكَّب الطريق : تجنّبه وابتعد عنه . 93 ـ أبو الفرج الاصفهاني / مقاتل الطالبيين / ص 90 . 94 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 202 . 95 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 203 ، وفي الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 261 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 20 . تقبّض : اشمأزّ وامتنع . انتزى : اعتدى . الفيء : أموال المسلمين العامّة الّتي يحصلون عليها من الخراج والغنيمة . 96 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 204 ، ومثله في الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 262 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 21 . الحِجى : العقل . 97 ـ عبدالرزّاق المقرّم / مقتل الحسين (ع) / ص 141 و 142 . 98 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 263 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 21 . مألفاً : مقرّاً للاجتماع . 99 ـ ابن طاووس / مقتل الحسين / ص 17 وما بعدها . الكنانة : الجعبة الّتي توضع فيها السهام . الكظ : الجهد والتعب والارهاق . 100 ـ ذكر السيِّد ابن طاووس أنّ هذا الكتاب هو آخر ما ورد على الامام الحسين (ع) ، من كتب أهل الكوفة ، وكان يحمله هانئ بن هانئ السبيعي ، وسعيد بن عبدالله الحنفي ، فقال لهما الحسين (ع) : خبِّراني مَن اجتمع على هذا الكتاب الّذي كتب به إليَّ معكما ؟ فقالا : يا ابن رسول الله (ص) ، شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث بن رويم ، وعروة بن قيس ، وعمرو بن الحجّاج ، ومحمّد بن عمير بن عطارد ، أو (محمّد بن عمرو التميمي) ، كما ذكر الشيخ المفيد في الارشاد / ص 203 . 101 ـ ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 15 و 16 . 102 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 21 . 103 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 204 . 104 ـ المصدر السّابق . 105 ـ المصدر السّابق . 106 ـ المسعودي / مروج الذهب / ج 3 / ص 54 . 107 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 205 . 108 ـ كان عبيدالله بن زياد في ذلك الوقت والياً على البصرة فاستخلف عليها أخاه عثمان وتوجّه إلى الكوفة . 109 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 206 . تثقفه : تصادفه وتلقاه . 110 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 258 . 111 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 206 . 112 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 206 . 113 ـ المصدر السّابق . 114 ـ المصدر السّابق / ص 207 . 115 ـ ذكر السيِّد ابن طاووس أنّ معركة دارت بين أنصار مسلم وأنصار عبيدالله بن زياد . السيِّد ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 22 . 116 ـ ذكر السيِّد ابن طاووس : «حتّى جاء اللّيل فجعل أصحاب مسلم يتفرّقون عنه ويقول بعضهم لبعض : ما نصنع بتعجيل الفتنة ، وينبغي أن نقعد في بيوتنا ، وندع هؤلاء القوم حتّى يصلح الله ذات بينهم . فلم يبق معه سوى عشرة أنفس ، فدخل مسلم المسجد ليصلِّي المغرب فتفرّق العشرة عنه» . السيِّد ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 22 . 117 ـ ذكر هذه الاحداث الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 277 و 278 . 118 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص213 . والطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 278 . المناكب : جمع منكب وهو رئيس القوم وعونهم . 119 ـ كان الحصين بن نمير مديراً للشرطة في الكوفة . 120 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 213 ، والطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 279 . الرصَد : المراقبة . استبرأ الدّور : فتِّشها تفتيشاً دقيقاً حتّى يتأكّد ممّا فيها . 121 ـ من جملة ما أوصى أن يُباع سيفه ودرعه لقضاء دينه . 