• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أدعية الصحيفة السجادية.. ثروة روحية وثقافية غنيّة

عمار كاظم

أدعية الصحيفة السجادية.. ثروة روحية وثقافية غنيّة

يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): «فسهِّل لنا عفوك بمنِّك، وأجِرْنا من عذابك بتجاوزك، فإنّه لا طاقة لنا بعدلك، ولا نجاة لأحدٍ منّا دون عفوك، يا غنيّ الأغنياء، ها نحن بين يديك، وأنا أفقر الفقراء إليك، فاجبُر فاقتنا بوسعك، ولا تقطع رجاءنا بمنعك، فتكون قد أشقيت مَن استسعد بك، وحرمت من استرفد فضلك، وإلى مَن حينئذٍ منقلبنا عنك، وإلى أين مذهبنا عن بابك». أنت يا الله موضع توسُّل المتوسلين، وأنت بعفوك ومَنِّك، تتجاوز عن أخطائنا الكثيرة، ولولا رحمتك لكنّا من الهالكين، وأنت الذي تنير دروبنا بالخير والبرّ والعطاء، وتأخذ بنا إلى ساحات النور والعمل الصالح، كي نتزوَّد من كلّ ذلك ونتقرّب منك. وعندما نعيش أجواء القُرب منك، نتحسَّس كلَّ أجواء الحرّية والتحرّر من سطوة النفس وقيودها. فعفوك يا الله لا يناله إلّا المخلصون التائبون العائدون إليك بكلّ محبّة ورِضا وانفتاح ووعي. وقد يملك المرء غِنى المال والجاه والسلطان، ولكنّه لو أمعن التفكير قليلاً، لوجد أنّ ما يملكه، لا يساوي شيئاً أمام ملك الله وعظمته وغِناه الذي وسع كلَّ شيء، فهو مَالكنا ومَالك السموات والأرض، وهو الغنيّ عن العالمين، والخلق جميعاً عِيال الله، وهم المحتاجون إلى رحمته، ومهما بلغ الخلق من قوّة، فسيظلّون ضعفاء صاغرين أمام جبروت الله وعظمته.

ویقول أيضاً (عليه السلام): «اللَّهُمّ إنّا نعوذ بك من الانجراف إلى الإسراف، وما فيه من ضررٍ على حياة الفرد والجماعة، ونعوذ بك من الفقر والموت من غير استعداد للحساب والآخرة، يومها يعيش الإنسان الحسرة العظمى والمصيبة الكبرى، عندما لا يكون مستعدّاً بعمله الصالح لملاقاة ربّه، فيحرم من الثواب، ويكون في سوء العقاب». في هذا الدُّعاء، تتجلّى كلّ القيم والمفاهيم الإسلامية والإنسانية الخالدة، التي تحاول توجيهنا وتربيتنا على حبّ الخير ونصرة الحقّ، والتوجّه السليم إلى الله، والارتباط به كأحسن ما يكون الارتباط والإخلاص، والتحلّي بحُسن الخلق، والمسؤولية في القول، والعمل ضماناً لسلامة المصير في الدُّنيا والآخرة.

إنّك عندما تقرأ أيّ دعاء من أدعية الإمام السجاد (عليه السلام)، سواءٌ في ما رُوِي عنه في الصحيفة السجادية أو في غيرها، فإنّك إذا كنت واعياً للدُّعاء وأنت تقرأه، فإنّك لابدّ وأن تخرج بثقافة في العقيدة والسلوك والقيم، أو في أيِّ أمرٍ يجعلك أكثر معرفةً بالله، وأكثر وعياً للإنسان والحياة في جميع المجالات.. إنّه (عليه السلام) كان يثقّف الناس بأدعيته، كما كان يثقّف الناس بعلومه، هذه العلوم التي يجهلها الكثيرون منّا في المجال الفكري والثقافي في مواقع المعرفة كلّها، حيث تزيد كثيراً عن تراثه في الدُّعاء.. ومع الأسف، فإنّ بعض الناس يتحدّث أنّ أسلوب الإمام زين العابدين (عليه السلام) الرسالي ينحصر في الدُّعاء فقط، في حين أنّه لم يختصّ بأسلوب معيّن، بل كانت حركته العلمية تشمل جميع أبعاد العلم آنذاك، وكان الدُّعاء هو إحدى هذه الوسائل لتأكيد المفردات الفكرية والإسلامية والثقافية التي يؤكِّدها في أحاديثه الأُخرى.. ونحن نعتبر أنّ هناك تجديداً في أسلوب الدُّعاء لدى الإمام زين العابدين (عليه السلام)، لأنّه أدخل إلى الدُّعاء المفاهيم الإسلامية، ولذلك فنحن ندعو إلى دراسة أدعيته، ولا سيّما (الصحيفة السجادية)، كثروةٍ روحية تغني في حركتها النتاج الثقافي للإسلام.

وهناك من الباحثين مَن يتحدّث عن هذه الثروة الروحية الدُّعائية، فيرونها أسلوباً جديداً من أساليب الدعوة إلى الله والإصلاح الاجتماعي، من خلال ما تتضمّنه هذه الأدعية من إشارات فلسفية، ونظرات اجتماعية، ومناهج أخلاقية، وإيحاءات روحية، وخطوط إسلامية، وهذا ما يدفع بالناس لأن ينطلقوا من خلال الدُّعاء في الانفتاح على كلِّ هذه القضايا، ليفكِّروا ويهتدوا ويتحرَّكوا نحو الأهداف الكبرى التي يستهدفها الإسلام في فكره وشريعته وحركته. ولكنّنا في الوقت الذي نقدِّر فيه مواقف هؤلاء الباحثين، نتصوّر أنّ الأدعية كانت نهجاً إسلامياً في عبادة الله، والتوجيه الذاتي الروحي في الأسلوب القرآني، وفي السنّة النبويّة الشريفة، وفي تراث الإمام عليّ (عليه السلام) والأئمّة المعصومين من بعده (عليهم السلام).

إنّ القيمة الفنيّة المبدعة في أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام)، في الفكرة والأسلوب والعرض وجمالية الجوّ والإيحاء واللفتة والإيماء وروحية الفكرة، توحي كلُّها بأنّ الإمام (عليه السلام) كان يدعو من كلِّ روحه وقلبه وشعوره، وكلِّ وجوده وكيانه، تماماً كما هو الإحساس العفوي الذي يعيشه الإنسان العابد الخاشع الخاضع بين يدي ربِّه.

وهذا ما يدعونا إلى دراسة حياة الإمام السجاد (عليه السلام) دراسة شمولية على مستوى ملاحقة كلِّ نتاجه العملي والروحي والحركي في تحليل عميق دقيق وشامل، الأمر الذي يفرض على الباحثين مواجهة هذه المسؤولية في تجارب متنوّعة متعدّدة، من أجل الوصول إلى معرفة عناصر هذه الشخصية الإسلامية الكبيرة بعمقٍ ووضوحٍ وشمول.

ارسال التعليق

Top