• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«التوبة» ندم على ما كان

«التوبة» ندم على ما كان
◄قال رسول الله (ص): "كلُّ ابن آدمَ خطّاءٌ، وخيرُ الخطّائينَ التوّابون".

المؤمنُ قد يرتكبُ في حياته بعضَ الأخطاء أو السيئات، أو قد يكون قصَّرَ في جنب الله سبحانه وتعالى. ثم يندم على ما كان منه، ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى وهذه هي التوبة الواجبة على جميع الناس لقول الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النّور/ 31). إنّ الأعمار تنقضي يوماً بعد يوم فلابدّ من المبادرة بالتوبة حتى لا يفاجئك المرض أو الموت وأنت لم تُعِدّ العدّة ولم تهيّئ الزاد.

قال (ص): "الكيِّسُ مَن دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجِزُ من أتْبَعَ نفسه هواها وتمنّى على الله"، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) (التحريم/ 8).

ما هي التوبة النصوح؟ إنّها الخالصة من الشوائب التي لا غشّ فيها. فما حقيقة هذه التوبة؟ ما شروطها؟ وما علائمها؟..

حقيقة هذه التوبة تبدأ بالندم، ثم بالعَزم، وتنتهي بالإقلاع عن المعصية. أوّل أركان التوبة وأعظمها: الندَم. والندَم من أعمال القلوب وليس من أعمال اللسان ولا من أعمال الجوارح. بعض الناس يحسَب التوبة أن يقول فقط، تُبتُ إلى الله، وندمتُ على معصية الله، وعَزَمتُ على طاعة الله، وألا أعود إلى المعاصي أبداً، وبرئتُ من كلّ دينٍ يخالف دين الإسلام. هذا الكلام فقط لا يغني.. لا يكفي أن تقول: نَوَيتُ التوبة وقلبك مصرٌّ على المعصية. بل لا يكفي أن تقول: استغفر الله، وأنت عازمٌ على المعصية!..

إنّ توبة الكذّابين تخرج من أطراف ألسنتهم، وتوبة الصادقين تخرج من أعماق قلوبهم. إنّ التوبة تبدأ بذلك الندم بهذه الحسرة والحزن والأسى على ما كان من المعصية. هذا الاحتراق الداخلي هو أوّل التوبة بالندم على ما فرّط في جنب الله، على تضييعه فرائض الله، على أكله لحقوق الناس، على... هذا هو أوّل التوبة.

هذا الندم يأتي من صحوة من يقظة يجدها المؤمن في قلبه، وهذا فَضْلٌ من الله يهبه لمن يشاء من عباده. هذا الندم يأتي من كلمةٍ يسمعها، من موعظةٍ مؤثِّرة، من آية يتلوها أو يسمعها، من موقف يشاهده، من رؤيا يراها، من موتٍ عزيزٍ عليه، من حادثة تقع له أو كارثة تنزلُ به أو بأحد يعزّ عليه، من زيارة مثلاً لدار العجزة.. فيُحسُّ بنعمة الله عليه حين يرى المُبتَلين في عقولهم وأجسامهم وأعصابهم وتقصيره في جنب الله.. فيحدث من وراء ذلك الندم، فيتوب إلى الله..

إنّ على الإنسان أن يُعينَ نفسه على الندم. كيف يُعينُ نفسه؟.. يتذكّر ذنبه وعقاب الله تعالى.. يتذكّر حقّ الله تعالى عليه، وفضل الله تعالى عليه، وهو فضلٌ عظيم لا يحصيه عدٌّ ولا يُحيط به حدٌّ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/ 34). يتذكر آلاء الله تعالى التي تغمرُهُ من رأسه إلى قدمه منذ كان في المهد صبيّاً بل منذ كان جنيناً في بطن أمه، وإحسانُ الله إليه لم يفارقه لحظةً من الزمن.. يتذكر هذا، ويتذكر بجوار ذلك ما يصدُرُ منه من معصية.. خيرُ الله إليه نازلٌ وشرّه إلى الله صاعد! يتحبّب الله تعالى إليه بنعَمِهِ وهو الغنيّ عنه، ويتبغّض هو إلى الله سبحان بمعصيته وهو أفقر شيء إليه!..