122 ـ استشهد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة في الكوفة في يوم الاربعاء التاسع من ذي الحجّة سنة (60 هـ ) ، ولكلّ منهما الان في الكوفة مقام وضريح خالد يقصده الزوّار وتهفو إليه نفوس الاحرار . 123 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 292 . ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 41 . 124 ـ ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 23 ، مثير الاحزان / ص 29 . 125 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 39 . الفَرَمِ : قطعة القماش الّتي تستعملها المرأة في حالة الحيض . 126 ـ لها : يعنى لمكّة ، وقد صدق ما أخبر به الحسين (ع) فقد اعتصم فيها عبدالله بن الزُّبير فيما بعد ، وحُوصِرَ في البيت الحرام ، وضُرِبَت الكعبة بالمجانيق واُحرِقت مِن قِبَلِ جيش يزيد عام (63 هـ ) ، كما هُوجِمَ ابن الزُّبير وضُرِبَت الكعبة بالمجانيق أيّام عبدالملك بن مروان بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي وجيش أهل الشام ، وقُتِلَ عبدالله بن الزُّبير في مكّة المكرّمة ، وقطع الحجاج رأسه ورؤوس أصحابه ونقلها إلى عبدالملك بن مروان وصلب جثته ، فكان الحسين (ع) يخبره بمصيره الّذي يصير إليه . 127 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 38 . 128 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج4 / ص289 ، وطبقات ابن سعد / الحديث رقم 278 ، وتاريخ ابن كثير / ج 8 / ص 166 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 38 . حُجر هامّة : الشقّ الّذي تختفي فيه العقارب والحيّات ... الخ . 129 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 41 . 130 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 290 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 40 . 131 ـ كانت اُمّ عبدالله بن بقطر مُرضِعَة للحسين (ع) . 132 ـ ذكر اليعقوبي أن خبر قتل مسلم ورد على الحسين (ع) في (القطقطانة) / ج 2 / ص 243 . 133 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج4 / ص297 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج4 / ص 41 ـ 43 . وقد تفرّق الاعراب الّذين التحقوا بالحسين (ع) أملاً في المغانم ، ورغبة في عرض الحياة الدُّنيا ، لذلك كان الموقف اختباراً صعباً وأداة للغربلة والتمييز . 134 ـ النجائب : الابل الجيدة الّتي يسابق عليها . 135 ـ كناية عن كثافتها . 136 ـ الجعجعة : النزول في مكان من غير طمأنينة . 137 ـ الرّمضاء : الارض الحامية من شدّة حرّ الشمس . 138 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 225 . 139 ـ المصدر السّابق / ص 226 ، والطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 308 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 51 . 140 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 226 ، والطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 308 . 141 ـ زهير بن القين أحد أصحاب الحسين (ع) الّذين انضمّوا إليه في الطريق في منطقة (زرود) الّذي قال لاصحابه يعرِّفهم بعظمة الحسين (ع) : غزونا بلنجر ففتحنا وأصبنا الغنائم وفرحنا بذلك ، ولمّا رأى سلمان الفارسي ما نحن فيه من السرور ، قال : «إذا أدركتم سيِّد شباب آل محمّد (ص) فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم من الغنائم» . المقرّم / مقتل الحسين (ع) / ص 177 . 142 ـ السيِّد ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 32 و 33 . حذّاء : مقطوعة . الوبيل : السيِّئ الموبوء . والبَرَم : المَلَل والكراهية . 143 ـ السيِّد ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 33 . 144 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 227 ، ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 52 ، وعلى ذلك تكون شهادة الامام الحسين (ع) يوم الجمعة ، وليس كما هو مشهور يوم الاثنين . 