• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الرأسمالية المالية مرحلة تشبه النهاية!

ياسر أحمد الشنتف

الرأسمالية المالية مرحلة تشبه النهاية!

لم يتصوّر أحد من المشتغلين بالفكر الإنساني في أسوأ كوابيسه أنّ وباء عالمياً سيُحدث كلّ هذا الصخب وسيُحدث أيضاً كلّ هذا الهدوء الفجائي في الحركة العملاقة للكون بمصانعه وسُفُنه وطائراته التي أطفئت محركاتها، حيث إنّ الوباء رفع أمام الجميع إشارة مرور على الطريق السريع للحياة «قف وفكر» وكأنّ كلّ شيء وكلّ تلك السرعة كان لها أن تخضع للتأمّل حيث بدا للحظة أنّ عربة العالم فقدت فراملها وتسير نحو المجهول. تزامناً مع انتشار وباء كورونا الذي داهم العالم وما أعقبها من إغلاق ألقى بظلاله على الاقتصادات العالمية، وما شهدته مؤشرات النمو من تباطؤ للنشاط الاقتصادي وتقليص الاستثمارات، الأمر الذي تسبّب في انخفاضاً حاداً في الإنتاج والعمالة والدخل، بدأ الحديث عن الرأسمالية المالية كأحد الأسباب الرئيسية في أزمة الرأسمالية. فالرأسمالية المالية هي أحد أشكال الرأسمالية الحديثة التي جعلت الهيمنة المطلقة لرأس المال في الاقتصاد العالمي وفاضلت «مضاربة الكازينو» على الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والاقتصادية الأُخرى لسهولة وسرعة تحقيق عوائد مالية عالية، فشهدت أسواقها خلال الأعوام السابقة ازدهاراً ما زال قائماً رغم التحدّيات السياسية والاقتصادية خلال العقد الماضي، ما مكّن أصحاب الثروات من خلق نفوذ وتأثير في العملية السياسية والأهداف الاقتصادية. فالمال هو المكوّن الوحيد في مدخلات ومخرجات المعادلة، الأمر الذي شجّع طبقات المجتمع العاملة شيئاً فشيئاً للاتجاه نحو للقطاع المالي والاستثمار بالمنتجات المالية. تغول الرأسمالية المالية في السنوات الماضية والاتجاه نحوها أخذ طابع ريعي يعيش على توظيف رأس المال في الأسواق المالية وخلق نوع من العلاقة الإشكالية مع القطاع الصناعي والإنتاجي في الاقتصاد المعاصر الذي بدوره تعرّض للإهمال والنزوع عن الاستثمار. فصافي عوائد الربح على رأس المال المستثمر في الأُصول المالية أخذت تقفز بمعدلات سريعة وكبيرة بمقارنة الأرباح التي تحقّقها عوائد قطاعات الإنتاج ما يثير علامات استفهام أكبر من أن يتم تجاهلها، وأصبح الاقتصاد العالمي يتحرّك باتجاه حركة المؤشرات في البورصات العالمية صعوداً وهبوطاً، وكنتيجة لتعظيم الأرباح أزادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الدول التي أعادت بناء منظومتها السياسية والأخلاقية على قيم المساواة. ممّا لا يدع مجال للشكّ أنّ أسواق المال أصبحت تدرك مقاصد المستثمر أكثر من المستثمر نفسه، فاهتمام الشركات بنسب عوائد الربح على رأس المال وعدم الاكتراث بتطوير تقنيات تنافسية أحدث شرخاً جسيماً في النظام الاقتصادي وشجّع البعض على التحايل لإخفاء الكثير من الديون التي تستخدم في تمويل نمو الأرباح. فببساطة تقوم الشركات بالاقتراض من البنوك بسعر فائدة متدنٍ لتمويل عمليات إعادة شراء أسهمها ممّا يرفع سعر السهم وبالتالي زيادة الأرباح، وهذا ما