يا أخي، كلّ ما ترى من شرور نفسك أو أهلِكَ أو مالِكَ أو ولدِك أو المجتمع من حولك، أجل، كلّ ما أصاب الناس من فسادٍ وانحلالٍ سببه المعصية. إنّ الله سبحانه وتعالى لا يُنزلُ البلاء على الناس انتقاماً منهم، بل إنما يُنزل العقوبة تأديباً لهم بما فعلوا (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الرّوم/ 41)، لا يعاقبهم بكلّ شيءٍ عملوه.

ثمّ تذكّر أيها المسلم، شؤمَ المعصية في الدنيا والآخرة إذا مرّت آثارها في الدنيا ولم تتّعظ؛ فانظر إلى آثارها في الآخرة، هل تتحمّل عذاب القبر؟ هل تتحمّل عذاب جهنّم والعياذ بالله؟ تذكر الموت وسكرته.. تذكّر القبر وضمّته.. تذكّر الحساب ودقّته.. تذكّر الموقف ورحمته.. تذكّر الربّ وغضبه.. تذكّر الجنّة وما فيها من نعيمٍ، وتذكّر النار وما فيها من ألوان العذاب والخِزي.. تذكّر هذا كلّه.. تذكّر أنّك لا تستطيع أن تحتمل حرّ الشمس في يوم صيفٍ كأيامنا هذه.. تذكّر أنّك لا تستطيع أن تتحمل حرارة مصباحٍ تضع إصبعك عليه، فكيف تقوى على جحيمٍ وقودها الناس والحجارة.. تذكّر هذا كلّه فقد يُعينُك على الندم.

يا إخوتي، الإنسان العاقل إذا عرف أن شيئاً يضرّه ويهدّده بالخطر فلابدّ من أن يُقلِع عنه، ألا ترون الإنسان الذي عاشَ عمرَهُ مدخِّناً، المُبتلي بهذه الآفة التي تأكل المال والصحّة والأعصاب! إذا قال له الطبيب الحاذق الخبير بأضرار التدخين، إذا قال له وقد أصيب بقلبه: إما أن تقلع عن التدخين وإلّا أصبحت حياتك في خطر..

ماذا يفعل هذا الإنسان؟.. إنّه لا يخاطر بحياته إذا كان عاقلاً، إنهّ يقلع عن التدخين الذي اعتاد عليه عشرات السنين كما رأينا من هؤلاء ممن عاش أربعين سنةً أو أكثر وهو يدخّن، تراه يقلع عن التدخين لأنّ الطبيب قال له: التدخين مهدِّدٌ لصحّتك، وخطرٌ على حياتك.. فإذا قال طبيبك الأعظم محمّد (ص)، بل إذا قال الله تعالى لك إنّ المعاصي خطرٌ على دنياك وآخرتك، خطرٌ عليك الآن، وخطرٌ عليك في المستقبل.. أفلا تصدّق هذا الخالق؟.. أفلا تقلع عما أنت فيه من إضاعة حقّ الله ومن التقصير في جنب الله؟..

هذا هو الذي ينبغي أن يستحضره الإنسان عند ندمه؛ الاحتراق، التحسُّر على ما مضى منك، هذه هي حقيقة الندم. وقد قال بعض الصالحين: "حقيقة الندم أن تضيق عليك الأرض بما رَحُبَت، وتضيقَ عليكَ نفسُكَ".

وكما وصف الله سبحانه وتعالى أولئك التائبين في سورة التوبة: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ) (التوبة/ 118)، فوقفوا على بابه مستغفرين تائبين يتلقّون حُكمَ فيهم بصبرٍ وجَلَد وطاعة.. رضي الله عنهم.►

ارسال التعليق

Top