145 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 319 . السيِّد ابن طاووس مقتل الحسين (ع) / ص 33 ، وذكر الشيخ المفيد في الارشاد / ص 232 ، عن عليّ بن الحسين السجّاد (ع) ، أنّ الامام الحسين (ع) كان يردِّد ذلك الشعر ليلة العاشر من المحرّم . 146 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 319 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 58 ، والسيِّد ابن طاووس / مقتل الحسين / ص 34 . 147 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 52 و 53 . 148 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 229 ، والطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 314 . 149 ـ الاحتباء : الجمع بين الظهر والساقين بحمائل السيف ونحوه . 150 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 316 . الشيخ المفيد / الارشاد / ص 230 . 151 ـ وقعت معركة عاشوراء في أرض كربلاء حيث استُشهِد الحسين (ع) ودُفِن ، وهي تبعد أكثر من (75) كيلومتراً عن قبر الامام عليّ (ع) في النجف الاشرف . 152 ـ استغرق طريق رحلة الحسين (ع) من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى كربلاء نحو ثلاثين يوماً ، وقطع فيها حوالى ألفي كيلومتر . 153 ـ في بعض كتب التاريخ (عزرة) . 154 ـ في بعض كتب التاريخ (ذويد) . 155 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 321 ، كما رواه الشيخ المفيد / الارشاد / ص 233 ، عن الامام عليّ بن الحسين السجّاد (ع) ، الّذي كان قد شهد المعركة ولم يشترك فيها لمرضه ، كما شهدها ولده محمّد الباقر (ع) وهو طفل صغير ، وعمره نحو أربع سنوات . فقد رُويَ عن السجّاد (ع) : « لمّا أصبحت الخيل تقبل على الحسين (ع) رفع يديه وقال ... الدُّعاء » . 156 ـ يشير بذلك إلى إلحاق معاوية بن أبي سفيان لزياد بن أبيه بنسبه وقوله انّه أخوه ، بعد أن شهد شهود بأنّ أبا سفيان قد زنى باُمّه سميّة وكانت بغياً من ذوات الرايات ، وكان ذلك خلاف ما قاله رسول الله (ص) من أنّ : «الوَلَدُ للفِراشِ وللعاهِرِ الحَجَرُ» . 157 ـ يعني بذلك عبيدالله بن زياد بن أبيه . 158 ـ الخوارزمي / مقتل الحسين / ج 2 / ص 6 و 7 ، وتاريخ ابن عساكر الحديث / ص 670 . استصرختمونا : طلبتم نجدتنا . ألباً : أصبحتم مجتمعين متضامنين ضدّنا . الحَدَث : البدعة . تفيّل : أخطأ . الدّبا : الجراد الصغير . 159 ـ كان برير تابعياً من كبار شيوخ قرّاء القرآن في الكوفة . 160 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 322 و 323 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 61 و 62 . 161 ـ عبدالرزّاق المقرّم / مقتل الحسين (ع) / ص 233 و 234 . 162 ـ المصدر السّابق / ص 235 . 163 ـ صدق الحسين (ع) ولم يربح عمر بن سعد غير الخزي والنار ، وقد قتله المختار بن عبيدة الثقفي في الكوفة ، ذكر ذلك ابن الاثير في الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 241 . 164 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 236 . 165 ـ عبدالرزّاق المقرّم / مقتل الحسين (ع) / ص 237 . 166 ـ المصدر السّابق . 167 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 327 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 65 . 168 ـ رُوي انّه صلّى وأصحابه فرادى بالايماء لعدم توفّر الفرصة لهم ، وروي انّه صلّى صلاة الخوف بأصحابه ، ذكر هذه الاحداث الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 334 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 69 . 169 ـ جُرِحَ الحسن المثنّى جراحات عديدة ، ولم يستشهد بل حُمِلَ وعولج . 170 ـ السيِّد ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 49 . 171 ـ إنّ الّذي أطلق السهم على الرضيع الشهيد هو حرملة بن كاهل ، وذكر المؤرّخون أنّ شهادة عبدالله كانت قبل شهادة عمّه العبّاس . 172 ـ السيِّد ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 49 ، وذكر الحديث الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 342 ، وابن كثير / ج 8 / ص 187 . 