يفسّر انتعاش أسواق المال في الوقت الذي يخفي بين طياته ركود في الإنتاج وضعف في النمو. فنمو القطاع المالي بدرجات أكبر من القطاعات السلعية والخدماتية الأُخرى يعد عبئ على النظام الاقتصادي وخطراً عليه في محاولات لحجب التمويل عن بعض القطاعات الاقتصادية الأُخرى، فالعلاقة هنا يجب أن تكون تكاملية لا تنافسية. بعد الأزمة المالية العالمية لجأت الحكومات والمصارف المركزية لاتباع سياسات نقدية غير تقليدية واسعة النطاق لتنشيط وتشجيع «الطلب» منها خفض أسعار الفائدة والتيسير الكمي وزيادة التسهيلات، والآن وفي ظل جائحة كورونا يعاود العالم استخدام نفس الأدوات لمعالجة نقص في «العرض» وهو ما يشير لتقديم نفس الحلول للشيء وعكسه. لقد فشلت السياسات النقدية بشقيها التقليدي وغير التقليدي في تحفيز الاستثمار فالشركات لم تقترض لتستثمر، إمّا لأنّها ليس بحاجة للاقتراض بسبب توافر المال، أو ضعيفة لدرجة رفض المصارف من إقراضها. فالنتيجة هي تحويل السيولة من رأس مال حقيقي يمكن استثماره في العمليات الإنتاجية إلى رأس مال وهمي - كما وصفه كارل ماركس في نقده للاقتصاد السياسي في المجلد الثالث من رأس المال - يتكوّن من أسهم وسندات وودائع وأوراق مالية. وبالنظر والتدقيق بالأرقام، أشار معهد التمويل الدولي في نوفمبر الماضي أنّ الدَّين العالمي في نهاية عام 2019 تجاوز مستويات قياسية بلغت حوالي 255 تريليون دولار، أو ثلاثة أمثال الناتج الاقتصادي السنوي للعالم. أمّا صندوق النقد الدولي فأشار إنّ الدَّين العالمي الحالي - العام والخاص - وَصل إلى 188 تريليون دولار وهو ما يعادل 230% من الناتج العالمي. هذا يعني أنّ الدَّين أصبح وسيلة أساسية للنمو الافتراضي، وأنّ المضاربة في أسواق المال أصبحت المقياس لهذا النمو، ممّا ينذر بكساد الاقتصاد العالمي وتضخم في النظام المالي الدولي. لقد بات العالم يعاني الفشل والعجز في إحداث تغيير بجوهر السياسات الاقتصادية والاجتماعية، فالتحدّيات الراهنة تختلف عن سابقاتها بالشكل والمضمون ممّا يزيدها تعقيداً وضبابية. ففي الوقت الذي نشهد إعادة تشكيل للمشهد الدولي من خلال صعود لقوى اليمين الشعبوي التي تطالب بمناهضة العولمة والعودة لحدود الدولة الوطنية، بالإضافة لتزايد التهديدات بفرض عقوبات من جانب الدول المتنفذة واتّساع دائرة الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم الصين والولايات المتحدة وتدهور التصنيف الائتماني لبعض الدول، أصبح من الضرورة اعتماد ميثاق اقتصادي عالمي جديد يُلزم دول العالم بتطبيقه ممّا يُمكن من إعادة النظر بالنُّظم الاقتصادية على أُسس وقواعد جديدة تلبّي تطلّعات شعوب العالم وتحقّق مبادئ العدالة الاجتماعية والحقّ في التنمية والمساواة. كان واضحاً أنّ حركة الرأسمالية المالية وصعودها لن تُمكّن البشرية من تحمّل السرعة التي تسير بها بل أنّ تلك كانت تهدّد بالوصول إلى الاصطدام وأن تتسبّب بكارثة لا مثيل لها وهنا فإنّ ما وفّره الوباء من لحظة تأمّل بكلِّ ما يحدث يجعلنا نرى بوضوح أنّ المسار الذي جرى بلا فرامل يقترب من النهايات.

ارسال التعليق

Top