173 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 240 . العبّاس بن عليّ (ع) : أخو الامام الحسين (ع) لابيه ، واُمّه اُمّ البنين فاطمة بنت حزام الكلبي . 174 ـ المصدر السّابق . 175 ـ ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 50 . 176 ـ كان عدد جراح الحسين (ع) ثلاثاً وثلاثين طعنة رمح ، وأربعاً وثلاثين ضربة سيف كما جاء في الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 344 ـ 346 . 177 ـ ابن الصبّاغ المالكي / الفصول المهمّة / ص 193 ، السيِّد ابن طاووس / مقتل الحسين / ص 60 . 178 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 347 ، والسيِّد ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 56 . 179 ـ ذكر ابن طاووس أنّ رؤوس أصحاب الحسين (ع) كانت ثمانية وسبعين رأساً ، فاقتسمتها القبائل لتتقرّب إلى عُبيدالله بن زياد والي يزيد بن معـاوية بذلك ، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً ، وصاحبهم قيس بن الاشعث ، وجاءت هوازن باثني عشر رأساً، وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن ، وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً ، وجاءت بنو أسد بستّة عشر رأساً ، وجاءت مذحج بسبعة رؤوس ، وجاء باقي الناس بثلاثة عشر رأساً / مقتل الحسـين (ع) / ص 60 و 61 . وذكر الشيخ المفيد في كتابه الارشاد / ص 243 أنّ أصحاب الحسين (ع) كانوا ( 72 ) رجلاً ، وكذلك الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 348 . 180 ـ هو الشاعر الفقيه السيِّد رضا الهندي . 181 ـ الرّباب : هي زوجة الحسين (ع) وأبوها امرؤ القيس ، وهي اُمّ سكينة ( آمنة ) بنت الحسين (ع) ، وعبدالله ( عليّ الاصغر ) الطفل الّذي قُتِلَ يوم عاشوراء . 182 ـ كان يوم الرّحيل يوم الحادي عشر ، وبدأ السّير بعد ظهر ذلك اليوم . 183 ـ ذكرت بعض الروايات أنّ الحسن المثنّى بن الحسن السبط ( ابن أخي الحسين الشهيد ) قد حُمِلَ جريحاً معهم . 184 ـ المقطوعتان في (أعيان الشيعة) / ج 8 / ص 12 و ج 3 / ص 17 على التوالي . 185 ـ السيِّد ابن طاووس / مقتل الحسين (ع) / ص 16 . 186 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 243 . 187 ـ تقع مدينة كربلاء غرب الفرات على أطراف صحراء الشـام ، تبعد حوالى ( 103 كيلو مترات ) عن العاصمة العراقية بغداد، وفي كربلاء يشمخ ضريح الحسين (ع) آية في الروعة والجمال ، وتعلوه القبّة والمآذن ، ويكسوه الذّهب والفضّة ، ويقصده الملايين من العالم الاسلامي زواّراً ومتبرِّكين بحرمه الشريف في كلّ عام . 188 ـ والخطبة في الفتوح لاعثم الكوفي / ج 3 / ص 140 و 141 . الخوارزمي / مقتل الحسين / ج 2 / ص 40 ـ 42 . الخَتْل : الخديعة . لا رقأت : لا جفّت . الرنّة : ارتفاع الصّوت بالبكاء . نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً : مثل يضرب للتعبير عن الخيانة وعدم الوفاء بالعهد . أيمانكم دخلاً بينكم : تتّخذونها للمداهنة والغدر والخديعة . الصّلِف : الّذي يدّعي ما ليس فيه ادّعاء متكبِّر ومُعجَب بنفسه . النّطِف : الملطّخ بالعيوب . الشّنِف : المبغض والمترفِّع المتعال . ملق الاماء : كناية عن التملّق للحكّام كما تتملّق الجواري المملوكة لاسيادِها . غمز الاعداء : طعن الاعداء . كمرعىً على دمنة : النبات الّذي ينبت على فضلات الحيوانات ، مظهره جميل وجذوره متوغلة في القذارة والنجاسات . أو كفضّة على ملحودة : الفضّة الّتي تكون على القبر ظاهرها برّاق وليس تحتها إلاّ الموتى (فهي كناية عن الخديعة) . شنارها : عارها وقبح عيوبها . لن ترحضوها : لن تزيلوها . مفزع نازلتكم : سيِّدكم الّذي تفزعون إليه في المحنة . مدره سنّتكم : زعيمكم المدافع عن سنّتكم . فريتم : شققتم وقطعتم . صلعاء ، عنقاء ، سوداء ، فقماء ، خرقاء : خطيرة ومكشوفة في سوئها وفظاعتها ومخالفتها . كطلاع الارض : كملء الارض . المهل : تأجيل العقوبة . البدار : المسارعة . لبالمرصاد : يراقبكم ويحصي أفعالكم . 189 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص243 . الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج4 / ص349 ، وابن كثير / ج 8 / ص 190 . 190 ـ وصل موكب أهل البيت (ع) من كربلاء إلى الكوفة في اليوم الثاني من وصول رأس الحسين (ع). 191 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 244 . 192 ـ تشير إلى الاية الكريمة : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) . 193 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 244 . 194 ـ الشيخ المفيد / الارشاد / ص 244 . 195 ـ كان عبدالله بن عفيف الازدي من الموالين للامام عليّ (ع) ولاهل بيته . 196 ـ المصدر السّابق . 197 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 351 ، وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 83 ، وقد فصّل أعثم الكوفي في كتابه (الفتوح) الملحمة الرائعة للازدي هذا واستشهاده ، انظر ج 3 / ص 144 وما بعدها . 198 ـ وُكِّل زجر بن قيس بحمل رأس الحسين (ع) ورؤوس أصحابه من الكوفة إلى يزيد بن معاوية في دمشق . 199 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 83 : «قد جعل ابن زياد الغِلّ في يديه ورقبته» . 200 ـ ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 83 . أعثم الكوفي / الفتوح / ج 3 / ص 147 . الاقتاب : هو الرّحل الّذي يوضع على ظهر الدابة ، وبغير وطاء : غير ممهّد ولم يوضع عليه ما يخفِّف من خشونته ووعورته من قماش وغيره . 201 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج4 / ص354 . وابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج4 / ص84 . 202 ـ فصّل ذلك الخوارزمي الحنفي في كتابه مقتل الحسين / ج 2 / ص 60 و 61 برواية عن الصحابي الجليل سهل بن سعد الّذي اتّفق مروره آنذاك ببلاد الشام فوصف ما رآه . 203 ـ المصدر السّابق / ص 61 . 204 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 352 . أعثم الكوفي / الفتوح / ج 3 / ص 152 . 205 ـ الطبري / تاريخ الاُمم والملوك / ج 4 / ص 356 . ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 85 . الخوارزمي / مقتل الحسين / ج 2 / ص 58 . وابن كثير / ج 8 / ص 192 . 206 ـ الخوارزمي / مقتل الحسين / ج 2 / ص 58 . ابن كثير / تاريخ ابن كثير / ج 8 / ص 192 و 204 . أعثم الكوفي / الفتوح / المجلّد الثالث / ص 150 . وقد غيّر يزيد البيت الثاني فوضع فيه اسمه فقال : لاهلّوا واستهلّوا فرحاً ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل كما سنرى في خطبة زينب الّتي قرّعته على ظلمه لال رسول الله (ص) . 207 ـ الشّورى / 23 . 208 ـ الاسراء / 26 . 209 ـ الانفال / 41 . 210 ـ أعثم الكوفي / الفتوح / ج 3 / ص 151 و 152 . الخوارزمي / مقتل الحسين / ج 2 / ص 61 . 211 ـ أعثم الكوفي / الفتوح / ج 3 / ص 153 و 154 . الخوارزمي / مقتل الحسين / ج 2 / ص 71 . 212 ـ العاملي / أعيان الشيعة / ج 1 / ص 616 / طبعة دار التعارف (بيروت) / 1403 هـ . 213 ـ الغريب أنّ اُولئك المؤرِّخين هم أنفسهم الّذين رووا روايات ظلم يزيد لال النبيّ وأسرهم وضرب شفتي الامام الحسين (ع) بالقضيب . 214 ـ نهج البلاغة / الخطبة 131 . 215 ـ اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي / ج 2 / ص 265 . وكان سعيد بن المسيب يصف مرحلة الحكم الّتي ولي يزيد فيها السلطة ويسمِّيها سنين الشؤم، ففي السنة الاُولى قُتِلَ الحسين بن عليّ (ع) وأهل بيته ، وفي السنة الثانية استبيح حرم رسول الله (ص) وانتُهِكَتِ المدينة ، وفي السنة الثالثة سُفِكَت الدماء في حرم الله وحُرِقَت الكعبة . تاريخ اليعقوبي / ج 2 / ص 253 . 216 ـ سُمِّيت هذه الوقعة بوقعة الحرّة ، ووقعت حوادثها لليلتـين بقيتا من ذي الحجّـة سنة 63 هـ ، ابن الاثير / الكامل في التاريخ / ج 4 / ص 120 . 217 ـ اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي / ج 2 / ص 250 .

ارسال التعليق

Top